منوعات

من لاجئ إلى لوحة فنية للبيع ..قصة الرجل الذي باع ظهره

تسعى المخرجة التونسية كوثر بن هنية إلى خلق أسطورتها الخاصة، فهي لا تتكئ على الماضي ولا تعود إليه، وبدلا من أن تقول “كان يا مكان في قديم الزمان” تلتفت إلى الزمن الحاضر، وتحدّد المكان من دون خوف أو وجل، لتقول “كان هنا لاجئ سوري غادر وطنه إلى بيروت بسبب الحرب المشتعلة كي يلتقي بحبيبته عبير.

وبعد أن باع ظهره وحوّل جلدهُ إلى كانفاس حيِّ متنقلّ يُعرض أمام الجمهور فقَد حريته، وحينما حصل على المال ووصل إلى بلجيكا؛ وجد أنّ حبيبته عبير قد تزوجت”.

قد تبدو قصص الحُب والهروب من الأنظمة القمعية وطلب اللجوء في البلدان الأوروبية عادية ومألوفة، ما لم تسعفها تقنية جديدة ومعالجة فنية غير مطروقة من قبل.

وذلك بعد أن تعاقد معه على شراء ظهره واستعماله كسطح تصويري حيّ مقابل حصوله على تأشيرة شنغن التي تسمح له بحرية الحركة في غالبية الدول الأوروبية المنضوية تحت شروط هذه الاتفاقية.

هذا العمل الفني الحيّ الذي نقشه الفنان “جيفري غودفروي” على ظهر سام علي يُحيلنا مباشرة إلى العمل الفني الذي نفّذه الفنان البلجيكي “فيم ديلفويَ” على ظهر المواطن السويسري “تيم شتاينر”، وقد اقتناه تاجر الأعمال الفنية الألماني “ريك رينكنغ”، ودفع له ثلث ثمن العمل الذي بلغت قيمته 130 ألف يورو، وسوف يظل جسد “شتاينر” إطارا لهذا العمل الفني، وحينما يموت يُسلَخ جلده للاحتفاظ بالعمل الفني الثمين الذي يعود لممتلكات “رينكنغ”.

“يوهان فاوست”.. إلهام الرجل الذي باع روحه للشيطان

لا تكتمل سردية الفيلم البصرية ما لم نتذكر العقد الذي أبرمه الدكتور “يوهان فاوست” مع الشيطان، حين سلّم له روحه مقابل الحصول على المعرفة المطلقة والملذات الدنيوية. وأكثر من ذلك، فإن المخرجة شحنت تضاعيف الفيلم وبعض مَشاهده بطاقة فلسفية، إذ تحوّل هذا اللاجئ السوري إلى سلعة باهظة الثمن يتاجر بها الأوروبيون الأثرياء من جامعي التحف والأعمال الفنية الغريبة.

وإضافة إلى التشيؤ والتسليع، يطرح الفيلم سؤال الحرية المفتقدة في عالمنا العربي الذي تقسّمه الحدود المصطنعة وتقيده التأشيرات التي دفعت الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم لأن يكون شيئا أو سلعة قابلة للبيع والشراء، من دون النظر إلى كرامة الإنسان وقدسيته ككائن بشري ينبغي أن يحظى بأعلى درجات الاحترام، ويعيش حياة كريمة لا يحتاج فيها أن يبيع روحه للشيطان، وجسده لتجّار التحف الفنية.

لم يأتِ الفنان المفاهيمي البلجيكي “فيم ديلفويَ” بفكرة النقش على أجساد البشر والحيوانات من نفسه، وإنما استوحاها من الفن الياباني الذي يرسم على جلود البشر، ثم تسلخ بعد مماتهم، وتحوّل هذه الجلود إلى سطوح تصويرية مسطحة تماما بفعل المعالجة التقنية المتطورة.

تسير أحداث هذا الفيلم ووقائعه وفق خط زمني مستقيم يركِّز بادئ ذي بدء على شخصية البطل سام علي التي جسّدها الممثل السوري الشاب يحيى مهايني بكثير من المهنية والتوهج والإتقان، الأمر الذي دفع لجنة التحكيم في الدورة الـ77 لمهرجان البندقية لمنحه جائزة أفضل ممثل، وذلك لتقمصه هذا الدور وتألقه فيه.

