إنّها صورة مخترع المصباح “توماس أديسون” النمطية التي يظهر بها مرتديا بزّة رسمية وبيده المصباح المصنوع من خيوط الكربون العتيق، ينظر بعينين شاخصتين إلى عدسة التصوير، ولربّما حملت الصورة بعض العبارات المنمقة مثل الرجل الذي أضاء العالم، أو عبارات تحفيزية تتحدث عن الأمل والمثابرة وحادثة الألف اختراع. بالطبع بعيدا عن التطرق إلى الخلاف الواقع في أحقية نسبة براءة اختراع المصابيح الكهربائية، سواءً لـ”أديسون” أو للمخترع الفذ “نيكولا تسلا”.
لقد أضاء هذا الرجل العالم، ودخلت مصابيحه حيز التنفيذ في عام 1879، وتفشت بين البشر كانتشار النار في الهشيم، ومرّت على كل عواصم العالم، ولا سيما تلك العواصم التجارية التي لا بد أن تنعم بقدر كاف من الحيوية والنشاط في الليل قبل النهار، لكن لم يُلاحَظ أثر هذه الإضاءة المفرطة غير المحكمة إلا لاحقا، وكما أنها نعمة، فإنها كذلك نقمة على الكوكب وكائناته الحية بما في ذلك الإنسان.
إن الإضاءة الصناعية المفرطة تؤثر سلبا على أنماط الحياة على الأرض، خصوصا على النظام البيئي الليلي، وعلى صحة وسلامة المخلوقات الحية التي تنشط أو تستقر وتستكين في الليل.
وتتجاوز آثاره البليغة كل ذلك وتصل إلى صحة الإنسان ذاته وسلامته النفسية، إذ تشير بعض الدراسات إلى أنّ الاضطراب العاطفي الموسمي مرتبط بانخفاض حاد في التعرض إلى الإضاءة الطبيعية واستبدالها بالإضاءة الاصطناعية التي تفتقر إلى عناصر طبيعية هامة مثل فيتامين د.1
ويُعد الإفراط في الإضاءة نمطا من أنماط التلوث الضوئي، بالإضافة إلى أنواع أخرى مثل الوهج المشع والفوضى الضوئية وأنواع أخرى سنتطرق إليها.
إنتاج الإضاءة الليلية الطبيعية.. تكيف الكائنات منذ ملايين السنين
منذ العصور الغابرة لم يمر على كوكب الأرض وسمائه يوما وكانا به معتمين، فلطالما حظي كلاهما بقدرات خاصة تمنحهما الإضاءة الطبيعية المناسبة ليلا، وذلك بواسطة بعض الحيوانات التي تنشط ليلا أو الغلاف الجوي وقدرته على امتصاص الضوء وتشتيته، أو حتى أثر ضوء القمر على الأرض.
ولبعض الحيوانات قدرة خاصة في إنتاج الضوء، وذلك بطريقتين: إما بواسطة عملية الاستشعاع الحيوي، وهي قدرة الكائنات الحية على امتصاص الضوء وعكسه عندما يتوافق الطول الموجي، أو بواسطة عملية الإضاءة الحيوية الذاتية، وهي قدرة المخلوقات الحية على إنتاج الضوء ذاتيا عبر التفاعلات الكيميائية، وذلك عندما تتحد مادة اللوسيفرين -وهي فئة خاصة من البروتينات- مع الأوكسيجين، لينتج عنهما مركب أوكسيد اللوسيفرين المضيء.2
تنتج من هذه العملية الكيميائية المعقدة عدة ألوان، مثل الضوء الأزرق البارد أو الأخضر أو الأصفر، وفي حالات خاصة اللون الأحمر. إنّ أغلب الحيوانات ينبعث منها كمية صغيرة من الضوء الطبيعي، والإنسان كذلك، لكنها دقيقة للغاية ولا يمكن التقاطها إلا بكاميرا متخصصة فقط.
والأمثلة على المخلوقات الحية المشعة للضوء كثيرة، وغالبا ما توجد في قيعان المحيطات، كون البيئة هناك مظلمة، لأنّ ضوء الشمس لا يكاد يصل إلى الأسفل، وقناديل البحر هي الأشهر وكذلك أنواع من الأسماك الأخرى الكثيرة، وعلى اليابسة هناك اليرعات المضيئة الفاتنة والبعوض الفطري، وأيضا شيطانة تسمانيا ذات العيون المتوهجة الزرقاء.3
وإذا ما نظرنا إلى السماء، فإنّها قلّما تكون معتمة تماما، ولو تمعنا النظر أكثر وتحررنا من جميع مصادر الضوء الأخرى فإننا سنجدها بُنيّة اللون أو رمادية، وذلك بسبب ظاهرة التوهج الليلي المسؤولة عن ظهور طبقة ضوء خافتة في طبقات الغلاف الجوي العليا. ويمكن أن نلحظ هذه الظاهرة الطبيعية أكثر بالقرب من الغلاف الجوي من الخارج.
