بدت أشعة الشمس متكاسلة وهي تشق ضباب صباح شديد البرودة من أيام فبراير/شباط الجاري، في ملتقى بحر ونهر، عند ضفة وادي أبي رقراق بالرباط.
ورائحة شواء سمك على لهيب فحم تنبعث من ركن صغير، تختلط برائحة بُن ممزوجة بدخان السجائر من كشك تقليدي، ولا يكسر صمت المكان إلا مواء قطة ترنو أمام المشواة الصغيرة، وأصوات النوارس التي تعرف موعد إفطارها.
في دقائق معدودات ينكسر الصمت على وقع جلبة تبدو معهودة بالمكان؛ لقد بدأ افتتاح مزاد بيع حصيلة الليلة من سمك السردين، أو ما يسمى في عرف الصيادين “الدلالة”.
صورة مصغرة
يقف رشيد -الذي يزاول مهنة الصيد منذ أكثر من 20 سنة- بلباس خاص بفخر واعتزاز يترقب السعر الذي سترسو عليه غنيمته من البحر، ويقول للجزيرة نت “صيد السردين تخصص، وطريقته مختلفة”.
ويستعمل رشيد وزملاؤه قوارب الصيد التقليدية (حوالي 20 قاربا تقليديا لصيد السردين)، وآلية رصد جديدة، تمكنهم من معرفة وجود أسراب السردين وتوجهه.
وفي المقابل، كان عبد الحق (49 سنة) يعد دراجته النارية المعدة بثلاجة صغيرة، ويضع بها ما تمكن من شرائه من “الدلالة” لينطلق في رحلة توزيع مارسها منذ أكثر من 14 سنة.
الصورة من ضفة أبي رقراق صورة مصغرة لمصايد صيد الأسماك السطحية -ومنها السردين تحديدا- بالمغرب، حيث يُمارَس الصيد التقليدي في أكثر من 150 موقعا تقريبا، وبلغ مجموع الوظائف في البحر خلال 2019 -حسب التقرير السنوي لوزارة الزراعة والصيد البحري- حوالي 122 ألفا و127 وظيفة.
تيارات الكناري
يقع المغرب في موقع جغرافي له مؤهلات طبيعية نادرة، ضمن واحدة من 4 مناطق في العالم تمتاز بظاهرة “الأبولين” الطبيعية، أو ما تسمى “الانبثاقات المائية”.
وهي منطقة تيارات الكناري التي تمتد من الواجهة الأطلسية للمغرب وموريتانيا إلى شمال السنغال. (المناطق الثلاث الأخرى هي تيارات بنغويلا في عرض أفريقيا الجنوبية، ومنطقة فلوريدا في عرض فلوريدا، ومنطقة تيارات همبورغ في عرض تشيلي والبيرو).
ويوضح الخبير في الصيد البحري محمد الناجي للجزيرة نت أن مناطق التيارات تنتج أكبر الكميات من السردين والسمك السطحي في العالم.
وتشكل الأسماك السطحية الصغيرة (السردين، والأنشوبة، والماكرو، والأسقمري) أساس الموارد البحرية (أكثر من 80% من المصايد من حيث الحجم)، وتنتشر الموارد السمكية في مجموع السواحل المغربية.
رشيد يعرض محصوله من الصيد رفقة زملائهمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة صنفت المغرب بأنه المنتج والمصدر الرئيسي لسمك السردين.
ثروة اقتصادية
بعفوية يقول رشيد للجزيرة نت “البحر عندو رزقو” (للبحر رزقه)، وبلغ حجم الإنتاج المغربي للأسماك في نهاية عام 2019 مليونا و461 ألف طن، بحجم تداول قيمته 11.7 مليار درهم، بزيادة 7% في الحجم و1% من حيث القيمة مقارنة بعام 2018. (الدولار يساوي 9.12 دراهم).
وبشكل خاص، سجلت زيادة إنتاج الأسماك السطحية بـ64 ألف طن في 2019 وهو ما يعادل 86% من الإنتاج، حسب التقرير السنوي لوزارة الزراعة والصيد البحري.
وتقول بيانات الوزارة إن زيادة الأسماك السطحية أدت إلى تقدير حجم مبيعات هذه المجموعة بـ170 مليون درهم. وبقي اتجاه الزيادة إيجابيا خلال الفترة بين 2010 و2019، بمتوسط زيادة سنوية 2.8% في الحجم و6.4% في القيمة.
وارتفعت صادرات السردين المعلب بنسبة 6% من حيث الحجم، لتصل إلى 116 ألفا و850 طنا، و5% في القيمة لتصل إلى 3.6 مليارات درهم، في نهاية سبتمبر/أيلول 2020.
الأجود عالميا
يحتل المغرب المرتبة الأولى عالميا في تصدير سمك السردين المعلب، وكانت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو” (FAO) صنفت المغرب بأنه المنتج والمصدر الرئيسي لسمك السردين.
وينتمي السردين الموجود بالمغرب إلى سمك السردين الأوروبي، الذي يعد من أجود أنواع السردين وأكثرها طلبا بين دول العالم، والذي يعرف باسم “البلشارد” (pilchard) أو (pilchardus).
ويقول الخبير المغربي المعتمد لدى منظمة الزراعة والأغذية محمد الناجي للجزيرة نت إن “السردينة الأوروبية” صنف خاص، وهو الأكثر جودة على مستوى العالم، وأفضل نوع للسردين.
ويضيف الناجي أن المغرب أول منتج لهذا النوع من السردين وأول مصدر له، ويتوفر على مخزون ضخم، ومصيدة تدبيرها جيد، ومخططات تهيئة تعتمد نظام الحصص، مما يجعل ثروة المغرب من السردين محمية.
ويصدر المغرب السردين لأكثر من 60 دولة، ويوجه أكثر من نصف صادرات السردين نحو أفريقيا، في حين تعد فرنسا أول سوق مستورد ضمن السوق الأوروبي، وتعد أميركا أهم زبون للأنشوبة المغربية نصف المعلبة، التي يعد المغرب ثالث مصدر لها في العالم.
ويفيد الناجي بأن نحو 60% من القيمة المضافة في قطاع السردين ومعلباته تُكتَسب خارج المغرب لصالح شبكات التوزيع، وأنه رغم توفر المغرب على أفخر الأنواع فإنه لم يفرض علامات تجارية مغربية.
إذ تشتغل حوالي 80% من الشركات بالمغرب عبر المناولة (منتوجات بيضاء) لشركات كبرى تحتكر السوق العالمية وأسواق التوزيع، ويضيف الناجي أن ما يقارب 20% من إنتاج السردين تمر في السوق غير المهيكل.
خبرة وثقافة غذاء
يوزع عبد الحق السمك على المحلات والمطاعم، ويؤكد أن الطلب على السردين من قبل المواطن المغربي مرتفع، ويشهد إقبالا متواصلا.
ويعد السردين أساسيا في الأسواق المغربية، ويعتبره المتخصصون من أفضل أنواع السمك من حيث القيمة الغذائية لتوفره على نسبة دهون متوازنة غنية بأوميغا
وارتفعت الكميات التي تم تداولها في أسواق الجملة بنسبة 16% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، لتصل إلى 130 ألفا و661 طنا، بقيمة 533.8 مليون درهم، حسب معطيات القطاع.
وتحتفظ مناطق في الشمال المغربي بثقافة صيد السردين، حيث تعتبر بعض الخبرات التي راكمها الصيادون تراثا ثقافيا، في حين تعد خبرة اليد العاملة المغربية في قطاع الصناعات السمكية و”تصبير” السردين والأنشوبة معتمدة دوليا.
وتعود أولى وحدات تصنيع سمك السردين لبداية القرن 20، حيث كان يستعمله المستعمر آنذاك غذاء للجنود في مواقع الحرب.
المغرب العظيم
يقيس المغاربة مؤشر ارتفاع سعر الأسماك في السوق من خلال سعر السردين، فاذا كان سعره مرتفعا فمعنى ذلك ان لا مجال للاقتراب من انواع الاسماك الاخرى البيضاء، مثل «الجمبري»، والكلامار « الحبار»، والصول «سمك موسى»، وغيرها من انواع الاسماك «الحوت»، كما يسميها المغاربة.
وقياس ارتفاع سعر الحوت بالسردين، يؤكد على اهميته الاستهلاكية البالغة لدى غالبية المغاربة وبالاخص سكان المدن الساحلية الذين اعتادوا على كونه السمك الارخص ثمنا، والذي يشكل وجبة رئيسية، مفيدة وغنية، بالرغم من كونه ينعت بأنه سمك الفقراء.
يتراوح سعر السردين ما بين 10 الى 13 درهما (الدولار يساوي 7.10 درهم)، الا ان سعره قد يرتفع الى 20 درهما للكيلو غرام، في بعض الاحيان بسبب عوامل كثيرة مثل نقص الانتاج وارتفاع تكاليفه،او بسبب سوء الاحوال الجوية التي تمنع البحارة من تحريك مراكبهم لمواجهة الامواج العاتية.
يقول احد الباعة في سوق السمك المركزي في الرباط، الذي يوفر مختلف انواع الاسماك الطازجة، ان السردين يكون متوفرا بكثرة في جميع الفصول، ويقل نسبيا في شهري ديسمبر (كانون الاول) ويناير (كانون الثاني)، اما اهم المدن الساحلية التي تزود الاسواق بالسردين، فهي الحسيمة، والعرائش، والدار البيضاء، واسفي، واكادير، والمدن الصحراوية.
ويؤكد هذا البائع ان افضل انواع السردين هو سردين مدينة الحسيمة (شمال المغرب)، فمذاقه لذيذ جدا، مضيفا ان الناس يقبلون على شراء السردين لان سعره مناسب بالاضافة الى انه مغذ.
