“عالم بدون غابات”.. وحش الانقراض السادس ينقض على الكوكب

تسبب النشاط البشري على كوكب الأرض في تدهور التنوع البيولوجي بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، ليشمل تأثيره السلبي ثلاثة أرباع مساحة اليابسة وثلثي مساحة المحيط. وأصبحت أنواع الحياة البرية تختفي اليوم بعشرات إلى مئات المرات أسرع مما كان عليه الوضع في الـ10 ملايين سنة الماضية، بالإضافة إلى ذوبان الجليد في القطبين وازدياد تلوث المحيطات، وهو ما دفع منظمات الأمم المتحدة، وجمعيات الدفاع عن البيئة إلى التحذير من خطر الانقراض الجماعي في حال الاستمرار على هذا النهج.

ونعني بالتنوع البيولوجي تلك السيرورة التي تربط بين ملايين الكائنات الحية على كوكب الأرض، بحيث يلعب فيها كل عنصر دورا مهما يساهم في بقاء الآخر على قيد الحياة. ما يضمن لنا توفر الأغذية التي نتناولها يوميا والهواء النقي الذي نستنشقه والماء العذب التي نشربه. ويشكل ضياع حلقة في هذه السيرورة أو الشبكة المترابطة تهديدا لنظم الحياة بأكملها.

ويشكل الضغط الحاصل على الغابات حاليا أبرز تجليات تدهور التنوع البيولوجي، فما بين عامي 2010 و2015 فقط، اختفى أكثر من 30 مليون هكتار من الغابات.

ويسلط الفيلم الوثائقي “عالم بدون غابات” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- الضوء على التحديات التي تواجهها هذه الأنظمة البيئية، بسبب التدمير والاستغلال المفرط لإتاحة المجال أمام الزراعة والتوسع العمراني.

فما هي إذن أبرز مظاهر انهيار التنوع البيولوجي في الوقت الراهن؟ وما هي أصعب التحديات التي تواجه التوازن البيئي للأرض؟ وهل هناك تحركات لحماية التنوع البيولوجي لكوكبنا وإنقاذ البشرية من الانقراض قبل فوات الأوان؟

عمليات التشجير.. قوانين حماية رئة الكوكب

تغطي الغابات حاليا نسبة 30% من مساحة اليابسة فوق الأرض، وتضم حوالي 80% من التنوع البيولوجي البري خصوصا في غابات النصف الشمالي للكوكب والغابات الاستوائية المطيرة التي تشكل أيضا المصدر الرئيسي للأكسجين الذي تستنشقه الكائنات الحية، وتحتوي الغابات مجتمعة على أكثر من 60 ألف نوع من الأشجار المختلفة، وتوفر الحياة لـ80% من الكائنات البرمائية، و75% من أنواع الطيور المختلفة، و68% من أصناف الثدييات.

ويعتمد بذلك صون التنوع البيولوجي بشكل كبير على حماية غابات العالم، وكيفية التعامل معها، خصوصا أن النشاط البشري في العقود الأخيرة تسبب في تدهور التوازنات البيئية للغابات. ويؤكد تقرير “حالة الغابات في العالم” لسنة 2020 -الذي أصدرته منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة- استمرار إزالة الغابات وتدهورها بمعدلات تنذر بالخطر.

وتفيد تقديرات الأمم المتحدة بفقدان حوالي 420 مليون هكتار من الغابات منذ 1990 بسبب تحويلها إلى استخدامات أخرى للأراضي، رغم أن معدل إزالة الغابات تراجع في العقود الثلاثة الأخيرة مقارنة بالوضع السائد أواسط القرن العشرين، وذلك بفضل عمليات التشجير الواسعة وتدخل الدول والحكومات بسن قوانين صارمة لحماية الثروة الحرجية، مع تشديد العقوبات على المخالفين.

