هل تسعى الصين إلى استغلال مبادرة الحزام والطريق لتصبح أكبر “قاطع طريق” في العالم؟.. فما أسرار الخطة الصينية؟
هل قرأت من قبل في كتب التاريخ عن طريق الحرير الذي كان يمثّل شريان حياة بري للتجارة بين الصين ودول العالم الأخرى لأكثر من 2000 عام، وهل سمعت خلال السنوات الأخيرة عن طريق الحرير الجديد الذي تسعى الصين إلى إنجازه منذ نحو 10 سنوات.
أعلن الرئيس الصيني (شي جين بينغ) عام 2013 عن إحياء الطريق تحت اسم جديد وهو مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، وقد وصفته الحكومة الصينية بأنه “مشروع القرن”.
ومن خلال المشروع الذي يُعرف أيضًا باسم مبادرة الحزام والطريق، تسعى الصين إلى ربط أجزاء كبيرة من العالم من خلال شبكات هائلة من الخطوط الحديدية، والطرق السريعة، والأنابيب، والتقنية الرقمية، بالإضافة إلى مشاريع أخرى من البنية التحتية.
ومنذ الإعلان عن المبادرة، رأى العالم فيها مَخلصاً لها من أزماتها الاقتصادية من خلال إنشاء البنية التحتية اللازمة لإتمام المشروع في الصين، وفي الدول التي سيمر منها الطريق، ولكن في الوقت نفسه، تخوّف كثيرون من أنه سيشكل خطرًا إستراتيجيًا بالنظر إلى النوايا غير الواضحة من قِبل الصين، خاصةً أن المشروع يحظى بدعم لا محدود من الحزب الشيوعي الصيني السيء السمعة.
ومع أن سلسلة من الوثائق والخطابات رفيعة المستوى للحزب من قبل كبار القادة توضح أن مبادرة الحزام والطريق جزء أساسي من جهود الصين لتحقيق “التجديد الوطني” وخلق ما يسميه الحزب “مجتمع المصير المشترك” عبر المحيطين الهندي والهادئ وما وراءهما، إلا أنه بمراجعة مشاريع مبادرة الحزام والطريق، يرى محللون أن لها آثار جيوسياسية واضحة.
فمع أن هذه المشاريع ذات أهداف اقتصادية بالدرجة الأولى، إلا أنها تسمح لبكين بإعادة تشكيل الجغرافيا الإستراتيجية والرقمية للعالم، ووضع الصين في موقع الصدارة والهيمنة من خلال الاستثمارات التي تقوم بها في الدول التي تحتضن مشاريع المبادرة.
وبدا ذلك جليًا بعد أن استخدمت الصين (جيش التحرير الشعبي) لحماية بعض مشاريع الموانئ والسكك الحديدة، والسيطرة عليها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من مشاريع المبادرة الرقمية تتيح للصين إمكانية الوصول إلى البنية التحتية للاتصالات، الأمر الذي يشكل خطرًا على الأمن الرقمي من خلال إمكانية استغلال تلك المشاريع للتجسس.
تحديات مشاريع مبادرة الحزام والطريق بعد الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق لأول مرة، رحّبت العديد من البلدان التي تبحث عن منقذ لها يستثمر مبالغ طائلة في البنية التحتية اللازمة لإنعاش اقتصاداتها.
وبالنظر إلى قوة الصين في مجال الاقتصاد، وتمكنها خلال العقود الماضية من إحداث نمو هائل جعلها في المرتبة الثانية عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الاقتصاد، كانت التوقعات بشأن المبادرة مرتفعة عامةً، حتى في ظل الشكوك المستمرة التي تبديها دول، مثل: اليابان، والهند، والولايات المتحدة.
والآن بعد نحو 10 سنوات، أصبح من الواضح أن المشروع يشكل خطرًا إستراتيجيًا، وقد بدأ يواجه ردًا عنيفًا من قِبل بعض الدول.
بدأ مشروع الحزام والطريق بوصفه برنامجًا يركز على المحيطين الهندي والهادئ، ولا عجب في أن هذه المنطقة هي المجال الذي أصبحت فيه تحدياته أكثر وضوحًا.
