“عشرة آلاف ليلة في الأدغال”.. مقاتل يرفض استسلام اليابان 30 عاما والدفاع عنها رغم الخسارة أمام العدو
قصة لا تصدق على الرغم من أنها جرت فعلا في اليابان نهاية الحرب العالمية الثانية، نوع يثير الخيال لما يلفه من غرابة.
إنها حكاية نادرة تشبه الأساطير، وكأنها مغامرة “دون كيشوت” أو “روبنسون كروزو”، لكنها تُقدّم اليوم فقط بعد نصف قرن في السينما، وحين يقرر مخرج فرنسي تناولها سينمائيا للمرة الأولى فليس هذا لأنها عن الحرب، بل لتعمقها في تعقيدات النفس الإنسانية ودوافعها، ولما تثيره من تساؤلات حول الحقيقة، ومن تأمل في معاني الالتزام والتضحية والإيمان بالنفس والوطن.
“أونودا.. عشرة آلاف ليلة في الأدغال” (Onoda: 10,000 Nights in the Jungle) الذي أخرجه الفرنسي “آرتور آراري” (2021) هو فيلم عن المقاتل ما قبل الأخير للجنود اليابانيين الذين بقوا يحاربون بعد استسلام اليابان عام 1945، ويدور حول جندي ظل متخفيا في الأدغال 30 عاما قبل أن ينتهي به الأمر لقبول رمي السلاح والعودة للحياة الطبيعية عام 1974.
“أن لا يقبل بالموت ولا الاستسلام نهاية له مهما حصل”
قبل الإنزال الأمريكي وإعلان هزيمة اليابان في الحرب بقليل، يُرسل الياباني “هيرو أونودا” عام 1944 بأمر من رائد غامض يُدعى “تانيغوتشي” في مهمة إلى جزيرة لوبانغ في الفيلبين.
كان الشاب الملازم منتسبا إلى مدرسة عسكرية خاصة توزع مهاما سرية على أفرادها، وبعد فشله في أن يصبح طيارا أثار تصميمه على تفادي الموت انتباه معلمه، فقد توسّم في هذه الخصلة قوة يمكن التعويل عليها في مهمات خاصة، وبعد إجراء دورة تدريبية له يُكلَّف بمهمة لها هدف وحيد “أن لا يقبل بالموت ولا الاستسلام نهاية له مهما حصل”.
في الجزيرة يقع “أونودا” على مجموعات متفرقة من الجنود اليابانيين متمركزة هناك، ستكون عليه قيادتهم حسب المهمة السرية التي أوكلت إليه، ومع أن الحرب بالنسبة للإمبراطورية اليابانية كانت على وشك الانتهاء، ومعها سيأتي الإعلان عن الهزيمة؛ فإن الملازم “أونودا” يقرر متابعة مهمته.
شرف الحفاظ على الحياة في المعركة.. وصايا الرائد المعلم
بعد توقيع اليابان الإقرار بهزيمتها والاستسلام عام 1945 تقرر مجموعة عسكرية بتحريض من “أونودا” الانسحاب معه نحو الأدغال الفلبينية ومتابعة المقاومة، على الرغم من النداءات الموجهة لمن بقي من جنود يابانيين للاستسلام.
“أونودا” يؤمن بما قاله الرائد المعلم من أن الشرف الحقيقي لا يكمن في الموت في المعركة مثل أي انتحاري، بل في البقاء على قيد الحياة، لأن الجسد يصبح هو الوطن، والحفاظ على الحياة هو الشرف بعينه.
هذه المرجعيات الأخلاقية التي توّجه مسارات الشخصية تجعله يبقى في الأدغال 30 عاما، لقد استطاع إقناع بعض الجنود في البداية بالبقاء معه بقوة إيمانه بمهمته النبيلة ومثاليته، لكن هؤلاء ما يلبثون أن يختفوا واحدا تلو آخر، إما بسبب قرارهم الاستسلام، وإما لإصاباتهم في المعارك النهائية التي يصرون عليها، ليبقى “أونودا” في النهاية وحيدا، قبل أن ينتهي الأمر به للقبول ورمي السلاح بعد 30 سنة.
حروب الجيوش السرية.. عقيدة ترفض استسلام اليابان
قد يبدو عناد “أونودا” إصرارا غريبا بل مجنونا، لكن الإخراج يصوّر الشخصية بطريقة تجعل التعاطف معها أمرا تلقائيا بكل ما تمثله من معان نبيلة، فقد كانت لديه الرغبة بالاعتقاد لوقت أطول من الآخرين بأن الحرب لم تنته، وبأن اليابان سيكون منتصرا. لقد بقي مؤمنا أنه يقاوم الأمريكيين، يحاول الاختباء عن عدو متخيل لم يعد موجودا إلا في ذهنه، يعيش في الطبيعة، بل يصبح جزءا منها.
في البداية لم يكن يعلم باستسلام وطنه، بل لاحظ فقط الإنزال الأمريكي في الجزيرة، ثمّ حين تيقّن من الخبر بفضل الراديو رفض أن يصدق، فقد تعلّم أن الحرب السرية التي تقودها جيوش سرية هي الحقيقية، وعليه أن يكون حذرا مما يرى ويسمع.
لقد جاءته عدة فرص للخروج من عزلته ليقتنع أن الحرب انتهت، وأن اليابان هزمت، ليعود للحياة الطبيعية، إحداها من والده الذي قدم للجزيرة الفيليبينية مع عَلم اليابان ومسؤولين لدعوته للخروج عبر مكبرات الصوت، لكنه كان يرفضها باستمرار.