وأفادت تقديرات الأمم المتحدة أن معدل إزالة الغابات انخفض إلى 10 ملايين هكتار سنويا بين عامي 2015 و2020، مقارنة بمعدل 16 مليون هكتار سنويا في تسعينيات القرن الماضي، ورغم ذلك فما زال تدهور الغطاء الحرجي مقلقا، فبالإضافة إلى التوسع الزراعي للبشر، تضررت منذ 1990 أكثر من 100 مليون هكتار من الغابات بسبب الحرائق والأمراض والجفاف والظواهر المناخية غير الملائمة.

القائمة الحمراء.. عشرات الآلاف من الأشجار مهددة بالانقراض

ما زال التوسع الزراعي على حساب الغابات أحد العوامل الرئيسية في تدهور التنوع البيولوجي، في حين أن صمود النظم الغذائية التي يعتمد عليها الإنسان وقدرتها على التكيف مع التغيرات المستقبلية يبقى رهينا بحماية التنوع البيولوجي للغابات. وقد تسببت الزراعة للأغراض التجارية واسعة النطاق (تربية المواشي، وزراعة فول الصويا، ونخيل الزيت بشكل أساسي) بنسبة 40% من إزالة الغابات الاستوائية بين عامي 2000 و2010.


وتتعرض الغابات للاستنزاف خصوصا في المناطق المكتظة بالسكان، إذ يكون الطلب فيها على الزراعة كبيرا والزحف العمراني سريعا، مثل أوروبا وأمريكا الشمالية وأجزاء من الصين والهند، حيث تتعرض التوازنات البيولوجية لتدهور مستمر، ويوجد حاليا ما لا يقل عن 20 ألف نوع من الأشجار المختلفة ضمن القائمة الحمراء للأنواع والأصناف المهددة بالانقراض للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، وتوصف 8 آلاف نوع منها على أنها مهددة بشدة بالانقراض.

ولا يقل الوضع خطورة بالنسبة للأحياء البرية التي رصد منها 268 نوعا من الثدييات والبرمائيات والزواحف والطيور التي تعيش في الغابات، فتقرير الأمم المتحدة “حالة الغابات في العالم-2020” يشير إلى انخفاض مؤشر أنواع الأحياء البرية الخاصة بالغابات بنسبة 53% بين عامي 1970 و2014، وذلك بمعدل انخفاض سنوي يبلغ 1,7%، أي أن الخطر المحدق ببعض هذه الأنواع في المستقبل هو الانقراض.

“الانقراض السادس”.. تلاعب الإنسان القاتل بالكوكب

لا شك أن التلوث البيئي الذي نعيشه حاليا، وتدهور التنوع البيولوجي بشكل غير مسبوق، ستكون لهما تداعيات وخيمة على مستقبل هذا الكوكب، فانهيار التوازنات التي تقوم عليها الكائنات الحية ليس بالأمر الهين على الإطلاق، فالوضع يمكن أن يتحول إلى ما يشبه تدحرج كرة الثلج من أعلى جبل شديد الانحدار لتصبح سرعتها خارجة عن السيطرة. وتتحدث السيناريوهات المتشائمة عن اقتراب موجة انقراض جماعي جديد، وبعضها يقول إننا نعيشها حاليا، ولهذه السيناريوهات ما يبررها.

ويوصف معدل الانقراض الحالي للأنواع الحيوانية بأنه أعلى بمئة مرة من أي وقت مضى، وكانت آخر مرة فقد فيها الكوكب حيواناته بهذا المعدل المتسارع عندما انقرضت الديناصورات قبل 66 مليون سنة، ضمن ما يُسمى بالانقراض الطباشيري الثلاثي.

ولم يستطع العلماء حتى الآن تحديد الأسباب الدقيقة وراء عمليات الانقراض الخمسة الكبرى السابقة التي حدثت أولاها قبل 443 مليون عام في العصر “الأوردوفيشي”، وأقل هذه الموجات شراسة محت من على وجه الأرض أكثر من 70% من الكائنات الحية. لكن الموجة السادسة تشير فيها أصابع الاتهام إلى البشر ونشاطهم المدمر للتنوع البيولوجي على الكوكب الأزرق.