صالة الفن التشكيلي.. امتهان الإنسان السوري

تعود بنا الأحداث إلى انتفاضة الشعب السوري عام 2011، وسعي الشباب الثائر إلى تحقيق حرية المواطن السوري، مما يعرّض البطل إلى الاستجواب والسجن والتعذيب، حيث تنطلق بداية الأحداث من زنزانة يخرج منها سام علي ليبحث عن طريقة ما للنفاذ بجلده، فتوصله عبير (الممثلة ديا ليان) إلى الحدود اللبنانية، ثم يتسلل إلى بيروت التي تحتضنه بطريقة ما، وتوفر له فرصة لارتياد صالات الفن التشكيلي التي تقدّم الطعام والشراب مجانا لروّادها وزبنائها.

هناك يحدث ما لم يكن يتوقعه حتى في الخيال، إذ يلتقي بالفنان “جيفري غودفروي” ويعقد معه اتفاقا غريبا وصادما، وهو نقش تأشيرة شينغن على ظهره تتيح له التنقّل والتجوال في غالبية الدول الأوروبية، لكن هذه الاتفاقية سوف تأخذنا إلى فكرة استعباد الإنسان من جديد بواسطة الفن.

يوافق سام على الفكرة من دون أن يخبر أحدا من أهله وذويه، كما يخبّئ هذا الخبر الصادم عن حبيبته عبير، ويكتفي بقوله إنه قد وجد عملا في إحدى صالات الفن التشكيلي يدر عليه مبالغ مادية جيدة، لكن هذا الأمر سيؤلب بعض السوريين الذين يرون في هذا العمل إهانة لسمعة سوريا، وازدراء لإنسانية المواطن السوري.

النجمة الإيطالية “مونيكا بيلوتشي” التي منحت الفيلم نكهة أوروبية وعامل قوة في الفيلم

يُعدّ وجود النجمة الإيطالية “مونيكا بيلوتشي” عامل دفع وعنصر قوة في هذا الفيلم، فهي التي تلتقي سام علي في المعرض، وتقترح عليه أن تزوده بالطعام والشراب المجاني، ثم تكمل معه اشتراطات الاتفاقية بوصفها المسؤولة عن هذا المعرض الذي ترّوج للوحاته وتبيعها لجامعي التحف والأعمال الفنية النادرة، وقد أضفى حضورها متعة جميلة وآسرة في مشاهد غير قليلة من الفيلم.

أما عبير التي كانت تنتظر منه أن يتقدّم لخطبتها فقد فقدت الأمل لأنه تأخر بعض الشيء، الأمر الذي دفعها للموافقة على قبول الزواج من دبلوماسي سوري، وذلك بعد أن يئست من سام الذي كانت تتلاعب به الأقدار.

اللاجئ السوري سام علي بطل فيلم “الرجل الذي باع ظهره” خلال مشاركته في مهرجان فينيسيا السينمائي هذا العام

يأخذ الفيلم مسارات سردية متعددة، تبدأ من موافقة سام على مشروع “غودفروي” بنقش تأشيرة شينغن على ظهره، لنكتشف عبودية جديدة من نوعها، وهي عبودية الفن المعاصر في القرن الحادي والعشرين التي تستدعي إلى الأذهان عبودية الإنسان واسترقاقه في القرون المنصرمة.

يحتاج هذا العمل النقشي على ظهر سام علي إلى بعض الوقت كي يُستكمل بشكله الفني الذي يوافق ذائقة تجار الفن، فالبعض لا يعتبر التاتو عملا فنية، ومع ذلك فإن البعض الآخر يرون فيه عناصر جمالية تغري الآخرين على متابعته والاستمتاع به.