وفي النهاية يتلقى زيارة من شاب صحفي يقنعه بالاستسلام والظهور فيقبل، لكن ليس دون شرط وحيد سيخلصه من تعهده الماضي، لكن لماذا هذا الإصرار وهذا التجاهل للواقع؟
فناء الجنود والالتحام بالطبيعة.. تعمق الشخصية في عوالم الخيال
الشخصية أبعد ما تكون عن الجنون، فهي رسمت لنفسها عالما في الخيال سينقذها من الجنون ونتائج الحرب المهولة من الهزيمة، ويجسّد “أونودا” هذا المفهوم بقوة، فالحقيقة ليست مهمة في مواجهة القلق الحقيقي، فالخيال هو الحياة، وهو طريق الخلاص والأمل الوحيد كي لا يغرق ومصدر راحة.
يحاول “أونودا” إكمال عيشه في الأدغال مع صديق بقي معه إلى ما قبل النهاية بسنتين، يتحمل مخاطر الطبيعة، ويبني فيها، ويبني في شخصيته، يتعامل بإنسانية مع الجنود الآخرين، وينسج معهم علاقات صداقة، ويحاول الاحتفال بذكرى هؤلاء الذي رحلوا فداء للوطن، فيقيم نصبا تذكاريا لهم، وكلما تقدم السرد فرغ عالمه من الناس، والتحم جسده أكثر بالطبيعة، وابتعد أكثر عن الواقع وعن الحاضر ليعيش في الماضي مع رفاقه الذين رحلوا، وفي المستقبل مع آماله بانتصار اليابان.
إن الاستسلام يمثل له أيضا انهيار العالم القديم الذي بات ينكر مطالبه، بل ويعطي أوامر متناقضة (كلهم يأتون -حتى معلمه الذي أعطاه التعاليم- لإقناعه بالتخلي).
يقدم المخرج شخصية غنية عميقة تبعث مواقفها على تساؤلات وجودية ومصيرية لا تنتهي، يبديها ببساطة دون كثير من النقاش. تكفي المشاهد والمواقف للدلالة عليها ومحاولة فهمها.
شكوك كثيرة أيضا تسيطر منذ البداية، وأسئلة إضافية عن هذه الشخصية الغريبة، أكانت تنشد البطولة، أم احترام الذات أم الوفاء بالتعهد، وهذا ما يثبته المشهد الأخير؟ أم أنه هروب من قبول الواقع المهين ورفض للهزيمة وللاستسلام؟
أونودا.. بطل أعاد اختراع واقعه وحقيقته
تتمازج في الفيلم معان عدة ويسيطر بعضها على حساب بعض آخر بحسب نظرة المتلقي وما يهمه هو في الفيلم، قد يجد بعض المشاهدين أن الوفاء لفكرة أو لشخص أو للوطن وللضمير هو المحرك الرئيسي للشخصية، وذلك نتيجة كل ما تراكم في المخيلة عن الشخصية اليابانية من خلال الأدب أو السينما، وقد يميل بعض آخر أكثر إلى فكرة رفض “أونودا” الواقع، فخياله يسمح له بتصور عالم خال من الهزيمة والعار، ويصوّر له عالما يتماشى مع تطلعاته، وما يبدو جنونا للآخرين يسمح له بعدم الإذعان ومواجهة واقع مزر لا يحتمله.
كان يمكن للبطل “أونودا” أن يستسلم وقد يصاب بعدها بالجنون، أو يدان بالقتل من الأمريكيين، لكنه أصبح بطلا أعاد اختراع واقعه وحقيقته، وبات يمثل كل ما يجعل منه أسطورة. هذا ما يبرع الفيلم في تصويره مع مسارات للسرد الحدثي تتلاقى مع المعاني المنشودة.
لقد صُوِّر الفيلم في كمبوديا، حيث أعيد تركيب المناظر، وساهمت اللقطات الواسعة التي استخدمت بكثرة في إظهار محيط خصب باخضراره، لكنه موحش بفراغه، كأنها جزيرة مهجورة مع أنها لم تكن، مما زاد في الإيحاء بعزلة الشخصيات.
وقد اختار المخرج ممثلين يابانيين وأدارهم بإتقان مدهش، بحيث يصعب القول إن الفيلم إخراج فرنسي وليس ياباني. تجلى هذا في إدراكه التام للشخصية اليابانية من حيث طريقتها في التعبير عن انفعالاتها بأسلوبها الخاص.
“حربي في 30 سنة على جزيرة لوبانغ”.. من الورق إلى السينما
هذا هو الفيلم الثاني للمخرج “آرتور آراري”، وهو فيلم ذو أبعاد نادرا ما نراها في السينما الفرنسية، إنه مليء بالانفعالات والشاعرية والتأمل.
ليس فيلما عن الحرب يماثل إنتاجات الأفلام الحربية، صحيح قد يبدو في بعض مشاهده وشخصياته كفيلم حربيّ، لكنه فيلم يهتم أكثر بالجانب الإنساني ومعاني الشرف والإيمان والصداقة والعزلة، فيلم لا تهم فيه الحقيقة.
فالمخرج كان ينوي القيام بفيلم مغامرات، لكن حديثا مع والده أخبره فيه عن قصة حقيقية لجندي ياباني بقي 30 سنة في جزيرة فليبينية جعلته يهتم فورا بها، ويبحث عن وثائق ومعلومات، إلى أن وقع على كتاب “أونودا، في الحرب وحيدا في الأدغال” لـ”برنار سندرون” و”جيرار شنو”، فالتقى بأحد الكاتبين وكتب السيناريو، ثم قرأ سيرة كتبها “أونودا” نفسه بعنوان: “حربي في 30 سنة على جزيرة لوبانغ”.
غادر “أونودا” الحياة في طوكيو عام 2014 عن عمر ناهز 91 عاما.
المصدر: الجزيرة