الخوارزميات الرقمية.. هل نحن حقا من يختار؟
يتداول كثير من الناس في هذه الأيام مصطلح “خوارزميات”، لكن معظمهم لا يدرك معناها الحقيقي ولا مدى تأثيرها في تفاصيل حياتنا اليومية، بل ولا في سيطرتها على اختياراتنا ورغباتنا. فما هي هذه الخوارزميات؟ وكيف تعمل؟ وما مدى تأثيرها على مجريات حياتنا؟
وللإجابة على هذه التساؤلات، سنرافق عالِم الرياضيات والصحفي الاستقصائي والباحث في شؤون الخوارزميات الرقمية “أنجان سونداران”، فقد قام بإعداد سلسلة من أربع حلقات عن عالم الخوارزميات، عرضتها قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “الخوارزميات.. نظام عالمي جديد”.
الخوارزميات.. ما هي وكيف تعمل؟
“سأجمع أسئلتي وأطرحها على بعض مصممي هذا النظام وبعض المتضررين من هذه الثورة، أريد أن أعرف كيف يُحدث هذا النظام كل هذا التغيير في واقعنا. ولكن قبل ذلك ما هي الخوارزمية؟
إنها كلمة رنانة تحمل الناس على الاعتقاد بأنها أكثر تعقيدا مما هي عليه، ولكنها في الحقيقة أبسط من ذلك، فهي مجموعة من التعليمات التي يجب اتباعها لتحقيق غاية ما لحل مشكلة أو اتخاذ قرار”.
يجدر بالذكر أن كلمة خوارزمية تقابلها باللاتينية كلمة “Algorithm”، وهي نسبة إلى العالم المسلم أبي جعفر الخوارزمي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، ويُنسب إليه الفضل في ابتكار الترتيب المنطقي للخطوات الرياضية من أجل حل مشكلة أو اتخاذ قرار.
تبدأ الرحلة باستكشاف الخيارات، وعملية الاختيار بين احتمالين أو أكثر، فبعض الناس يظن أن الخوارزميات تؤثر في قراراته، لكن خياراتنا هي نتاج إدراكاتنا وغرائزنا وعواطفنا، فكيف إذن تقوم الخوارزمية بالاختيار؟
إن نتائج البحث التي تضعها غوغل بين يديك، أو الفيديو التالي الذي يقترحه عليك يوتيوب، أو مئات الإعلانات التي تطاردك على صفحات التواصل.. كل هذا بسبب الخوارزميات التي تحاول التأثير فيك بطريقة أو بأخرى. وهذه الحلقة تحاول الإجابة على كمّ الاختيارات التي نملكها في عالم اليوم.
الإعلانات التجارية.. من الإقناع بالمنتج إلى التنبؤ بما تريد
لطالما كان الهدف من الإعلانات التأثير على أنماطنا الاستهلاكية، وقد حاول المعلنون معرفة ماذا نريد وبم نفكر وكيف نشعر لحثّنا على شراء ما يريدون بيعه، فهل برعت الخوارزميات في هذا؟
“بلاك سوان” شركة إعلانات فريدة أسسها علماء بيانات، تتعدى محاولة التأثير عليك فيما تشتري، بل إن الشركة طورت خوارزمية تتنبأ بالمنتجات التي تريدها، بل وحتى قبل أن تعرف ما تريد تحديدا.
يقول ستيف كينغ رئيس الشركة: “ينشر الناس كل تفاصيل حياتهم، ماذا يأكلون، ومن يحبون ويكرهون، وبماذا يفكرون، تنتقل هذه المعلومات بطرق مختلفة عبر وسائل التواصل، وتكون متاحة عبر الإنترنت، ونحن نستفيد من هذا الكم الهائل من البيانات، ونرى ما الذي يستحوذ منها على اهتمام متزايد مع مرور الزمن، وبأدواتنا الخاصة نستطيع التفكير في صنع منتج يلبي هذا التوجه المتعاظم”.
“نقوم بتحويل ملايين المكالمات باللغة الطبيعية إلى أرقام، وبواسطة خوارزمية أولية نتنبأ بالمنتج الذي كان مدار حديث الناس على مدى سنوات مثلا، ليكون هو المنتج الأكثر عوائد خلال الأشهر القليلة القادمة. تستوي في هذا المنتجات الغذائية أو مواد العناية بالبشرة أو حتى المنتجات الطبية لمعالجة مرض ما”.
“لقد أسلمنا قيادنا للخوارزميات ولا مجال للعودة، ولكننا بحاجة للتخطيط الحذر، ولطالما كنت أفكر فيمن أنا وماذا أريد، فجاءت هذه التكنولوجيا لتتنبأ بما أريد وتعرضه علي. لقد أصبحت هذه الآلة تعرفني أكثر مني. ولكن هل سيقتصر تأثير هذه الثورة المشفرة على المنتجات التي ساشتريها؟ وكيف ستؤثر على اختياراتي الكبرى؟”.
