مشروع طموح انطلق في السبعينيات محققا للإنسان أول نفاذ عبر أقطار المجموعة الشمسية لتسبح مركبتا “فوياجر1” و”فوياجر2″ في اتجاهين مختلفين في الفضاء الشاسع.. فما القصة؟
مشروع طموح انطلق في السبعينيات محققا للإنسان أول نفاذ عبر أقطار المجموعة الشمسية لتسبح مركبتا “فوياجر1” و”فوياجر2″ في اتجاهين مختلفين في الفضاء الشاسع.. فما القصة؟
مع انقضاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، بعد 6 سنوات من اندلاعها كانت هي الأسوأ في تاريخ البشرية مما شهدته من دمار وخراب، اندلع صراع آخر مغاير، حرب باردة تمثّلت ببزوغ نجمي القوتين العالميتين حينئذ أمريكا والاتحاد السوفياتي، بينما كانت جميع دول المنطقة تعاني تبعات الحرب العالمية الدامية.
ومن حسن حظ الكوكب أنّ الاقتتال هذه المرّة انتقل إلى رقعة أخرى، إلى ميدان العلوم والتكنولوجيا بدلا من استخدام العنف وقوّة السلاح، إذ سعت كلا الحكومتين في فرض سطوتها على الأخرى بواسطة الاكتشافات والاختراعات في شتى مجالات العلوم. وكان سباق اكتشاف الفضاء هو أبرز تلك الميادين التي احتدم الصراع فيها كثيرا.
ومما يُلاحظ من تلك الحقبة أنّ كلا القوتين كانتا تتباغتان بحدث فضائي مميز، فإما أن يكون الرد بنفس الصاع وبقدر الحدث، أو أنّ يكون ردا أجرأ وأشد. ابتداء من إطلاق السوفيات لأول قمر اصطناعي قمر “سبوتنيك1” وما تبعه من رد إرسال أول قمر اصطناعي أمريكي “إكسبلورر1″، ثمّ إرسال “يوري غاغارين” أول رائد فضائي روسي في عام 1961 إلى الفضاء، وهو ما كان ضربة موجعة للإدارة الأمريكية المتمثلة بالرئيس “جون ف. كينيدي” الذي توعّد هو الآخر بإرسال أول بشري إلى سطح القمر.
ومن جملة تلك المناكفات في سباق الفضاء، كانت مهمة استكشاف كواكب المجموعة الشمسية وما وراءها، وقد احتلّت أولوية قصوى بالنسبة لوكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، ويتضح ذلك من عدد الرحلات الاستكشافية والعلمية لكلا الحكومتين في تلك الفترة.
ففي سبعينيات القرن الماضي جرى تأسيس برنامج “فوياجر” العلمي مستهدفًا عملية التنقيب عن ما توارى خلف ستار المجموعة الشمسية. وقد تكفّل البرنامج بإرسال مسبارين فضائيين، “فوياجر1” و”فوياجر2″، في عام 1977 بالتحديد لاستغلال فرصة اصطفاف الكواكب العملاقة في المجموعة الشمسية على محاذاة واحدة، وعليه تسهل عملية المرور عليها واستكشافها.
ولم يكتفِ مسبارا “فوياجر” بتحقيق أعظم الإنجازات البشرية بهروبهما من جاذبية الشمس الهائلة والخروج من المجموعة الشمسية، والتحاقهما بنادي الفضاء السحيق وسط حلكة الكون، بل إنهما ما زالا قيد الخدمة بعد مرور أكثر من 40 سنة على إطلاقهما. وقد كتب المؤرخ الأمريكي “ستيفن باين” في هذا الصدد: فعل برنامج “فوياجر” ما لم يتوقعه أحد، والتقط مشاهد لم يتخيلها أحد، وعاش عمرا أطول من صانعيه.1
مسبارا “فوياجر”.. معجزتان هندسيان في السباق إلى المشتري
كأي عمل هندسي برع فيه الإنسان وأرسله إلى الفضاء، كان مسبارا فوياجر1+2 في أقصى كفاءتهما التقنية حينئذ، وقد احتوى كلّ مسبار على 65 ألف قطعة هندسية بوزن يصل إلى 722 كيلوغرام. كما حاز كل مسبار على 11 أداة علمية متعددة المهام، مثلا أجهزة لقياس الجاذبية والمجال المغناطيسي، وأخرى لكشف التركيب الكيميائي للأغلفة الجوية، وأجهزة لدراسة الشفق القطبي والجسميات المشحونة وغير ذلك.