إنّ مثل هذا النظام الضوئي الطبيعي الذي تكيفت به الكائنات الحية لملايين السنوات بات يواجه خطر الاندثار والتغيير أمام شبح التقدم الحضاري البشري، فالإضاءة الطبيعية الليلية تبدو أكثر ملاءمة مع ما تطلبه احتياجات الكائنات الحية مهما كلف الأمر.
“التوهج السماوي”.. أسوأ حالات التلوث الضوئي
يُعنى التلوث الضوئي بتلك الظروف أو الحالات التي يحيد بها كوكب الأرض عن مساره الطبيعي على نحو مبالغ في الإضاءة ليلا، ويرى علماء البيئة أنّ ثمة 5 أنماط من التلوث الضوئي وهي كالآتي: “الإفراط في الإضاءة”، و”التوهج”، و”الفوضى الضوئية” مثل تلك الإنارات الزائدة عن الحاجة الموجودة في كثير من نقاط التجمع، أما “التوهج السماوي” فهو المحصلة النهائية للتلوث الضوئي القابع فوق المدن الكبرى، ويختلف عن “الوهج الليلي” بأنّ هذا النمط يتسببه الإنسان، وأخيرًا “التعدي الخفيف” ويُقصد به إضاءة الأماكن غير الضرورية أو غير المرغوب بها.
ويعتبر العلماء أنّ التلوث الضوئي تأثيره كتأثير الاحتباس الحراري على الكائنات الحية على المدى البعيد، إذ أنّ المخلوقات الحية التي تعتمد على الساعات الليلية للقيام بوظائفها الحيوية قد تتأثر بشكل ملحوظ مثل النباتات التي تنتج الأوكسجين ليلا حينما يغيب ضوء النهار، فيرتبك النظام البيئي ويضطرب فتكون له تبعات غير محمودة.
ومن أسباب التلوث الضوئي الاستخدام غير المسؤول في إنارة الشوارع وفي أنوار السيارات والمواصلات، وكذلك على مستوى المصانع والتجمعات البشرية في المدن والأحياء السكنية، فإنها تبدو أشبه بمحاولة إخضاع الكوكب لنمط غير مألوف لم يعهده من قبل.4
اضطراب الساعة البيولوجية.. ضوء في غير ميعاده يهدد وظائف الجسد
لا شك أنّ للظلام حاجة ملحة بالنسبة لعمل الوظائف الفيسيولوجية، فمنذ أزمان بعيدة اعتادت الكائنات على نظام بيئي دوري ينتقل بين النهار والليل، فتنقسم ساعات اليوم وفق ترتيب معين يختلف مع اختلاف المواسم. تلك الدورة باتت جزءا من الإيقاع الحيوي والساعة البيولوجية التي تتأثر بشدة بوجود الضوء في غير ميعاده، أي في ساعات الليل.
ووفقا لمقالة نُشرت في مجلة “سكاي آند تلسكوب” في عام 2011، فقد جرى ربط اضطراب إيقاع الساعة البيولوجية باضطرابات النوم مثل الأرق، بالإضافة إلى الاكتئاب وارتفاع ضغط الدم واضطراب نقص الانتباه والسمنة والسكري وأمراض القلب.5
كما أنّ التعرض للضوء في الليل يتسبب في تعطل إنتاج الميلاتونين الذي يُعد مضادا قويا للأكسدة ومضادا للسرطان كذلك، وهو المسؤول عن تنظيم التمثيل الغذائي والاستجابات المناعية. ووفقا لأطروحة قُدمت لجامعة كاليفورنيا، فإنّ التعرض للضوء الساطع لمدة 15 دقيقة يمكن أن يوقف إنتاج الميلاتونين تماما، كما أن الدراسات أثبتت أنّ المستويات المنخفضة من الميلاتونين لها علاقة بارتفاع معدلات الإصابة بسرطان الثدي في الدول المتقدمة.6
أنوار كاليفورنيا.. رفاهية تقتل مئات الآلاف من السلاحف
يتعدى أثر الأخطار الناجمة عن الأضواء إلى الحياة البرية وبقية الحيوانات، وأبسط مثال على ذلك الدراسة العلمية التي تتناول السلاحف البحرية، فقد لاحظت أن البيض الذي تضعه الإناث على الشواطئ حينما يفقس، يتجه صغاره غريزيا نحو ألمع مصدر للضوء، ويعد ماء البحار هو ألمع المجسمات بسبب انعكاس ضوء النجوم عليه.
