رغم الحديث الدائم في العواصم الغربية عن تقليص الاعتماد على المصانع الصينية، إلا أن بكين وطدت على مدار العامين الماضيين، مكانتها كمورد عالمي مهيمن للسلع المُصَنعة، وهو ما يصعب من مهمة الصين والغرب في فصل الاعتماد المتبادل بينهما.
ورغم أن بعض مكاسب الصين في الأسواق العالمية قد تتراجع مع تراجع تأثير الجائحة، إلا أن هذا الاتجاه الصاعد للصادرات الصينية، يسلط الضوء على “مدى صعوبة الانفصال عن أكبر مُصنع في العالم”، حسبما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية.
وتمثل الرغبة الغربية في الانفصال عن الصين تحدياً خاصاً، إذ تأتي في وقت توسع فيه المصانع الصينية نطاق عملها ليشمل المنتجات الأكثر تطوراً، مثل الشرائح الإلكترونية والهواتف الذكية، والتكنولوجيات الجديدة مثل السيارات الكهربائية والطاقة الخضراء.
وفي الآونة الأخيرة، زاد قلق الولايات المتحدة وبعض حلفائها من الاعتماد على الصين بسبب مخاوف تتراوح من الأمن القومي إلى هشاشة سلاسل التوريد العالمية.
الصين تريد الانفصال أيضاً
رغم أن الصين رفضت المخاوف الغربية، إلا أنها لديها أسبابها الخاصة لتفكيك روابطها مع الغرب أيضاً، وهو تحد طويل الأمد، بحسب “وول ستريت جورنال”، يقوم على “فصل الصين نفسها عما تتصوره اعتماداً مفرطاً على الأسواق الغربية”، والاعتماد بدلاً من ذلك على “الإنفاق في الداخل لدفع الاقتصاد الصيني إلى آفاق جديدة”.
وفي هذا الصدد، قالت “وول ستريت جورنال” إن طفرة التصدير الصينية وفرت دعامة قصيرة الأجل للنمو، لتعويض خسائر سياسة “صفر كوفيد” التي تنتهجها الحكومة.
وزادت حصة الصين من صادرات السلع العالمية من حيث القيمة خلال فترة تفشي الجائحة إلى 15% بحلول نهاية 2021 مقارنة بـ13% في 2019، وفقاً لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الذي يتابع التجارة العالمية.
وانخفضت حصة المنافسين الرئيسيين من الصادرات العالمية خلال الفترة نفسها، ما يشير إلى أن مكاسب الصين جاءت على حساب الآخرين.
وتراجع نصيب ألمانيا من الصادرات العالمية إلى 7.3% في 2021 مقارنة بـ7.8% في 2019. كما انخفض نصيب اليابان إلى 3.4% من 3.7%، وتقلص نصيب الولايات المتحدة إلى 7.9% من 8.6%.
منحت استفاقة الصين السريعة من صدمة كـ.ورونا الأولية في عام 2020 مصانعها ميزة تزويد الغرب بالسلع التي كانت محل طلب مُلح، مثل المعدات الطبية منخفضة التكلفة، كالكمامات وأدوات التحاليل، والبضائع الاستهلاكية مثل لوازم الحاسبات وأدوات التدريب التي زاد عليها الطلب من قبل العاملين في الغرب الذين أقعدتهم الجائحة لفترة طويلة بعيداً عن أماكن عملهم.
وأدت المنح السخية التي جادت بها حكومات الولايات المتحدة والاقتصادات المتقدمة الأخرى لدعم العمال خلال فترة الجائحة إلى مضاعفة الإنفاق الغربي. واكتظت المصانع الصينية بالطلبيات وزادت حصة الصين من الصادرات الرئيسية.
على سبيل المثال، أظهرت بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) أن حصة الصين من صادرات الإلكترونيات العالمية ارتفعت بنسبة 42% في 2021 مقارنة بـ38% في 2019، كما ارتفع نصيبها من صادرات المنسوجات إلى 34% من 32%.
طفرة تتحدى التوقعات
طفرة الصادرات الصينية استمرت في 2022 في تحد لتوقعات خبراء الاقتصاد بتباطؤ النمو في ظل ما يواجهه العالم من ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار الفائدة، إلى جانب اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ويرجع الفضل في ذلك، من بين عوامل أخرى إلى الأسعار، إذ ارتفعت تكلفة السلع الاستهلاكية مع تفشي التضخم عالمياً، وهو ما رفع بدوره من قيمة الصادرات الصينية بالدولار الأميركي.