السيارات الذكية.. تحدي السلامة والتحكم بالخيارات
قيادة السيارة هي عملية اتخاذ قرارات باستمرار، وتكون الخيارات غير سهلة غالبا، ولنأخذ مثالا على ذلك بول كريي قائد سيارة الأجرة السوداء الشهيرة في لندن، والذي يعمل على سيارته منذ 9 سنوات، وهو يحفظ طرق لندن وأماكنها مثل خرائط غوغل تماما، ولكنها أصبحت مهارة قديمة في وجود التكنولوجيا اليوم.
بول -وغيره كثيرون- يخشى أن تسيطر الروبوتات على العالم، فهو ينظر بعين الريبة إلى اليوم الذي سيركب فيه سيارة توصله إلى وجهته من دون سائق، ويعتقد أن التحدي الأكبر للسيارات ذاتية القيادة سيكون سلامة البشر. وهو تحد يأخذه في الحسبان “وليام روسكو” المبرمج الذي يعمل على تقديم نموذج لسيارة اللعب ذاتية القيادة “دونكي كار” إلى العامة.
“روسكو” ليس خبير ذكاء صناعي، ولكنه يستخدم برمجيات الشبكة العصبية التي يستخدمها مطورو السيارات الذكية، ولهذه الغاية يجمع عشرات آلاف الصور المرتبطة بالقيادة والتحكم، ويلقمها للحاسوب، بحيث تتعلم الخوارزمية القيادة حول المسار، وتتخذ القرارات بناء على ما تلقته في التدريب ومن خلال التجربة.
فهي تلتقط 30 صورة في الثانية، وتقوم بمعالجتها ومقارنتها مع تلك المخزنة في ذاكرتها لتتخذ بناء على ذلك القرار الأصوب. أما في حالة وجود عوائق على الطريق فيجب تدريب هذه السيارة اللعبة من 50 إلى 100 مرة تقريبا للالتفاف حول هذه العوائق وتفادي الاصطدام بها.
ويرى روسكو أن الآلة أكثر جدية من الإنسان الكسول في التنبؤ بالمخاطر واتخاذ القرار المناسب، غير أنه تبقى مشكلة تحديد المسؤوليات القانونية والأخلاقية إذا ارتكبت السيارة الذكية حادثا بحق المارة أو الممتلكات، فالمبرمج الجالس على مكتبه والذي وضع خوارزمية هذه السيارة سيكون على الأغلب مسؤولا عن أخطائها، مما يجعل الأمر مخيفا أن نُسْلِم قيادنا لهذه الآلات.
هذا الأمر قاد صانع هذا الفيلم الوثائقي إلى العاصمة بكين في الصين، فسأل “دو لين” رئيس شركة “بيسك فايندر” للبيانات عن حجم البيانات التي يجب توفيرها لمطوري السيارات الذكية من أجل تعليم السيارة ما يحيط بها لتتخذ قرارا بالخطوة القادمة، فأجاب أن 100 ألف صورة هي أقل ما يمكن تلقيمه للسيارة من أجل أن تدرك ما يحيط بها.
خورزميات التعرف على الوجوه
وفي زاوية أخرى من مكاتب الشركة كان هنالك مبرمجون يُدخلون صورا لشخص ما من زوايا مختلفة، ثم يخرجونها من خلال خوارزمية معينة على شكل صورة ثلاثية الأبعاد للشخص المعني. فهذا إذن قسم التعرف على الوجوه، وهنالك زاوية أخرى لإدخال عشرات آلاف الكتب والمجلات من أجل تحويلها إلى صيغة رقمية.
طبيعة عمل هذه الشركة هي ببساطة ترجمة كل ما يمكن أن يراه الإنسان في طريقه إلى صورة ثم إلى صيغة رقمية تفهمها السيارة الذكية، وتستطيع من خلال الخوارزمية المخزنة فيها أن تميز فيما إذا كان يتوجب عليها الاستدارة أو الوقوف أو الاستمرار، فمئات العاملين في هذه الشركة أصبحوا يعملون لصالح آلات وبرمجيات أكثر من عملهم لصالح رؤسائهم من البشر.
لكن هذه الصور المدخلة إلى الخوارزميات لا تأتي فقط عن طريق التصوير المقصود لأجسام محددة بواسطة موظفين معينين، لأن البشر على مدى أكثر من عقد من الزمن زودوا هذه الخوارزميات بمليارات الصور والبيانات الأخرى، وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
منصات التواصل.. حين تكون بياناتك سلعة لمن يدفع أكثر
تقول زينب توفيقجي، وهي عالمة اجتماع تقنية تدور أبحاثها عن سياسة الخصوصية وعن الخوارزميات وكيف تتحكم باختياراتنا: إن مجرد دخولك إلى أي متجر إلكتروني وتحريك مؤشر فأرة جهازك كافية لأن تبدأ الخوارزميات بتتبع اهتماماتك ومعرفة رغباتك، بل إن فيسبوك لا يلغي مفردات البحث التي بدأت بكتابتها ثم بدا لك أن تمحوها.
وإضافة للكم الهائل من المعلومات التي لدى موقع فيسبوك عنك فإنه على استعداد لشراء أية بيانات عنك قد تمتلكها مواقع أخرى، ثم تبيع هذه البيانات لشركات الإعلانات التي تطارد صفحتك؛ ليس فقط ما يخص مشترياتك، بل أيضا مواقفك السياسية وقناعاتك الاجتماعية. كان هذا يحدث سابقا، ولكن ليس بهذا الكم المخيف ولا بهذه التكلفة الزهيدة، وبطريقة مخفية عن الرأي العام.
هنالك سيطرة اجتماعية للأقوياء، وتوجيهٌ لاختيارات عامة الناس بشكل يخدم أصحاب النفوذ فقط، ولا مهرب من ذلك إلا بحظر هذه التطبيقات والاستخدامات الخاطئة، والتحرر من سيطرتها، ومحاولة السيطرة على رغباتنا بعدم الانجرار لسياسات المعلنين، وامتلاك القوة لنكون نحن الذين نقرر من نكون.
أوقفوا الخوارزمية.. تشتيت التطبيق كي لا يتنبأ بتوجهاتنا
نحن أمام قوة خوارزمية يتعذر إلغاؤها، وفي الوقت ذاته هنالك رافضون يحاولون مساعدتنا، ومنهم “ستيفاني كنايسل” أستاذة الفنون الجميلة في جامعة فيينا التي أطلقت مشروعها الفني “أوقفوا الخوارزمية”، وهو مشروع فني ساخر يتمثل في تشتيت التطبيق الذي نستخدمه بحيث لا يمكنه التنبؤ بتوجهاتنا، ويكون ذلك بالنقر العشوائي، واستمرار تصفح الشاشة بواسطة آلة ميكانيكية بسيطة صممت لهذا الغرض.
فعلى صفحة “إنستغرام” هنالك آله تُبقي الشاشة في حالة تصفح مستمر لفترة طويلة جدا دون توقف عند محتوى معين، وهو الأمر الذي يدفع الخوارزمية لإظهار كمّ أكبر من الإعلانات العشوائية إلى أن يتعرض التطبيق إلى حالة “فوق الإشباع” وتحميله أكثر من طاقته. وبطريقة مشابهة تم تصميم جهازين آخرين، أحدهما لتويتر والآخر لفيسبوك.
تقول كنايسل: ليس من الضروري أن تكون هذه الآلات في كل بيت، ولكن المقصود هو جذب الانتباه لخطورة الخوارزميات بحيث لا تكون هي مصدر توجيهنا لما نختار.
الإبداع.. بين مثالية الآلة وأخطاء الإنسان
ولكن هل يمكن التعاون مع الخوارزميات في اتخاذ القرار؟ هل يمكن أن تساعدنا الخوارزميات في الفن والجمال؟
التقى صانع الفيلم مع الفنان الغرافيتي ماتيو ماني وسأله: هل يمكن للخوارزميات أن تكون مبدعة مثل الإنسان؟ فأجاب: بالطبع لا، فالروبوتات المبنية على الرياضيات تصنع أشياء مثالية، والإنسان يصنع الأخطاء، وهنا يكمن سر الجمال والإبداع
يزور الوثائقي معرض إيمرسون للفنون في بوسطن، حيث يقدمون الأعمال الفنية التي صنعها الإنسان بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي. إنه الاختيار المتبادل بين الإنسان والآلة، لهذه الغاية التقى الوثائقي مع الفنان “ألكسندر ريبين” -وهو يتعاون مع خوارزمية فريدة على تطبيق “غانبريدر” الذي يستخدم خلفية غوغل- في إنتاج لوحات تجريدية هجينة مركبة من صور مختلفة. صنع الإنسان الذكاء الاصطناعي، ولكن الآلات هي التي تتولى القيادة الآن، فهل سيبقى الإنسان أسير ما صنعت يداه؟ وهل ستبقى الحشود البشرية منقادة لمجموعة من الشركات والحكومات التي تتحكم بمصائر الأمم والشعوب، أم أن الوعي وحسن الاستخدام سيخلق نوعا من التوازن بين الآلة والإنسان؟
الأيام كفيلة بالإجابة على هذه الأسئلة الوجودية.
المصدر: مواقع إلكترونية