وبحسب “إليزابيث كولبرت” في كتابها الحاصل على جائزة البوليتزر “الانقراض السادس.. تاريخ غير طبيعي”، فإننا الآن نعيش بالفعل داخل الانقراض السادس، وبررت ذلك بأن وجود البشر -منذ 300 ألف سنة وإلى اليوم- تسبب في تقلص الكتلة الحيوية للثدييات على الكوكب بنسبة 85%، وبـ50% بالنسبة للنباتات.

انقراض الحشرات.. قاعدة الهرم الغذائي تُسبب انهيار النظام

عندما نتحدث عن الانقراض فإننا نفكر دائما في كوارث طبيعية مدمرة، كالزلازل القوية أو اصطدام كويكب أو مذنب قادم من الفضاء بالأرض أو نشاط بركاني هائل يملأ السماء بالدخان ويحجب نور الشمس، مما يدخل الأرض في موجات من الجليد تضع حدا لجل أشكال الحياة المعروفة.

لكن ما يشكل أكبر تهديد للحياة فوق سطح الأرض حاليا، ليس حتى القنابل النووية أو الحروب البيولوجية أو الأوبئة القاتلة، وإنما هو كائنات صغيرة تعيش بيننا، وقد لا نعيرها أي انتباه، هي الحشرات، نعم تلك الكائنات الصغيرة التي يتراجع عددها سنويا بشكل كبير، في نزيف ينذر بكارثة حقيقية قد تنتهي بانهيار النظام البيئي بأكمله.


فالحشرات تشكل قاعدة الهرم في سلسلة الغذاء التي تعتبر أساس الحياة فوق الأرض، وتلعب دورا بارزا في الإنتاج الزراعي العالمي بفضل دورها في تلقيح النباتات، مما يعني أن اختفاءها عن دورة الحياة سيؤدي بالضرورة إلى انهيار النظام الغذائي، وسينعكس ذلك بالضرورة على مصير البشر.

وأفادت دراسة أجرتها مجلة “الحماية البيولوجية” العلمية ونشرت تفاصيلها صحيفة الغارديان البريطانية، أن معدل انقراض الحشرات حاليا أسرع بـ8 مرات من معدلات انقراض الكائنات الأخرى، وهذا يعني أن هذه الحشرات مهددة بالانقراض بعد نحو 100 سنة، إذا استمرت معدلات الانقراض المسجلة على حالها.

تدهور التنوع البيولوجي.. تحولات كارثية ستفتك بالإنسان

يقول “شودونيو” المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) خلال رسالته الموجهة شهر سبتمبر/أيلول 2020 إلى مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التنوع البيولوجي: إن فقدان التنوع البيولوجي سيقوض الجهود العالمية لمعالجة الفقر والجوع، فلا يمكن ضمان تنوع غذائي دون وجود تنوّع بيولوجي.

ويعتمد أكثر من مليار شخص حول العالم بشكل كبير على الأغذية البرية، مثل لحوم الطرائد والمنتجات النباتية الصالحة للأكل وأنواع الفطر والأسماك، وهي أغذية توفر عادة مستويات من المغذيات الدقيقة الرئيسية خصوصا في البلدان منخفضة أو متوسطة الدخل، كما يستعمل حوالي 2.4 مليار شخص الطاقة الخشبية من أجل الطهي خصوصا في المناطق الريفية.

وسيؤدي حتما اختفاء الغابات إلى ضرر مباشر على الإنسان في معاشه اليومي، زد على ذلك أن صحة الإنسان مرتبطة أيضا بشكل غير مباشر بالغابات، فأنواع النباتات المسجلة حاليا على أنها ذات استعمال طبي يزيد عددها عن 28 ألف نوع، يوجد معظمها في النظم البيئية الحرجية.

ويؤدي تدهور التنوع البيولوجي في الغابات إلى اختفاء فصائل من الحشرات والنباتات والكائنات الدقيقة التي يعتمد عليها الإنسان لمقاومة بعض الأمراض وصناعة أنواع من الأدوية، فقد توصل باحثون إلى أن بعض المواد الكيميائية التي تستخرج من هذه الكائنات قادرة على محاربة السرطان التي يوصف بأنه مرض العصر، وبتدمير هذا التنوع البيولوجي نكون قد حرمنا أنفسها من كنز ثمين يمكن استغلاله لتحسين حياة الإنسان.

حماية الغابات.. محاولة الإنقاذ الأخيرة

ازدادت منذ دخول الألفية الجديدة تحذيرات العلماء من أن الإنسان بصدد تدمير نفسه بنفسه، فمستويات تلوث الهواء بلغت نسبة غير مسبوقة، والتغيرات المناخية حولت مناطق خضراء إلى صحاري قاحلة، والطلب على الغذاء تضاعف، والمناطق الحضرية تزداد توسعا مع النمو الديموغرافي السريع، ومساحة الغابات تواصل تقلصها، فكيف سيستطيع الإنسان التنفس والأوكسجين يقل والطلب عليه يزداد؟


وهكذا تسارعت خلال العقدين الماضيين وتيرة الإجراءات الرامية إلى مكافحة إزالة الغابات والحطابة العشوائية والصيد غير القانوني والرعي الجائر، وتنص اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ على تقديم دعم للدول التي تقوم بمبادرات من أجل خفض الانبعاثات الناجمة عن إزالة الغابات وتدهورها.

وقد شددت الرقابة القانونية في البلدان المنتجة للأخشاب على صعيد منظمة التجارة العالمية، إذ يتطلب استيراد الأخشاب تبرير مصدرها، وتأكيد قطعها بشكل قانوني، وتلعب المناطق المحمية أيضا دورا مهما في الحفاظ على بعض الأنواع النباتية والحيوانية المهددة بالانقراض، رغم أن سياسة الحماية التي ينتهجها عدد من الدول لا تشمل حاليا إلا 18% من مناطق الغابات -أي ما يعادل 700 مليون هكتار جلها على شكل منتزهات وطنية-، ومناطق حفظ الأصناف المهددة بالانقراض، ومناطق الصيد المنظم.

استنزاف البحر.. موجة الانقراض تزحف على الكوكب

لا شك أن الغابات ليست تعاني وحدها من تدهور التنوع البيولوجي، فالأحياء البحرية والطحالب تنقرض أيضا بصمت تحت الماء، وبالإضافة إلى تلوث المحيطات يتسبب الصيد الجائر باستعمال الشباك العملاقة في اصطياد الأسماك دون تمييز، وتكون بينها الأسماك البيوضة والصغيرة. وتحذر تقارير من أن استمرار العالم في استهلاك هذه الكمية من الأسماك بهذه الطريقة غير المسؤولة، قد يؤدي إلى نفاد مخزون الأسماك في البحار بالكامل بحلول العالم 2050.

وقد شهدت 2020 واقعة انقراض برمزية كبيرة، عندما أعلن مركز خبراء مصائد الأسماك في الصين انقراض أحد أقدم أسماك المياه العذبة وأكبرها في العالم وهي سمكة “أبو سيف الصيني” التي عاشت في مياه الكوكب لأكثر من 200 مليون عام. وأرجعت أسباب هذا الانقراض إلى عمليات الصيد غير المقنن، وتدمير أماكن عيش هذه السمكة الضخمة.


وهذا الانقراض التدريجي في البر والبحر الذي يتسبب فيه البشر لأول مرة في تاريخ الأرض الممتد لملايين السنين، قد لا يكون بالوضوح الكافي للبعض، لكن الباحثين والعلماء في مجال المناخ والبيئة مصرون على ربط نشاط البشر المضر بالطبيعة والمناخ بموجة الانقراض الشامل، وبعضهم يخشى من أن الوقت قد نفد بالفعل، ويستحيل التنبؤ برد فعل الكوكب الأزرق، خصوصا إذا تحققت توقعات العلماء بارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية بأكثر من درجتين مئويتين خلال العشرين أو الثلاثين سنة المقبلة.

المصدر: مواقع إلكترونية

Exit mobile version