ذكاء وتميز “السيدة الحرة” حاكمة تطوان.. ما لا تعرفه عن المغربية المسلمة “السلطانة المنسية” التي تقاسمت سيادة البحر مع بارباروس

يختزن التاريخ أمجاد العديد من النساء، وصفحاته حافلة بأمجادهن وإسهاماتهن في مختلف المجالات، فمنهن سلطانات وعالمات ومجاهدات، حفظ التأريخ لبعضهن اسما ورسما، وأضاع الكثير من تفاصيل حياة بعضهن ومسار تدافعهن مع الرجال والمجتمع.

ومن نساء المغرب اللواتي تميزن بالريادة ووضعن بصماتهن في التاريخ، تفردت السيدة الحرة حاكمة تطوان بلقب أميرة الجهاد البحري، وتميزت بريادتها في هذا النوع من المقاومة، وعرفت بذكائها وقوة شخصيتها وأظهرت مهارة كبيرة في الحكم والتدبير الاقتصادي.

وإلى جانب اهتمامها بالسياسة كانت تملك وتدير أسطولا بحريا، واقتسمت سيادة البحر الأبيض المتوسط بداية القرن 16 مع القبطان العثماني خير الدين بارباروس، الملقب بملك البحار.

سلطانة منسية

هي السيدة الحرة أو “الست الحرة” بحسب المؤرخين، ولدت بشفشاون حوالي سنة 1493 (899 للهجرة). ربيت ونشأت في حجر والدها الأمير علي بن موسى بن راشد، مؤسس مدينة شفشاون والحفيد الخامس للشيخ عبد السلام بن مشيش.

جاء في كتاب “سلطانات منسيات” للكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي، أن الحرة بين الحريم كانت تعني الزوجة الشرعية، والتي غالبا ما تكون منحدرة من علية القوم.. وتقول فاطمة “غالبا ما استعملت كلمة الحرة كمرادف لملكة أو سلطانة، حيث استعملها المؤرخون في إسبانيا وأفريقيا الشمالية واليمن”.

وتضيف فاطمة المرنيسي أن من النساء الأكثر شهرة عائشة الحرة المعروفة عند الإسبان باسم السلطانة مادري بوعبديل.

وهو تحريف لاسم ابنها محمد بن عبد الله. وتعود لتقول “يحافظ المؤرخون المسلمون على صمتهم تجاه الحرة الثانية هذه، كما حافظوا عليه بازدراء تجاه الأولى.. عمليا لا نجد معلومات في المصادر العربية عن هذه الملكة التي مارست السلطة فعلا خلال حوالي 30 سنة (1510-1542)”.

واعتبرت الحرة من النساء اللواتي أهملهن التاريخ، وأغلبية الكتابات القليلة عنها تعتمد على مصادر أجنبية. وتعليقا على هذا الأمر يقول الباحث في تاريخ وتراث شفشاون جمال الدين الريسوني -للجزيرة نت- “إن الإجحاف لم يلحقها كونها سيدة، بل لحق تاريخ منطقة شفشاون والفترة الراشيدية كلها”، موضحا أن الاحتلال أتلف المصادر، وأن أرشيفات ضاعت، منها ما أحرق ومنها ما هرب لإسبانيا.

وقال جمال الدين إن ما يعرف عن الحرة لم تُحفظ تفاصيله إلا من خلال بعض المصادر البرتغالية، مثل حوليات أصيلا لـ”برناردو رودريكس” (1508-1535)، وهو ضابط عسكري كان شاهدا على احتلال البرتغال لمُدن الشمال المغربي، يحكي فيها عن المقاومة.

وبالنظر إلى شح المصادر التاريخية حولها، اختلف المؤرخون بشأن اسمها، فبعضهم يقولون إن اسمها عائشة، ويذكر آخرون أنها لقبت بالحرة تمييزا لها عن الإماء، في حين يقول فريق آخر إن اسمها الحقيقي هو “الحرة” وليس لقبا ولا صفة لها، بل هو اسمها الشخصي.

ويؤكد الباحث في التاريخ جمال الدين الريسوني -للجزيرة نت- أن الحرة هو اسمها الثابت والمحقق، وهو اسم شخصي وليس لقبا، والشاهد عند الريسوني هو عقد زواجها بالسلطان الوطاسي.