ولضمان عمل هذه الأجهزة كان ينبغي وجود مصدر للطاقة مستمر، وبحكم المسافات الفاصلة بين المسبارين والشمس -إذ أن “فوياجر1″ سيكون على بعد 778 مليون كيلومتر، و”فوياجر2” سيكون على بعد 4.5 مليار كيلومتر من الشمس- فقد استبعدت الطاقة الشمسية لتحل الطاقة النووية بديلا لها بتوليد الكهرباء بواسطة حرارة النظائر المشعة.
ويُثنى على صاروخ “تايتان 3 إي” لعمله في رفع هاتين الأعجوبتين الهندسيتين على حدة وإرسائهما في الفضاء السحيق، كما جاء استخدامه من قبل وكالة ناسا في 7 مناسبات بين عامي 1974 و1977. ويحظى هذا الصاروخ بسمعة رفيعة من قبل مهندسي وكالة ناسا، بسبب تصميمه المميّز وكذلك للإضافة المبتكرة في قسمه العلوي، وهو ما يُطلق عليه اصطلاحا “القنطور”، وهو الانتفاخ أو النتوء البارز أسفل قمة الصاروخ، ويُستخدم في المرحلة الثالثة والأخيرة في عملية توجيه ودفع الحمولة أو المسبار.
وهذا الصاروخ يدعم 3 مراحل من “نظام الإطلاق المُستهلَك”، بحيث يتخلى شيئا فشيئا عن قطعه، فتُرمى طبقة تلو الأخرى بعد استهلاك وقودها كاملا وحتى تصل الحمولة أو المسبار إلى الارتفاع المطلوب.
وما يُعد مثيرا للتساؤل هو أنّ مسبار “فوياجر2” انطلق إلى الفضاء قبل “فوياجر1” على الرغم من التسلسل الرقمي، وذلك لأنّ ترقيمهما جاء على أساس ترتيب وصولهما إلى كوكب المشتري، لا بناءً على ترتيب إطلاقهما. فعلى الرغم من إطلاق “فوياجر1” بعد 17 يوما من إطلاق قرينه، فقد استطاع الوصول إلى المشتري بسبب اختلاف مسار رحلتيهما.2
اصطفاف مثير لكواكب المجموعة الشمسية.. فرصة نادرة
لم يكن التخطيط لبرنامج “فوياجر” بالأمر الهيّن، فتحديد مسار الرحلة الدقيق جاء بعد دراسة حثيثة لمواقع كواكب المجموعة الشمسية وتموقعها في المستقبل، وما قد لاحظه العلماء والمهندسون هو أنّ ثمّة اصطفافا مثيرا للكواكب الخارجية على وشك الحدوث في مطلع الثمانينيات، وأنّ هذا الحدث من شأنه أن يفيد الرحلة في أمرين حاسمين:
1. الذهاب إلى الكواكب العملاقة البعيدة ضمن رحلة فضائية واحدة، دون الحاجة إلى إرسال أكثر من مسبار فضائي لكل كوكب، فدورة كوكب نبتون -على سبيل المثال- حول الشمس تستغرق نحو 165 سنة، وكوكب أورانوس يستغرق 84 سنة ليتم دورة كاملة، فالجمع بينهما في رحلة واحدة ليست مهمة بسيطة.
2. من الممكن الاستفادة من الكتل الضخمة لمثل هذه الكواكب في الحصول على زخم وسرعة إضافية، وهو ما يُعرف علميًا بـ”المقلاع الجاذبي” أو “الجاذبية المساعدة”، وهو استغلال الحركة النسبية والجاذبية لأي جرم سماوي في تعديل مسار وسرعة المراكب الفضائية.
لذا كان ينبغي إرسال المسبارين بناء على هذه المحاذاة السماوية قبل موعد حدوثها بفترة فيتسنى الوصول في الوقت المناسب، ذلك بسبب المسافات الشاسعة الفاصلة بين الأرض والكواكب الأخرى. ووفقا للخطة، فقد انطلق “فوياجر1” نحو كوكب المشتري، وبالاستعانة بجاذبيته استطاع أن يغيّر مساره نحو زحل، ثم يحلّق مبتعدا عن المجموعة الشمسية. وأما “فوياجر2” فقد سلك مسارا مشابها قبل أن يتجه نحو كوكبي أورانوس ونبتون، ثمّ رحل مبتعدا خارج المجموعة الشمسية هو الآخر.
لوحة فوياجر الذهبية.. جسم تائه في الفضاء يحمل رسالة خاصة
يُعد تصميم الصواريخ والمراكب الفضائية من المهام الصعبة التي ينبغي أن تراعي عدّة أمور أساسية منها: الحجم الكلّي والسعة الداخلية وكذلك الوزن. فالأمر يخلو من أي رفاهية بالنسبة للمهندسين في شأن إرسال المستلزمات الإضافية أو الثانوية.