وكنتيجة مباشرة لهذه التحديات، اختار عدد من الدول تقليص المشروعات أو تأجيلها، حيث تسعى معظم هذه الدول نفسها إلى إعادة التفاوض بشأن الشروط المالية.
فعلى سبيل المثال، اختارت بنغلاديش عام 2016 إلغاء التعاون مع الصين بشأن أول ميناء للمياه العميقة في البلاد واختارت بدلًا من ذلك العمل مع اليابان. وألغت نيبال مشروع سد لتوليد الطاقة الكهرومائية مع الصين بسبب مخاوف بشأن التكاليف المبالغ فيها.
وبالمثل، ألغت بورما مشروع سد مع الصين، وقلّصت بدرجة كبيرة مشروع ميناء رئيسي. وطلبت جزر المالديف إعادة التفاوض بشأن مشاريع الحزام والطريق بعد تغير سياسي في البلاد.
وقاد انتقال سياسي مماثل ماليزيا إلى إلغاء ثلاثة مشاريع خطوط أنابيب صينية وإعادة تقييم مشروع سكك حديدية بقيمة 20 مليار دولار، و السبب أيضاً تلك المخاوف بشأن التكاليف الباهظة.
وحتى باكستان، الشريك الأقرب للصين، ألغت مشروع سد بقيمة 14 مليار دولار حيث تسعى حكومتها إلى إعادة التفاوض على الشروط المالية للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
وأثارت مبادرة الحزام والطريق أيضًا مخاوف خارج آسيا، حيث أصبحت أوغندا مدينةً للصين بمبلغ 3 مليارات دولار لمشاريع السدود والطرق السريعة التي تهاجمها المعارضة السياسية الأوغندية بسبب الافتقار إلى المناقصات التنافسية، والتكاليف الباهظة، وعيوب البناء.
وتأثرت السياسة الكينية بمخاوف الفساد في مشاريع البنية التحتية الصينية، وأدت المخاوف بشأن الصعوبة التي تواجهها زامبيا في سداد القروض الصينية إلى نقاش محلي بشأن احتمال أن تفقد الدولة السيطرة التشغيلية على بنيتها التحتية الحيوية.
وفي حين أن بعض الدول لم ترضخ لشروط الصين الصعبة، نجد أن العديد منها تعجز عن أن تنأى بنفسها عن الصين، وذلك لأسباب مالية، أو أسباب سياسية محلية، خاصةً في تلك التي تتمتع فيها الصين بنفوذ قوي.
فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن سريلانكا صوّتت ضد الرئيس السابق (ماهيندا راجاباكسا) بسبب رغبته في جعل سريلانكا مدينة للصين، إلا أنه لم يكن أمام خليفته الموالي للهند (مايثريبالا سيريسينا) أي خيار سوى منح الصين عقد إيجار لمدة 99 عامًا على ميناء هامبانتوتا بعد أن ثبت أنه غير قادر على سداد مبلغ 1.4 مليار دولار.
ثم ما لبث أن اختار التقارب مع الصين وجرّ على البلاد دينًا آخر بمبلغ مليار دولار لبناء الطرق السريعة. ولكي يزداد الوضع سوءًا، أعلنت سريلانكا قبل أيام عن إفلاسها، الأمر الذي قد يجبرها على مدّ يد الحاجة إلى الصين، وبالتالي قد تزيد الأخيرة من سيطرتها على الجزيرة الواقعة في المحيط الهادئ، والتي تشكل إحدى أهم محطات مبادرة الحزام والطريق.
يُشار إلى أنه سبق للصين أن استغلت حاجة بعض الدول الفقيرة، خاصةً في قارة أفريقيا، إلى الدعم المالي للهيمنة على القرار فيها لاحقًا، إذ إنها تقدم لها ديونًا تعلم أنها لا تستطيع الوفاء بها بسهولة، وها هي ذا الآن قد تفعل الشيء ذاته مع سيرلانكا ذات الموقع الإستراتيجي.