ويضيف أن علي بن راشد كان يتردد على بلاط أبي عبد الله محمد بن الأحمر آخر ملوك الأندلس، للتمرس على الجهاد وأمور السياسة، حيث تزوج بالأندلس من كاترينا فيرنانديز التي أسلمت وسميت بـ”الزهرة” وأنجبت منه الحرة، ولفت إلى أن أم السلطان أبي عبد الله محمد بن الأحمر اشتهرت باسم الحرة حسب الكتابات التاريخية، وابن راشد سمى ابنته تيمنا بها.

وفي كتابه “من تاريخ شفشاون”، خصص طه بن فاروق الريسوني فصلا عنونه بـ”السيدة الحرة اسم أصيل وغيره من هوى التأويل”، يقول فيه “الحجة العلمية الحاسمة لتسكين هذا الجدال التاريخي ومخافتة أصحاب الهوى، هو الاحتكام إلى رسم (وثيقة) زواج ابنة مؤسس شفشاون دفينة الزاوية الريسونية سيدي بلحسن بالسلطان أحمد الوطاسي، وحسب الوثيقة.. خطب ابنته الأصيلة البرة المسماة بالحرة أجمل الله صونها وأحسن على طاعته عونها..”.

ذكاء وتميز

تلقت السيدة الحرة تعليمها على يد أشهر العلماء ورجال الدين بشفشاون. يقول صاحب كتاب “أسرة بني راشد بشمال المغرب”، بحسب مقال في مجلة دعوة الحق “تروي لنا الأخبار -سواء البرتغالية أو الإسبانية- أن هذه السيدة النبيلة كانت تتوفر على ذكاء نادر، وأخلاق سامية هيأتها لتأخذ بيدها السلطة، وذلك بسبب التعليم الذي تلقته من أشهر العلماء ورجال الدين في عصرها..”.

ففي فترة تاريخية لها طابع خاص في علاقتها بالنساء وما كان يعرف بالحريم وسلطته من داخل القصور، تميزت الحرة خارج القصور وسادت وحكمت وأدارت الاقتصاد والسياسة وقادت إمارة البحار.

يوضح جمال الدين الريسوني أن الحرة كانت تتميز بالجمع بين ثقافتين، ثقافة أندلسية حضارية عريقة، وخصائص المنطقة الجبلية بين شفشاون وتطوان التي تمتاز بالقساوة وصلابة الجبال مما أكسبها قوة الجهاد، أما رقيها وحليها ولباسها وشكل الأكل والمنزل الذي كانت تعيش فيه، فكان بنمط أندلسي.

زواج وحكم

تزوجت السيدة الحرة من القائد المنظري بتطوان في حياة والدها علي بن راشد، وذلك حوالي سنة 1510 (916 للهجرة)، وكان الزواج بمثابة تحالف بين إمارة شفشاون وقيادة تطوان، لأجل تقوية جبهة الدفاع ضد البرتغال. وبسبب نضجها وحنكتها كان زوجها يفوضها ويستشيرها في أمور السياسة والحكم، وتمكنت من تولي بعض الأحكام أثناء غيابه عن المدينة، واكتسبت خبرة وتجربة سياسية، وحكمت تطوان بعد وفاة زوجها عام 925 للهجرة.

وتقول بعض الروايات إن أخاها الأمير إبراهيم بن علي بن راشد حاكم شفشاون كان وزيرا للسلطان أحمد الوطاسي وقائدا لأركان حربه، وهو من قام بتنصيب أخته حاكمة على تطوان. بينما تقول روايات أخرى إنها بزواجها من السلطان أحمد الوطاسي ضمت ولاية تطوان إلى حكمه وكانت تحت سيادته، وهو ما أغضب المنظرين الذين انقلبوا عليها فيما بعد.

ويقول جمال الدين الريسوني -للجزيرة نت- إن السلطان الوطاسي تزوج بالحرة وعينها ولية على تطوان التي حكمتها لمدة 18 سنة، كما تزوج أخوها إبراهيم بأخت السلطان مولاي أحمد الوطاسي، وكان الصدر الأعظم ويوقع باسم المغرب، لوجود وثائق لاتفاقيات دولية وقعها الأمير إبراهيم بتفويض من السلطان.