ويفضل الغالبية من الناس السردين من الحجم الصغير المخصص للقلي، اما الحجم الكبير، فيصلح للشواء، ويتم الاقبال على شرائه في نهاية الاسبوع لان بعض الاسر تخرج في نزهات خارج المدينة، سواء الى شاطئ البحر، او الغابات القريبة.
وهناك تصبح وجبة السردين المشوي على الفحم الاكلة الألذ والأشهى، طالما انه من غير الممكن شي السردين داخل الشقق، بسبب الدخان المتصاعد منه، الذي يمكن شمه على مسافات بعيدة.
وبما ان قيمة السمك تكمن في طزاجته، يرشد هذا البائع مستهلكي السردين الى بعض العلامات التي تدل على طراوته حتى لا يقعوا ضحية غش بعض البائعين، وهي ان تكون قشرته الخارجية لامعة.
وان تكون السمكة صلبة عند لمسها وليست مرتخية، وعيناها براقتان غير محمرتين، اما اذا لم تتوفر هذه العلامات فينصح بعدم شرائه، لانه يصبح خطرا على الصحة، لان الاسماك عموما تتعرض للتلف بسرعة.
واذا لم تكن لديك رغبة في تحضير السردين في البيت، فالمطاعم الشعبية توفره لزبائنها مقليا او مشويا كلما رغبوا في تناوله سواء وقت الغداء، او العشاء، او كوجبة خفيفة في المساء، بل لا حاجة لك للبحث عن مطعم، فأصحاب «المطاعم المتجولة» يقربون اليك هذه الوجبة اينما كنت.
ولا شك انك ستصادف احدهم واقفا خلف عربة خشبية، وهو يقدم لزبائنه وجبة خفيفة من السردين المقلي المحشو في نصف او ربع خبزة حسب الطلب، او «شواية» من السردين الذي يعصر فوقه القليل من الليمون، وزبائن هذه المطاعم المتجولة ليسوا فقط من الطبقة الاجتماعية الفقيرة، بل من جميع الفئات.
فقد تجد بينهم شخصا مرتديا بذلة انيقة، واقفا ينتظر دوره في الحصول على نصف خبزة محشوة بعدد من السردينات، في مشهد يثير الاستغراب احيانا، ربما لأنه لم يستطع مقاومة رائحة السردين المتبل المنبعثة من العربة المركونة في زاوية احد الشوارع!.
يحضر السردين على الطريقة المغربية بعدة طرق، فالمقلي، له طريقة خاصة، اذ ينظف جيدا، ثم ينزع الشوك الداخلي، حتى تصبح السمكة منبسطة، ثم تتبل بالثوم والبقدونس والفلفل الاحمر المطحون، وقليل من الزعتر، والكمون، وقليل من عصير الليمون، وتوضع فوقها شريحة سمك اخرى، ثم يغمس في الدقيق ويقلى في زيت حار الى ان يتحمر من الجهتين، ويؤكل ساخنا.
اما السردين المشوي فلا يحتاج الى نزع احشائه، بل يغسل جيدا ويضاف اليه الملح، ويوضع فوق المشواة على الفحم، او داخل فرن الغاز، وترفق معه سلطة الطماطم والبصل والفلفل الاخضر.
وهناك طريقة اخرى لتحضير السمك وهي تحويله الى كفتة، بحيث ينظف وينزع منه الشوك، ثم يطحن، ويعمل منه كويرات صغيرة بعد تتبيلها بالبقدونس والثوم والفلفل، والكمون، والملح، ثم تطهى مع صلصة الطماطم، او يعمل منها دوائر مبسطة تقلى في الزيت الحار.
ولتحضير طاجين من سمك السردين، فهناك ايضا عدة طرق، منها، ان تصف دوائر البطاطس اسفل الطاجين المخصص للسمك ويكون مصنوعا من الفخار، وشكله بيضاويا، ويضاف اليها دوائر الطماطم، ثم دوائر من الفلفل الاخضر، والليمون، ثم يوضع فوقها شرائح سمك السردين المزدوجة.
ويتبل بنفس الطريقة مع اضافة الفلفل الحار حسب الرغبة، ثم يصب فوقه القليل من الماء ويترك لينضج على نار هادئة في الفرن حتى يصبح السردين مقرمشا، كما يمكن اعداد طاجين السردين باضافة الطماطم المطحونة، او المقطعة الى شرائح صغيرة فقط، وعمل نفس التوابل، وتركه ينضج في الفرن.
ويعتبر السردين من الاسماك الغنية بالبروتين والفيتامينات والمعادن مثل الكالسيوم والماغنيزيوم، كما يعد مصدرا اساسيا لزيوت (اوميغا 3) المفيدة لجهاز المناعة والجهاز العصبي.
وبالرغم من ان المغرب يتوفر على 3500 كيلومتر من الشواطئ، الا ان معدل استهلاك الفرد من الاسماك لا يتجاوز 10 كيلوغرامات.
المصادر : مواقع الكترونية – مواقع مغربية – الجزيرة