“أحيانا كثيرة نقنن وجباتنا الغذائية اليومية، نظرا لارتفاع الأسعار بشكل كبير، أما عن الحلويات والموالح فقد حذفناها من قواميسنا منذ زمن طويل” بهذه الكلمات القليلة تشرح عفاف إبراهيم أحوال عائلتها المعيشية في هذه البلاد التعيسة، التي تدور فيها أزمات جمة على مدار عشر سنوات.
إذا ما نظر المرء إلى المجتمع السوري، فسيجده مثل اللونين؛ الأسود والأبيض، مقسم بشكل جلي إلى فئتين؛ الطبقة الغنية أو المخملية إذا جاز التعبير، والطبقة الفقيرة التي باتت من نصيب نسبة كبيرة من السوريين اليوم، والتي تُشكل أكثر من 85 بالمئة تقريبا، وهي نسبة مُخيفة في الواقع، تنذر بنتائج سلبية في المستقبل المنظور لهذا البلد المُتعب.
“عندما أمر بجانب المطاعم وأشاهد الناس في الداخل، أو حتى أولئك الذين يشترون كل ما يشتهون ويرغبونه من المولات، تحزّ في قلبي حسرة، وأقول لنفسي من أين يحصلون على كل هذه المصاريف اليومية، فإن فاتورة واحدة لسهراتهم في المطاعم ربما تقارب راتبي الشهري بالكامل. من جهة أخرى أتحسر على أطفالي الذين لا يتذكرون طعم الشاورما ربما لندرة أكلها، رغم أن قيمة السندويشة الواحد أربعة آلاف ليرة سورية فقط، أي عدالة نعيشها اليوم!” تضيف السيدة الخمسينية لموقع “الحل نت”، وهي تنفث أنفاسها بعمق وحزن شديدين.
الفرق شاسع.. “فقراء ومخمليون”
دراسات سابقة أظهرت أن الطبقة الغنية في سوريا تنفق 5 أضعاف ما ينفقه 80 من السوريين، كما وتُشير هذه الدراسات أن نحو 20 بالمئة من الشعب السوري ينفق خمسة أضعاف ما ينفقه البقية من المواطنين، أي أنه إذا اعتبرنا ووفقا لبعض التقديرات أن عدد الأسر السورية 3 ملايين أسرة ، فإن 600 ألف أسرة تنفق ما تنفقه 2.4 مليون أسرة.
وفق التقديرات إذا ما اعتبرنا أن مصروف الأسرة 16 دولار أميركي يوميا، مضروبا بـ3 مليون أسرة فسينتج لدينا 48 مليون دولار استهلاك يومي للأسر السورية، أي نحو 26 مليار ليرة سورية يوميا، أي بواقع 10000 مليار ليرة سورية سنويا، وبالتالي فإن 2 ألف مليار هي حصة الـ 80 بالمئة من الأسر السورية، و8 آلاف مليار ليرة تذهب لـ20 بالمئة التي تشكل الطبقة المخملية والقريبة منها.
تقول السيدة عفاف إبراهيم، التي تعيش في إحدى الضواحي الشعبية في العاصمة السورية دمشق، إنها تعمل موظفة حكومية وبالكاد يصل راتبها إلى نحو 140 ألف ليرة سورية أي نحو 30 دولارا وربما أقل من ذلك، ويذهب معظمه لأجار المنزل المتواضع الذي تعيش فيه مع أسرتها المكونة من 6 أفراد، هي وزوجها وأولادها الثلاثة، بالإضافة إلى والدة زوجها (حماتها).
من جانبها، قالت أستاذة علم الاجتماع في جامعة دمشق د. هناء برقاوي، بأن هناك انتشارا لعمالة الأطفال بنسبة كبيرة، وتقديريا ارتفعت النسبة بحوالي 20-30 مرة عن حقبة ما قبل الحرب، مرجعةً السبب للوضع الاقتصادي والخلافات الأسرية والطلاق وتفكك العائلة التي ازدادت نسبها بشكل كبير، بحسب إذاعة “ميلودي” المحلية، قبل أيام.