كما تقول فاطمة المرنيسي: “في حين كانت الحرة -بحسب المصادر الإسبانية والبرتغالية- شريكة في اللعبة الدبلوماسية، كانت (أيضا) حاكمة تطوان ورئيسة القرصنة دون منازع. تزوجت الملك أحمد الوطاسي ولم تتنازل عن دورها السياسي. طلبت منه الانتقال من العاصمة فاس إلى تطوان لإقامة حفل الزفاف، وكانت تلك المرة الوحيدة في تاريخ المغرب التي يتزوج فيها ملك خارج عاصمته”.

أسطول بحري وتفرد نسائي

ويوضح جمال الدين الريسوني أن السيدة الحرة أذاقت المستعمر الصليبي الويلات وأنواعا من العذاب، وبقيت عقدة لهم رسموا عنها أسطورة كانوا يخيفون بها أبناءهم. ويضيف الباحث في التاريخ أن الحرة أولت اهتماما كبيرا بالجانب العسكري لعلاقته بالجهاد البري والبحري، وكان لها أسطول متأهب دائما للقيام بغارات ضد الإيبريين (نسبة لشبه جزيرة إيْبِيرِيَا التي تقع في الجزء الجنوبي الغربي من قارة أوروبا، وتتكون من إسبانيا والبرتغال وأندورا ومنطقة جبل طارق).

واعتبر الريسوني أن الجهاد البحري عند السيدة الحرة من النماذج الفريدة في المجتمع الإسلامي للمرأة المغربية والمسلمة، في صنف متميز من المقاومة.

وتحت قيادتها، استطاع جيش السيدة الحرة تأمين القسم الغربي من سواحل المتوسط بشكل كامل، وقد زرعت الرعب في قلوب البرتغاليين والإسبان لدرجة أن هؤلاء كانوا يدعون أن يروها معلقة يوما ما على ناصية إحدى سفنهم، بحسب الريسوني.

ونقل المؤرخون عن الكاتب سبستيان بركاز قوله “إنها كانت شديدة الانفعال: ففي إحدى المناسبات تشاجرت مع حاكم سبتة (ألفونسو دي نورنها) فلجأت إلى العنف والحرب، لأنها كانت شديدة الاندفاع وميالة إلى الحروب.. وكانت مهتمة بتجارة الرقيق من المسيحيين على مستوى عال، وكانت سفنها دوما تجوب البحار، وكانت المراكب الجزائرية تلقى حفاوة بمرسى تطوان…”، بحسب مجلة دعوة الحق المتخصصة.

ويوضح جمال الدين الريسوني أن الحرة استفادت من عدة دعائم لتقوية أسطولها، وهي: زواجها من السلطان، ونسبها لابن راشد، وكونها أختا للصدر الأعظم، ثم خبرة خالها “فيرنالدو مارتين” في الموانئ، فقد أنشأ ميناء مارتين.

تحالف مع بارباروس

وكانت الإمبراطورية العثمانية في أوجها في عهد السلطان سليمان القانوني، وقد سيطرت على شمال أفريقيا إلى حدود الجزائر، في حين تمتع المغرب بالسيادة على أراضيه.

ويقول المؤرخون إن وحدة الهدف دفعت السيدة الحرة للاتفاق مع القبطان التركي خير الدين بارباروس -الملقب بملك البحار لما حققه من انتصارات في البحر الأبيض المتوسط- على تقاسم مناطق الجهاد، حيث أشرفت هي على غرب المتوسط من جهة المغرب، وقاد هو العمليات في شرق المتوسط من جهة الجزائر.

ويؤكد الريسوني أن أمر التحالف مثبت، ومن مؤكد أن السيدة الحرة كانت طرفا ثالثا يدير الجهاد البحري في البحر الأبيض المتوسط مع خير الدين بارباروس وأخيه عروج، ويضيف المؤرخ أن كتابات تركية تتحدث عن حقبة التعاون بين الأميرة الحرة وخير الدين وعروج.

وذُكرت الحرة في الكتب الأجنبية بالكونتيسة، ويرجّح أنها أصل الأسطورة الشعبية “عيشة قنديشة”، وحيكت حولها العديد من الأساطير واختلطت حكاية قوتها بالخيال، ونعتت بجنية البحار.. ولا تزال بعض الأقوال تروج اليوم دون معرفة أصلها، كأن يقال “100 جنية وجنية ولا واحدة شاونية”، كناية على تفوقها ومهاراتها في مجال كان وبقي حكرا على الرجال.

المصدر : الجزيرة

Exit mobile version