وفي حالة رحلة “فوياجر” الفضائية بعيدة الأجل، تكفّل عالم الفلك الأمريكي “كارل ساغان” بالأمر بعناية، إذ أعد لوحة نحاسية مطلية بالذهب تُعرف بـ”لوحة فوياجر الذهبية” في كلا المسبارين، مرفقة بعدد من التفاصيل التي تخص كوكب الأرض وبقية أعضاء المجموعة الشمسية، وكثير من التفاصيل عن الإنسان وموقع الشمس في المجرة، أملا من البشر في أن تصل رسائلنا إلى كائنات فضائية، في حالة العثور على إحدى الأسطوانتين.
لقد احتوت الأسطوانة الفونوغرافية على تسجيلات تحتوي 115 صورة، وتسجيل صوتي لكلمة “مرحبا” في 55 لغة، ومقطع فيديو مصوّر لكوكب الأرض مدته 12 دقيقة، بالإضافة إلى تسجيل موسيقي مدته 90 دقيقة.
وجرى اختيار الصور بناء على أهم التفاصيل التي ينبغي معرفتها عن الجنس البشري مثل إرسال صورة مظللة لرجلٍ وامرأة حامل بدلالة عن آلية التكاثر، وصور مفصّلة لتركيب الحمض النووي للبشر، ولقطات لعملية الأكل والشرب واللعق، وصور لعدّائين أولمبيين. ومن الأبنية اختير بناء تاج محل في الهند، وجسر البوابة الذهبية في ولاية سان فرانسيسكو الأمريكية. ومقاطع صوتية للموسيقار “موزارت” وعازف القيثارة الأعمى الأمريكي “بلايند ويلي جونسون”.3
ويكمن السر وراء طليها بالذهب في قدرته على حفظها من الأشعة، وهو ما قد يمنح الأسطوانتين عمرا يصل إلى 500 مليون سنة. وكي لا يكون الأمر مبهما لمن يعثر على اللوح، فثمّة دليل مبسّط للغاية على الأسطوانة نفسها يشرح عملية تشغيلها، ومن يتمكن من الحصول على جسم تائه في الفضاء كهذا، فسيكون بالتأكيد قادرا على التعامل مع كلّ تفاصيله.
عمالقة المجموعة الشمسية.. غوص في أسرار الكواكب العذراء
بعد مضي 15 شهرا على انطلاقه في الفضاء، تمكن “فوياجر1” من الوصول إلى كوكب المشتري، قبل أن يتبعه “فوياجر2” بمدة قصيرة، وكانت المفاجأة الأولى في الكشف عن نشاط جيولوجي على قمر “ايو”، وهي سمة كان يختص بها كوكب الأرض دون غيره من الأجرام.
ووفقا للبيانات القادمة من “فوياجر” وباستخدام تقنية التصوير بالأشعة تحت الحمراء، تبيّن تكوين المشتري من الهيدروجين وبعض الهيليوم، وكميات ضئيلة من الماء والميثان والأمونيا وبعض الصخور.
وكانت من المهام الجانبية الأخرى دراسة حلقات كوكب زحل، وقد عزز التصوير المباشر لها عن قرب رؤية الفاصل بين الأشرطة الحلقية، وقد جاءت تسميته لاحقا بـ”فاصل إنكي” (Encke Gap). وهي الفاصل الثاني بعد الفاصل الكبير بين اللقات والمعروف بفاصيل كاسيني (Cassini Division)، نسبة لمكتشفه، والذي أطلقت باسمه أيضا مركبة الفضاء الوحيدة التي وصلت زحل ودرسته سنة 2004.
وبعد نحو 5 سنوات استطاع “فوياجر2” في عام 1986 الوصول إلى المحطة التالية، أورانوس، وهو ما شبهه كثيرون بأنّه كوكب مليء بالغموض. وأظهرت الصور القادمة كوكبا بدا كحجر الزبرجد بلونه الأزرق الباهت، وأنّ له درجة حرارة لغلافه الجوي تساوي 216 درجة مئوية تحت الصفر.
وفي آخر محطات الكواكب العملاقة وفي عام 1989، كان كوكب نبتون يقف في عزلة الكون، وقد بان بريقه واتضح وجود 6 أقمار له، بالإضافة إلى حلقات حول خاصرته لم تكن مرئية على كوكب الأرض. وعلى بعد 4.5 مليار سنة استطاع العلماء تسجيل نشاط بركاني غير متوقع على سطحه.
وبعد أن أتم كلا المسبارين مهمتي التنقيب والكشف عن الكواكب الأربعة الضخمة، انتقلا إلى طورهما الجديد، وهو الخوض في دهاليز الفضاء وسبر أغوار الكون، ففي عام 2012 -أي بعد نحو 35 عاما من بدء المهمة- استطاع “فوياجر1” بشكل رسمي أن يتجاوز حدود المجموعة الشمسية، ليعلن نفسه رسميا أوّل جسم يصنعه الإنسان يخترق الآفاق ويصل إلى هذا الحد.4
“على هذه الذرة من الغبار المُعلقة في شعاع شمس”
لقد كان احتفاء عظيما رافقه كثير من اللحظات المؤثرة، ففي هذه اللحظة تشرع عملية إغلاق جميع الأجهزة على متنه للحفاظ على الطاقة المتبقية من المسبار، وكما هو مخطط له سيكون عام 2025 آخر موعد إنهاء خدمة آخر الأدوات العلمية، ولن يبقى سوى جهاز مستشعر لاستقبال وإرسال إشارات إلكترونية خافتة لتحديد الموقع. والمسافة الفاصلة بيننا كما تشير أرقام “فوياجر1” الآن لحظة كتابة هذا المقال تساوي 23 مليارا و403 ملايين كيلومتر.5
ومن إرث ما تركه مسبار “فوياجر1” تلك الصورة الفوتوغرافية الملتقطة في عام 1990 من مسافة قياسية تبعد عنّا 6 مليارات كيلومتر، وفيها يظهر كوكب الأرض نقطة صغيرة أصغر من حجم البكسل الواحد، وسط حزم من الأشعة الضوئية للشمس المتناثرة على عدسة الكاميرا.
في تلك النقطة الضئيلة التي وصفها “كارل ساغان” بـ”النقطة الزرقاء الباهتة” ظهر كوكب الأرض في عزلة موحشة، يسبح في كون عظيم، وعليه عاش كلّ كائن ومخلوق عرفته البشرية. وقد جاء وصف ساغان لهذه النقطة الباهتة في ذلك الفضاء البعيد وصفا إنسانيا جميلا، حيث يقول:
“من تلك البقعة البعيدة الممتازة قد لا تبدو لكوكب الأرض أي أهمية خاصة. ولكن بالنسبة لنا فالأمر مختلف. انظر مرة أخرى إلى هذه النقطة. إنه هناك: الوطن، ها نحن، عليها يوجد كل من تحبه، كل من تعرفه، كل من سمعت عنه، كل إنسان كان موجودا في أي وقت، هي جملة أفراحنا ومعاناتنا، آلاف الأديان والمدارس الفكرية والمذاهب الاقتصادية الواثقة، كل صياد أو رحالة، كل بطل أو جبان، كل بانٍ أو مدمر للحضارة، كل ملك أو فلاح، كل زوجين شابين متحابين، كل أم وكل أب، كل طفل واعد، كل مخترع ومكتشف، كل معلم للأخلاق، كل سياسي فاسد، كل مشهور، كل قائد أعلى، كل قديس أو آثم في تاريخ نوعنا قد عاش هنا على هذه الذرة من الغبار المُعلقة في شعاع شمس.
إن كوكب الأرض هو العالم الوحيد المعروف حتى الآن كمأوى للحياة، ولا يوجد أي مكان آخر يمكن أن يُهاجر إليه نوعنا في المستقبل القريب. إننا نقدر فقط على القيام بزيارات للفضاء، أمّا الاستقرار فليس متاحا بعد. وعلى أي حال، فكوكب الأرض -سواء رضينا أم لم نرض- هو مقامنا.
لقد قيل إن علم الفلك خبرة متواضعة تبني الشخصية، وربما لا يوجد توضيح لحماقة تصورات الإنسان أفضل هذه من الصورة المأخوذة عن بعد لعالمنا الصغير. وبالنسبة لي، فإن هذه الصورة تؤكد مسؤوليتنا في التعامل مع بعضنا بمزيد من الرعاية والعطف، ومسؤوليتنا في حماية هذه النقطة الزرقاء الباهتة والاعتزاز بها، فهي الوطن الوحيد الذي عرفناه”.6
وبهذه المناسبة، وبعد مرور 30 عاما على هذه الصورة (14 فبراير/شباط 1990-2020)، أطلق الاتحاد الفلكي الدولي احتفالية عالمية تحت عنوان “الأرض.. نقطة زرقاء باهتة”، فاحتفل هواة الفلك حول العالم بذكرى تلك الصورة الرائعة.
المصدر: مواقع إلكترونية