وحينما يُنجز التاتو يعرض ظهر سام كعمل فني في أحد المعارض البلجيكية التي تستقطب عددا كبيرا من الزوّار ومتذوِّقي رسومات التاتو، وقد رأينا كيف تحوّل سام إلى قماشة رسم وهو جالس لساعات طوال، أما المتفرجون الذين لا يصدقون أن الشخص الجالس أمامهم قد تحوّل إلى إطار للعرض، فبعضهم يحاول لمسه أو التصوير معه أو الاحتجاج عليه، فإهانته بهذه الطريقة هي إهانة لإنسانية كل إنسان يراه ويُحتمل أن يكون بديلا له.

أشواق إلى الرقة.. ثورة التحرر من الرق الفني

تتطور الأحداث في الفيلم، فتأتي عبير حبيبة سام صحبة زوجها الذي يتشفى بغريمه سام، ويعتبر ما يقوم به إهانة كبيرة للشعب السوري وإذلالا لقيمته الإنسانية، غير أن الدبلوماسي السوري يفقد أعصابه ويدمر عملا فنيا قيمته عشرة ملايين دولار، مما يفضي به إلى السجن.

لكن ثمة اتفاقية تُعقد بين الطرفين تتيح للدبلوماسي الخروج من السجن مقابل السماح بعودة سام علي إلى سوريا مُجددا، فرغم حصوله على مبالغ مادية كبيرة فإنها لم تعوّضه عن حُب الوطن وضرورة الوجود في مدينة الرقّة التي أحبها وتعلّق بها.

ربما تتجسّد ذروة انفعال سام حينما يُعرض في صالة لبيع الأعمال الفنية، ويأتي التجار والمضاربون من مختلف أنحاء العالم ليقتنوه بوصفه عملا فنيا، وبينما هو مُصغٍ عبر سماعتيه اللتين يسحبهما بقوة وعنف، وكأنه يفجّر حزاما ناسفا، يخرج الحضور بفزع كبير، لكن التفجير لم يكن سوى خدعة صنعتها مخيّلة المخرجة كوثر بن هنية.

عبير تصارح سام علي بحبها في عربة القطار فما كان من سام سوى أن يطلب يدها للزواج وسط رقصات المسافرين

مطرب يعقد القران في العربة.. انتصار الحب

يعود سام علي إلى الرِقّة ليظهر لنا في بدلة برتقالية، وإلى جواره شخص داعشي يطلق عليه النار ويرديه قتيلا في الحال، لكن المخرجة لم ترد له أن يموت، فقد ظل حيّا رغم الرصاصة الداعشية التي استقرت في رأسه، حيث يلتقي بعبير مجددا بعد أن تخلى عن العرض الاستعبادي لجسده، وبات يمتلك حريته الشخصية التي ضحّى بها من أجل الوصول إلى حبيبته التي سبق أن رأيناها معه في القطار، وهو يطلب من أحد الشيوخ أن يعقد قرانه عليها.

وبما أنّ العربة كانت خالية من رجال الدين فقد تطوّع أحد المطربين للقيام بهذه المهمة وإتمام عقد الزواج وسط أغانيه الصادحة ورقصات بعض المسافرين الذي تماهوا مع هذا الحدث المبهج واندمجوا فيه، في إشارة واضحة إلى أن الفيلم ينتصر للحب والحياة والأمل الذي يتسلح به غالبية المواطنين السوريين.

براعة التصوير ورشاقة المونتاج.. عناصر تألق الفيلم

ثمة عدة عناصر أخرى غير السيناريو ساعدت على اكتمال الفيلم وتألقه، ومن بينها براعة التصوير الذي تبناه “كريستوفر عون”، والموسيقى التصويرية الجذابة التي اختارها أمين بوحافة، والمونتاج السلس الذي قامت به “ماري هيلين دوزو”، بحيث مرّ الفيلم مثل طيف خاطف من دون أن نشعر بثقل الوطأة الزمنية التي تُحدثها الأفلام ثقيلة الظل.

فاز هذا الفيلم بجائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة وقيمتها 20 ألف دولار أمريكي، وسبق للمخرجة أن حصلت قبل عامين على منحة قدرها 10 آلاف دولار أمريكي من “منصة الجونة” التي تدعم الأفلام العربية في مرحلتي التطوير وما بعد الإنتاج.

المصدر: الجزيرة

Nasser Khatip

محرر مقالات_سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى