القارة القطبية الجنوبية، خامس قارات العالم في الحجم، تشتهر بطيور البطريق والجروف الجليدية الضخمة والبعثات الاستكشافية الفاشلة، إلا أن هذه الرقعة المتجمدة في قاع العالم لم تكن دائما منعزلة كما هي اليوم، فقد كانت في يوم من الأيام جزءا من قارة عظمى أكبر. ولكن متى انفصلت “أنتاركتيكا” وأصبحت قارة منعزلة ووحيدة ومتجمدة حتى الموت؟
التاريخ الديناميكي للقارة
القارة القطبية الجنوبية أكبر كتلة جليدية على الأرض اليوم، وتغطي أكثر من 14 مليون كيلومتر مربع، وتكشف صخورها المخفية تحت الجليد عن التاريخ الديناميكي لها.
يقول ليبي آيفز، باحث الدكتوراه في علوم الأرض في جامعة “ويسكونسن-ميلواكي” (University of Wisconsin-Milwaukee)، إن “القارة القطبية الجنوبية مثلها مثل أي قارة أخرى فيها مجموعة متنوعة من المناظر الطبيعية، كسلاسل الجبال والوديان والسهول، التي تشكلت جميعها من خلال تاريخها الجيولوجي”، إلا أنه لا يزال كثير من هذا التاريخ الجيولوجي لغزا، لأن أقل من 1% من القارة بها صخور مكشوفة يمكن أن تساعدنا على سرد هذه القصة.
العديد من الصخور المكشوفة في القارة القطبية الجنوبية هي جزء من سلسلة الجبال العابرة للقارة القطبية الجنوبية (Transantarctic) التي يبلغ ارتفاعها نحو 4500 متر، أو أعلى من جبال روكي في أميركا الشمالية.
ويتابع آيفز أن القارة الشاسعة تنقسم إلى قسمين هما الشرق والغرب. ومن بين ما توصل إليه الجيولوجيون، فإن شرق القارة القطبية الجنوبية عبارة عن “كراتون” (craton)، أي كتلة قارية قديمة من قشرة الأرض ووشاح علوي مكوّن من صخور نارية ورسوبية متحولة، يبلغ عمر بعضها أكثر من 3 مليارات سنة.
على النقيض من ذلك، فإن غرب القارة القطبية الجنوبية يعدّ عمره أحدث نسبيا، ويتكون في الغالب من صخور بركانية تشكّلت في حلقة النار النشطة تكتونيا في الوقت الذي بدأت فيه القارة العملاقة “جندوانا” (Gondwana) التفكك في العصر الجوراسي، منذ 201.3 مليون إلى 145 مليون سنة.
القارة العملاقة القديمة
ووفقا لموقع “لايف ساينس” (Live Science) فإن قارة جندوانا لها جذور قديمة، فقد تشكلت منذ نحو 600 مليون سنة في أواخر حقبة “إيدي كاران” (Ediacaran)، قبل وجود قارة “بانجيا” (Pangaea) العملاقة، التي تعني “الكل”، و”الأرض” باللغة الإغريقية، كما يطلق عليها “القارة الأم” باللغة العربية.
ومنذ نحو 200 مليون سنة، انقسمت “بانجيا” إلى قطعتين هائلتين: شبه القارة العملاقة لوراسيا في الشمال وجندوانا في الجنوب.
وتضم جندوانا أجزاء من القارة القطبية الجنوبية الحديثة وأفريقيا، وأستراليا، والهند، وأميركا الجنوبية، ومنذ نحو 180 مليون سنة بدأت جندوانا الانقسام إلى أجزاء قارية مألوفة لنا اليوم.
ووفقا لموقع “ديسكافرينج أنتاركتيكا” (Discovering Antarctica)، تتطابق الصخور البازلتية الموجودة على الحافة الشرقية للقارة القطبية الجنوبية مع تلك الموجودة في جنوب أفريقيا، التي تمثل الانقسامات المبكرة في جندوانا.
أنتاركتيكا كانت أكثر دفئا
ووجدت دراسة عبر “النمذجة” عام 2006 أن القارة القطبية الجنوبية كانت أكثر دفئا مما هي عليه اليوم، وذلك في حقبة “الحياة الوسطى” (Mesozoic era)، منذ (252 مليونا إلى 66 مليون سنة)، وكان بها غابة مطيرة معتدلة ممتلئة بالديناصورات والحياة القديمة الأخرى في العصر “الطباشيري” (145 مليونا إلى 66 مليون سنة).