وأردفت برقاوي: “لا يمكن الحكم على الوضع في سوريا كون المجتمع يُقسم لفئتين ناس بالمولات والمطاعم وآخرون لا يجدون قوت يومهم”، قائلة إن تكلفة الطفل الرضيع الواحد تصل شهريا إلى 300 ألف في حال الرضاعة الطبيعية دون الحليب الصناعي.
برقاوي لفتت إلى أن تكلفة الطالب المرتفعة تدفع بعض الأهالي ليُخرجوا أولادهم من المدرسة، مضيفة: “هناك سيدة امتنعت عن إرسال ابنتها للمدرسة بسبب العجز عن شراء القرطاسية المكلفة جدا، حيث يبلغ متوسط تكلفة التلميذ 400 ألف فقط للمستلزمات الدراسية”.
من جانب آخر، فإن فئة الذين يرتادون المطاعم والمولات هم من الطبقة الغنية ومتوسطي الدخل القريبة من الغنية بقليل، الذين يعملون بأجور جيدة مقارنة بالرواتب الحكومية الهزيلة، ومن بينهم فئة الأطباء والمهندسين والتجار والعاملين في الأعمال الحرة. صحيح أن معظمهم هاجروا إلى خارج سوريا، لكن لا تزال هناك نسبة منهم متبقية في البلاد وباتوا أقرب إلى الطبقة الغنية التي اغتنمت الفرصة خلال الأزمات ورفعت مستوى دخلها وثروتها.
رئيس شعبة المطاعم في غرفة السياحة بدمشق ماهر الخطيب، كشف في وقت سابق عن أن نسبة كبيرة من المطاعم والمنشآت السياحية ستغلق أبوابها خلال الفترات المقبلة نتيجة لأسعارها المرتفعة، وعزا الخطيب في تصريحات صحفية سابقة، ذلك لارتفاع أسعار الغاز الصناعي والمازوت وارتفاع سعر تنكة الزيت والمواد الغذائية الأخرى بسبب تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، مؤخرا.
وكانت وزارة السياحة السورية قد أصدرت، في كانون الثاني/يناير الفائت، الأسعار الجديدة لمنشآت المطاعم، لتشمل لائحة من الأسعار التأشيرية متضمنة الأطباق والأركيلة أو الخدمات الأكثر انتشارا بين المنشآت السياحية.
الأسعار الجديدة كانت، على سبيل المثال سعر الأركيلة للمنشآت تصنيف نجمتين وصل إلى 5500 ليرة سورية، وللمنشآت من مستوى 3 نجوم وصل إلى 6400 ليرة، وأكثر من ذلك بالنسبة للمنشآت من فئة 4 و5 نجوم. وبالطبع في الوقت الحالي الأسعار مرتفعة عن المذكورة آنذاك.
ضرورة العمل بوظيفتين
“بالنسبة للحوم فنقوم بشرائها في المناسبات فقط، وتحديدا لحم الفروج، وأحيانا نمتنع عن تناولها، بسبب ارتفاع أسعارها التي وصلت الآن إلى مستويات لا تتناسب مع دخلنا؛ أنا وزوجي. أما الحلويات والموالح فنشتري فقط النوع الرخيص منها، مثل الشعبيات أو القطايف وبزر دوار الشمس، وكل ثلاثة أو أربعة أشهر حسب الجيبة كما يقولون”، تضيف عفاف إبراهيم في معرض حديثها مع “الحل نت”.
عفاف، تعطي دروسا خصوصية للطلاب في منازلهم بالإضافة إلى وظيفتها الحكومية، وإلا فلن تتمكن من تغطية نفقات معيشة أسرتها التي باتت مكلفة مقارنة بمعدل رواتب الموظفين الحكوميين، فتقول: “في المساء، أدرس الطلاب دروس خصوصية في بيوتهم، وكلهم من أسر مقتدرة ماديا، وحاليا لدي أربعة طلاب وهم من المرحلة الابتدائية، وفي كل شهر أتقاضى 100 ألف ليرة سورية على كل واحد منهم”.
وفي خضم الأوضاع المعيشية الخانقة التي يعيشها غالبية السوريين، بسبب الارتفاع غير المسبوق في الأسعار، واستمرار فقدان الأجور والرواتب، جزء كبير من قيمتها المستحقة بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية مقابل العملة الأجنبية، أصبح الراتب الشهري لا يكفي سوى ليومين فقط، وهو ما دفع السوريين إلى البحث عن تأمين احتياجاتهم ومصادر دخل جديدة لهم، والتي تتمثل في العمل بوظيفة ثانية أو الاعتماد على الحوالات المالية الخارجية، وبعض الأعمال الأخرى التي أنتجتها الحرب على مدار السنوات الماضية.
في سياق توجه السوريين إلى أعمال أخرى يعتاشون عليها بدلا من الرواتب الحكومية الهزيلة، قال أبو وائل، أنه وضع شهاداته العلمية جانبا، كما أنه أخذ إجازة من دون أجر من عمله، ولجأ إلى العمل في “تعقيب المعاملات”، موضحا في تصريحات صحفية سابقة: “كلما كانت المعاملة أكثر دسامة وتعقيدا درّت عليّ تعويضا أكبر، سواء كانت لمغتربين أم غيرهم ممن تعوقهم ظروفهم، أي كانت عن متابعة خطوات سير معاملاتهم بأنفسهم، فهذا يريد دفع بدل نقدي للإعفاء من الخدمة العسكرية، وآخر عليه دعاوى قضائية تستوجب المتابعة والدوران في دهاليز المحاكم، وثالث يريد تجديد جواز سفره وهلم جرا”، وفق ما نقلته صحيفة “تشرين” المحلية، مؤخرا.
بينما أوضح أبو أمجد (أب لخمسة شبان) من جانبه، أن الأجر الذي تقاضاه مقابل تعهده بالإشراف على عملية تغطية شقة قريبه المغترب وصل خلال فترة قياسية إلى عشرة أضعاف الأجر الذي يتقاضاه من عمله الحكومي، وكان ذلك مبلغ “طارئ”، إذا جاز التعبير وتزامن مع موسم الإمدادات، وكفى الشر لإطالة قائمة ديونه.
وللإناث أيضا نصيب في هذا الأمر، حيث تعبّر نادين، عن سعادتها لمواكبة سوق العمل الرائج حاليا، لذلك خصصت ركنا صغيرا في منزلها لعرض مستحضرات التجميل، والبضائع النسائية برأس مال صغير وخطوات ترويجية بسيطة أمّنتها صفحتها على منصة “فيسبوك”، فكانت بذلك سندا لزوجها ومعينا لعائلتها.
وخلال السنوات الماضية ونتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية في سوريا، تنامت المشاريع المنزلية متناهية الصغر، من مختلف الأنواع، وكانت من بين أكثر المشاريع ظهورا وانتشارا، هي مشاريع المطابخ المنزلية، إذ لجأ العديد من السوريين، وخاصة النساء منهم إلى تأسيس أعمال منزلية بتكاليف منخفضة نسبيا للمساهمة في إعالة أُسرهم.
تلاشي الطبقة الوسطى
لطالما كانت الطبقة الوسطى في المجتمع السوري هي الطبقة الأهم والأوسع والتي كانت تسبب استقرارا اقتصاديا واجتماعيا، و تعتبر الطبقة الوسطى عادة المحرك الأهم لعجلة أي اقتصاد، ولكنها بدأت بالتلاشي شيئا فشيئا خلال سنوات الماضية.