وارتفعت قيمة الصادرات الصينية في يونيو 22% مقارنة بالفترة نفسها العام الفائت، وفقاً لمؤشر السلع والخدمات الذي نشرته الإدارة العامة للجمارك في الصين. فيما أظهر مؤشر آخر لحجم التجارة مكاسب بنسبة 5.5% فقط.
وبرغم ذلك، فقد استمر الطلب الخارجي على السلع الصينية بقوة أكبر بكثير مما توقعه خبراء الاقتصاد في العالم، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى جانب جيران الصين في آسيا.
استنزاف حصص المنافسين
من ناحية أخرى، أظهرت بيانات مكتب الإحصاء الأميركي أن عجز التجارة الأميركية مع الصين في الأشهر الستة الأولى من عام 2022 اتسع بنسبة 21% مقارنة بالفترة نفسها في العام السابق، إلى 222 مليار دولار.
كما زادت الصين في السنوات الأخيرة باطراد حصتها في السوق من المنتجات المصنعة الأكثر تطوراً والأعلى قيمة، مثل السلع الإنتاجية، والمركبات، والمحركات، والمعدات الثقيلة.
وقال روي جرين، رئيس وحدة بحوث الصين وآسيا في مركز دراسات “تي إس لومبارد” في لندن لـ “وول ستريت جورنال” إن ذلك يفسر أسباب “استنزاف” الصين لحصة سوق تصدير بلدان أخرى، مثل ألمانيا التي تتفوق بصورة تقليدية في صناعة وتصدير هذا النوع من المنتجات.
وبمساعدة بكين تقوم الشركات الصينية أيضاً باقتحام مجالات في قطاعات أحدث يُتوقع أن تشكل شريحة أكبر من التجارة العالمية في السنوات المقبلة.
على سبيل المثال، ارتفعت قيمة صادرات الصين من الخلايا الشمسية إلى 25.9 مليار دولار في النصف الأول من هذا العام بزيادة 113% عن العام السابق.
كما وصلت صادرات الصين من السيارات إلى مستوى قياسي شهري جديد في يوليو، بلغ حوالي 290 ألف وحدة، وفقاً لبيانات الجمارك الصينية مدعومة بمبيعات السيارات الكهربائية.
“محاربة الجغرافيا والاقتصاد”
وفي المقابل، حدثت درجة من الانفصال عن الصين في الولايات المتحدة، إذ انخفض نصيب الصين من إجمالي واردات الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة التي أضرت فيها التعريفات الجمركية ببعض السلع والشركات التي سعت إلى تقليل اعتمادها على الصين عن طريق تشغيل مصانع في دول أخرى، مثل فيتنام.
كما سعت السلطات الأميركية بدأب إلى الانفصال في بعض المجالات بسبب المخاوف الأمنية، مثل التكنولوجيا.
ولكن “وول ستريت جورنال” أشارت إلى أنه يبقى من الصعوبة بمكان على الدول الأصغر، خاصة في آسيا، الأخذ بتشجيع الولايات المتحدة في تقليل الاعتماد على الصين نظراً للثقل الاقتصادي الهائل للصين وأهميتها كمشتر وبائع في منظومة التجارة العالمية.
في هذا السياق اعتبر روي جرين أن “الولايات المتحدة تحارب الجغرافيا، والجاذبية الاقتصادية”.
خطر ضعف واردات الصين
ويرى خبراء في الاقتصاد أن طفرة الصادرات الصينية تبرز مدى خطورة اقتصادها “غير المتوازن”، برغم تعهدات بكين المتكررة بتعزيز الاستهلاك.
فالفائض التجاري للصين، الذي تضخم إلى أكثر من 100 مليار دولار في يوليو، لا يعكس فقط قوة الصادرات، وإنما أيضاً ضعف الواردات، وهي سمة مميزة لضعف الطلب المحلي.
وقال مايكل بتيسن، أستاذ المالية في جامعة بكين، لـ “وول ستريت جورنال” إنه بدلاً من مساعدة المستهلكين، ركزت استجابة بكين للجائحة على تقديم إعانات وقروض منخفضة الفائدة للمصنعين، تاركة المستهلكين الصينيين تحت نير المعاناة، والاقتصاد الصيني عرضة للتحولات المفاجئة تحت وطأة الشهية الخارجية للسلع الصينية.
وأضاف بتيسن: “من الخطأ تماماً أن ننظر إلى بيانات التجارة الصينية على أنها النقطة المضيئة في الأداء الاقتصادي الصيني”، مشيراً إلى أن انعدام التوازن في اقتصاد الصين مشكلة “تزداد سوءاً”.
المصدر: شهبا برس