وبحسب تقرير نشره في شهر نيسان/أبريل 2019 (مركز الأمن الأمريكي الجديد)، وهو منظمة مستقلة غير ربحية تُعنى بوضع سياسات الدفاع والأمن، فإن جذور الانتكاسات التي يواجهها مشروع الحزام والطريق تكمن في تزايد المخاوف السياسية والاقتصادية والأمنية في البلدان التي تحتضن مشاريع، وهي تقع في سبع فئات تقريبًا.
وتتحدث تلك الدول على نحو متزايد أن المشاريع: تقوض السيادة، وغير شفافة، وغير مستدامة ماليًا، ومنفصلة عن الواقع المحلي، ومحفوفة بالمخاطر الجيوسياسية، وغير مستدامة بيئيًا، وتُفسد المؤسسات المحلية.
دعونا هنا نركز على التحديات المتعلقة بعدم الشفافية، والمحفوفة بالمخاطر الأمنية، خاصةً تلك المتعلقة بالأمن القومي للدول المستضيفة للمشاريع.
عدم الشفافية في كثير من الحالات، تتميز مشاريع الحزام والطريق بعمليات مناقصة مبهمة وشروط لا يتم الإعلان عنها لأصحاب المصلحة في البلدان المستضيفة للمشاريع.
وتزايدت المخاوف بشأن الافتقار إلى الشفافية وما تلاه من عدم القدرة على محاسبة القادة السياسيين في أكثر من اثنتي عشرة دولة، بما في ذلك: ماليزيا في جنوب شرق آسيا؛ وسريلانكا، ونيبال، وبنغلاديش، وجزر المالديف في جنوب آسيا؛ وكينيا، وأوغندا، وزامبيا في أفريقيا؛ وفنزويلا والإكوادور في أمريكا اللاتينية، إضافةً إلى العديد من الدول الأخرى. حتى باكستان أثارت مخاوف بشأن العقود التي لا تتضمن مناقصات، والشروط المبهمة، مما دفع باتجاه إعادة التفاوض.
ومن أبرز الحالات على عدم الشفافية هي (اتفاقية الـ 25 عامًا الإيرانية-الصينية)، وهي اتفاقية تعاون تجاري وإستراتيجي مدتها 25 عامًا بين إيران والصين بهدف تعزيز العلاقات بين البلدين، وقد وُقِّع عليها بالعاصمة الإيرانية طهران في 27 آذار/ مارس 2021، دون أن يُعلن عن تفاصيلها النهائية.
وبالنظر إلى أن الدولتين لم تُعلنا عن التفاصيل النهائية للاتفاقية، فإن المعلومات المتعلقة بها تقتصر على ما نقلته وسائل إعلام غريبة. فبحسب مسودة الاتفاقية التي حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز، والتي وُقِّع عليها بالعاصمة الصينية بكين في 24 حزيران/ يونيو 2020، فمن المقرر أن تستثمر الصين 400 مليار دولار أمريكي في الاقتصاد الإيراني خلال المدة الزمنية للاتفاقية، وذلك مقابل أن تمد إيران الصين بإمدادات ثابتة وبأسعار منخفضة للغاية من النفط.
وذكرت مجلة (بتروليوم إيكونوميست) أن الاتفاقية تتضمن ما يصل إلى 280 مليار دولار أمريكي لتطوير قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات في إيران واستثمارات أخرى بقيمة 120 مليار دولار لتحديث البنية التحتية للنقل والتصنيع في إيران.
ووفقًا لوسائل الإعلام الحكومية الإيرانية، فإن الاتفاقية تُدخل إيران ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية. المخاطر الأمنية استعرضنا في تقرير سابق أن الصين أطلقت عام 2015 طريق الحرير الرقمي بوصفه عنصرًا من عناصر “مبادرة الحزام والطريق”، وذكرنا أن الهدف منه هو تحسين الاتصال الرقمي في البلدان المشاركة، كما يهدف إلى تطوير وإمكانية التشغيل البَيني للبنية التحتية الرقمية الحيوية؛ مثل: كابلات البيانات الأرضية والبحرية، وشبكات الجيل الخامس الخلوية، ومراكز تخزين البيانات، وأنظمة الملاحة عبر الأقمار الصناعية العالمية.
وتهدف الصين أيضًا من خلال طريق الحرير الرقمي إلى تعزيز الاتصالات بين الشركات المحلية والمستهلكين وبين الشركات الصينية الكبرى والمستهلكين.
وتشمل الأمثلة على ذلك: التجارة الإلكترونية، وأنظمة طلب سيارات الأجهزة الرقمية، والتقنية المالية، ومنصات تقنيات التعليم وتطبيقاتها، بالإضافة إلى الأجهزة المحمولة، مثل: أجهزة التوجيه، والهواتف الذكية، والحواسيب.
ونلاحظ من هذه الأهداف أن الصين تسعى إلى الهيمنة الرقمية على العديد من دول العالم، خاصةً أن الرئيس الصيني (شي جين بينغ) كان قد دعا بلاده إلى قيادة التصنيع المتقدم بحلول عام 2025، وقيادة وضع المعايير للتقنيات الجديدة بحلول عام 2035، وأن تصبح البلد قوة عظمى بحلول عام 2050.
وواجهت هذه المساعي من الصين رد فعل عنيفًا من الولايات المتحدة، التي أدرجت شركات صينية، أبرزها: هواوي، و ZTE إلى القائمة السوداء التي تمنع الشركات الأمريكية من التعامل معها، والسبب في ذلك أن المسؤولون الأمريكيون يعتقدون بأن شركات هواوي، التي تهيمن على سوق اتصالات شبكات الجيل الخامس، قد تسمح للسلطات الصينية باستخدام معداتها في التجسس على الدول التي تستخدمها، وهو اتهام نفته هواوي مرارًا وتكرارًا.
ومن أبرز الحالات على هذا الخطر الذي يمثله استخدام معدات شركة هواوي هو ما حدث في شهر آب/أغسطس الماضي، حينما رفعت شركة المقاولات الأمريكية Business Efficiency Solutions دعوى قضائية ضد هواوي في محكمة فيدرالية أمريكية، وزعمت فيها أن هواوي قد سرقت تقنيتها وضغطت عليها لإنشاء “باب خلفي” للوصول إلى مشروع من مشاريع إنفاذ القانون في باكستان.
وقالت شركة المقاولات في الدعوى القضائية التي رفعتها إن هواوي أجبرتها على إنشاء نظام من شأنه أن يمنح الشركة الصينية الوصول إلى معلومات حساسة عن الباكستانيين والمسؤولين الحكوميين من خلال مشروع “المدينة الآمنة” للمراقبة المدعوم من الصين، والذي تم تثبيته في لاهور، ثاني أكبر مدينة في باكستان.
وكانت هواوي قد أبرمت عام 2019 صفقة بقيمة مليار دولار مع أوزبكستان لبناء نظام واسع النطاق لمراقبة حركة المرور، وتعد شركة (هيكفيجين) Hikvision، التي طوّرت برنامجًا للتعرف على الوجه يمكن أن يستهدف مجموعة الأويغور، مورّدًا رئيسيًا للمدن في جميع أنحاء كازاخستان.
وتحول مركز قيادة الشرطة الذي افُتُتح في عام 2019 في بيشكيك، عاصمة قيرغيزستان، أيضًا إلى الشركات الصينية من أجل الحصول على كاميرات التّعرف على الوجه.
وبالنظر إلى سجل الصين في التعامل مع الإيغور، فيبدو أن هيمنتها على قطاع التقنية والاتصالات في الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق يزيد من قدرتها على التجسس على الحكومات والشعوب هناك، على نحو يجعل تلك الدول ترضخ للشروط المجحفة التي قد تفرضها الصين في سبيل سعيها إلى إتمام المشروع.
الخاتمة
قد يكون الهدف الرئيسي للصين هو ربط العالم ببعضه من خلال مبادرة الحزام والطريق التي ستزيد من قوتها الاقتصادية، ولكن يبدو أن هيمنتها على مجالات أخرى في ظل التحديات المذكورة آنفًا، خاصةً فيما يتعلق بالشفافية والاتصالات، سيُحوّل الصين من قائد طريق الحرير الجديد إلى “قاطع طريق” يسرق مقدّرات الشعوب وثرواتها ويبتزّها من خلال التجسس عليها.