نقلت صحف محلية في وقت سابق عن خبراء اقتصاديين قولهم، أن نسبة الطبقة الوسطى من المجتمع بلغت 1 بالمئة، بينما بلغت نسبة الثراء الفاحش نحو 3 بالمئة وهم من فئة “الحيتان” أي تجار الحرب والذين استغلوا سنوات الحرب وصعدوا على أكتاف المواطنين وبتقاعس مع مسؤولي الحكومة السورية.
هذا بالإضافة إلى الطبقة الغنية إلى حد ما وهي نحو 10 بالمئة ومعظمهم من فئة الأطباء والمهندسين والتجار المخضرمين، بينما تعتبر بقية النسبة وهي 85 بالمئة من الفقراء وهم من فئة الموظفين الحكوميين والذين يعملون في أعمال عادية.
وأوضح الخبراء، أن أسباب تلاشي الطبقة الوسطى بدأت بالحرب التي تلاها الحصار والحرب الاقتصادية، إضافة إلى غياب أية إجراءات حكومية لمواجهة انهيارات القدرة الشرائية لليرة السورية، وتغول التجار، والفساد المستشري، كل ما سبق أدى لتراجع الطبقة الوسطى وتحوّلها إلى طبقة فقيرة، وأن كل القرارات الحكومية من رفع الدعم، وعدم استقرار الأسعار وندرة المواد وخاصة المحروقات ومادة الخبز، تؤدي لتوسع الشرائح الفقيرة.
وأشاروا إلى حدوث ما يشبه سكتة اقتصادية نتيجة كسر سلاسل المستهلكين، فلم تعد هناك قدرة لاستهلاك المواد المنتجة، ما أدخل البلد في مرحلة تضخم وكساد، ومع كل الآثار التي يلمسها المواطن اليوم لهذه المتغيرات، إلا أن النتائج ستكون أخطر مستقبلا، وقد تكون التبعات الاقتصادية أخطر من قبل إذا استمر التعامل مع المتغيرات على ما هو عليه، وفق ما نقلته صحف محلية في وقت سابق.
ونتيجة للغلاء المعيشي والذي تتسع فجوته يوما بعد يوم، واستمرار فقدان الأجور والرواتب، جزء كبير من قيمتها المستحقة بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية مقابل العملة الأجنبية، ازداد الإقبال من قِبل المواطنين على إصلاح وترميم الملابس القديمة بسبب الارتفاع الكبير في أسعار الملابس.
وبالعودة إلى السيدة الخمسينية، عفاف إبراهيم، فقد أشارت خلال حديثها لـ “الحل نت”، إلى أنها لا تشتري ملابس جديدة وبشكل دوري لأولادها إلى حين رداءة القديمة منها لحد الاهتراء والتلف، نظرا لأسعارهم المرتفعة والتي أصبحت في “العلالي”، مضيفة: “إذا أردت شراء بناطيل لكل واحد منهم فمن كل بد سأدفع ما لا يقل عن 100 ألف ليرة وربما أكثر حسب النوعية. ووضعنا الاقتصادي لا يسمح لنا بذلك حقيقة”، إن تأمين أولويات المعيشة هو الأجدى، وارتداء الملابس الجديدة يبقى من الرفاهيات والكماليات، على حد قولها.
عفاف من بين العديد من السوريين الذين يعملون في وظيفتين حتى يتمكنوا من تمرير ومواكبة الحياة المعيشية، بعد أن وصل راتب الموظف الحكومي إلى أدنى مستوياته مقارنة بالواقع المعيشي الصعب. ويُلاحظ أن معظم السوريين اليوم ينفقون أضعاف الراتب الشهري الذي يتلقونه من الحكومة، حيث ينفق البعض نحو نصف مليون ليرة سورية، والبعض الآخر مليون أو اثنين، حسب حاجة كل أسرة.