كان ذلك قبل أن تنتشر الأنوار والمصابيح الاصطناعية على المدن الساحلية وترمي بنقمتها على صغار السلحفاة، تاركة إياهم في حالة من الارتباك والحيرة، مما يدفعهم إلى الانقياد نحو شوارع المدينة الخطيرة بدلا من ماء البحر الآمن. وبناء على ذلك تتعرض حياتهم للخطر، وتشهد ولاية فلوريدا وحدها خسائر من هذا النوع من الحوادث تعادل مئات الآلاف سنويا.7
ويتسبب الاختلاف الضوئي ليلا في هجرة الحيوانات إلى أماكن صحية أكثر، وهي قد تعد حيوانات مفيدة للإنسان، لكن بالمقابل قد تجذب هذه الأنوار الاصطناعية حيوانات غير مرغوب بها فيختل النظام البيئي حينئذ.
توليد الطاقة المهدورة.. أضرار اقتصادية تكلف الكوكب
وكما يبدو أنّ الآثار البيئية تبدو مأساوية، فإنّ الآثار الاقتصادية لا تختلف عنها كثيرا من حيث شدتها، فبطبيعة الحال فإنّ الاستخدام المفرط للضوء يستلزم استخدام أنواع من الوقود الأحفوري بشكل غير مباشر.
فعلى سبيل المثال تحتاج الأضواء إلى الكهرباء، والكهرباء يتطلب إنتاجها كمية هائلة من الفحم أو البترول في العمليات الصناعية. وعليه يكون الإفراط في استهلاك الوقود، مما تترتب عليه آثار اقتصادية غير حميدة.
تشير “الجمعية الدولية للسماء المظلمة” إلى أنّ ثلث الإضاءة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها تُعد إضاءة ضائعة غير مستفاد منها، وتقدر تكلفتها بـ3.3 مليار دولار، وتساهم في زيادة 21 مليون طن من غاز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي كل عام بسبب عمل محطات توليد الطاقة بالفحم. ولتفادي الأخطار الصحية من هذه الأضرار الناجمة عنها، علينا زراعة ما يقارب 875 مليون شجرة سنويا.8
“المدن المظلمة”.. خطة استرجاع نجوم السماء المنيرة
يقول كاتب الخيال العلمي الأمريكي “فيرلين كلينكينبورغ” في مقدمة رسالته “ليلنا المتلاشي” (Our Vanishing Night): تبدو السماء في معظم المدن كما لو كانت قد أفرغت من النجوم، تاركة وراءها ضبابا خاليا يعكس خوفنا من الظلام، إنه يشبه التوهج الحضري للخيال العلمي البائس الموجود عندنا.9
وكما يبدو عليه العالم اليوم، إذ بات التباهي بالإضاءة المفرطة علامة من علامات التحضر، ولا شيء آخر سوى مجموعة من الأنوار الساطعة التي تضج بها المدن، تاركة وراءها متعة مراقبة السماء التي باتت شاحبة ومريضة.
ولا يخفي هواة التصوير الفلكي ومحبو الفلك امتعاضهم وحسرتهم على ضياع متعتهم بسبب التلوث الضوئي، فمن المحال أن تجد مرصدا فلكيا في وسط المدينة، أو تشارك في رحلة استطلاع ومراقبة نجوم بأحد الأحياء المجاورة، وإنما يتطلب الأمر السفر، وقد يصل ساعات طويلة حتى يتسنى لذلك التلوث أن ينجلي وينقشع.
إنّ التلوث الضوئي يحرم ثلث سكان العالم من رؤية سماء الأرض على حقيقتها، بمجرتها ونجومها وسُدمها، لذا دفع ذلك الفنان الفرنسي “تييري كوهن” إلى القيام بمشروعه الخاص مطلقا عليه “المدن المظلمة”، ويهدف بواسطته إلى تصوير مدن حول العالم بعدسته ثمّ دمجها بسماء خالية من أي تلوث ضوئي.
وفي محاولة لتدارك الخطأ، سعت إحدى المنظمات المهتمة بالمجال البيئي إلى ابتكار فعالية توعوية بضرورة تقنين استهلاك الضوء واستخدامه بالطريقة الصحيحة والسليمة، إذ حددوا ساعة من يوم 22 مارس/آذار من كل عام، تطفأ فيها جميع الأنوار حول العالم، وأطلقوا عليها ساعة الأرض، لعلهم يُطفئون بها شيئا من حنق السماء.
المصدر: مواقع إلكترونية