وكانت القارة القطبية الجنوبية في الواقع بمنزلة ممر جنوبي رئيسي لعشرات الملايين من السنين، وقد ظلت أميركا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية وأستراليا متصلة ببعضها بعضا، وذلك سمح للنباتات والحيوانات بالانتقال والتمدد عبر أراضيها الواسعة.
وعلى سبيل المثال، تُظهر الأدلة الأحفورية أن “الجرابيات” (marsupials)، التي نشأت في أميركا الشمالية منذ 125 مليون سنة على الأقل، تحركت جنوبا إلى أميركا الجنوبية وشرقا عبر القارة القطبية الجنوبية قبل أن تصل في النهاية إلى أستراليا قبل 55 مليون سنة على الأقل، وذلك وفقا لما ذكره موقع “لايف سيانس” في تقرير سابق.
متى أصبحت أنتاركتيكا قارة معزولة وحيدة وباردة؟
العلماء ليسوا متأكدين من الزمن الذي أصبحت فيه القارة القطبية الجنوبية منعزلة رسميا، فاقدة بذلك جميع روابطها البرية مع أستراليا وأميركا الجنوبية.
ويقول “مات لامانا” عالم “الحفريات الفقارية” في متحف “كارنيجي للتاريخ الطبيعي” في بيتسبرغ (Carnegie Museum of Natural History in Pittsburgh)، لـ”لايف ساينس” إن “الإجابة تعتمد نوعا ما على ما يعدّه المرء تفككا قاريا”.
وتابع “هل كانت هذه في المرة الأولى حينما بدأت مياه البحر تفصل بين الكتلتين الأرضيتين المتجاورتين سابقا، مع إمكانية تنقل الكائنات البرية بينهما بسهولة، أم إن ذلك كان عندما أصبح ذلك المحيط أو البحر واسعا وعميقا للغاية، فأصبح التنقل صعبا؟”.
ومع ذلك، توصلت أحدث الأبحاث إلى أن ممر دريك، بين القارة القطبية الجنوبية وأميركا الجنوبية، وبوابة تسمانيا، بين القارة القطبية الجنوبية وأستراليا، قد افتتحا تماما عندما تحول عصر “الإيوسين” (Eocene) إلى عصر “أوليغوسين” (Oligocene) قبل نحو 34 مليون سنة.
وعند التفكك النهائي للقارات، تقدمت أستراليا إلى الشمال، في حين شرعت القارة القطبية الجنوبية في الانجراف جنوبا.
ومع اتساع ممر دريك وبوابة تسمانيا بين القارات، سُمح للمياه الباردة بالتدفق المستمر حول القارة القطبية الجنوبية، وعُزلت القارة عن التيارات المحيطية الدافئة في قاع الكوكب، فبدأت القارة القطبية الجنوبية تتجمد. ويشرح آيفز “سمح افتتاح ممر دريك وبوابة تسمانيا للتيار القطبي الجنوبي بالتشكل الكامل”، و”كانت هذه هي الأحداث الأخيرة في تفكك جندوانا”.
أنتاركتيكا وتغير المناخ
تؤدي القارة القطبية الجنوبية اليوم دورا أساسيا في نظام مناخ الأرض، فالصفائح الجليدية الضخمة التي تغطي القارة تعكس ضوء الشمس القادم، وذلك يحافظ على برودة القارة، إلا أنه مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب بسبب تغير المناخ سوف يذوب الغطاء الجليدي، ومن ثم ستتعرض مزيد من الصخور للاندثار، ولكنه يعكس أيضا كمية أقل من ضوء الشمس القادم ويؤدي إلى استمرار الاحترار الكوكبي.
وتمتد الصفائح الجليدية أيضا فوق المياه المجاورة، مثل “المحيط الجنوبي” (Southern Ocean) و”بحر ويديل” (Weddell Sea) و”بحر روز” (Ross Sea)، لتتشكل جروفا جليدية تتفكك أحيانا.
ومع تحرر مزيد من الجليد، سيذوب، ويضيف كميات هائلة من المياه العذبة إلى محيطات الأرض.
واليوم، يدرس العلماء بنشاط الجليد في القارة القطبية الجنوبية والرواسب في البحار والمحيطات المجاورة لفهم تقلبات المناخ السابقة، وشرح كيف يمكن أن يؤثر تغير المناخ في الكوكب كله.
المصدر: الجزيرة