في عام 1909 وفي أوج تطور التصوير الفوتوغرافي الملون من الأبيض والأسود إلى الصور الملونة؛ شرع (ألبرت كان) وهو مدير بنك فرنسي في توثيق كل ثقافات العالم المختلفة بالصور الملونة. وبما أنه كان يملك الكثير من المال الذي جمعه عن طريق بيع سندات الإستثمار المالية الخاصة بمناجم الألماس الموجودة في جنوب أفريقيا، وصكوك التأمين غير القانونية لليابانيين، قام (كان) بتمويل فريق من المصورين والمختصين في علم الأجناس لينتشر في جميع أنحاء العالم ويلتقط له الصور التي كان يرغب بها.
التقط هؤلاء الفنانون والإثنوغرافيون (مختصون في دارسة علم الأجناس والسلالات البشرية وعاداتها) على مدى العقدين التاليين أكثر من 70000 صورة في 50 دولة مختلفة، من أيرلندا إلى الهند وفي كل مكان يقع بينهما
رأى (كان) أن هذا المشروع سيكون بمثابة ترياق مضاد للتشبث بالوطنية المفرطة وكراهية الأجانب، والتي ساهمت في بلورة حياته الخاصة في وقت سابق.
تأثرت حياة (كان) كثيرا عندما ضم الألمان الألزاس [وهو الإقليم المحلي الذي كان يعيش فيه] إلى مستعمراتها في عام 1871، وفرت عائلته نحو الغرب وانتقلوا جميعهم في النهاية إلى باريس، حيث واجهت عائلة (كان) مجموعة متنوعة من العوائق والعقبات النظامية في فرنسا في القرن التاسع عشر، وذلك لأنهم كانوا ينتمون إلى الديانة اليهودية. ولكن (ألبرت) [الذي كان اسمه في الحقيقة (أبراهام)] اجتاز تلك المصاعب بشكل جيد وحصل على تعليم من الدرجة الأولى.
استطاع (كان) باستعمال ذكائه وبمساعدة نجاحه المالي الانضمامَ إلى النخبة الفرنسية عندما كان يعيش في باريس، وقد حالفه الحظ كثيراً وتمكن من الاحتكاك بمجموعة من المفكرين والمبدعين من أمثال النحات (أوغست رودان) والفيلسوف (هنري بيرجسون) الذي فاز في سنوات عمره التالية بجائزة نوبل للأدب في عام 1927، إضافة إلى العديد من الأسماء المعروفة الأخرى آنذاك.
كانت تلك الصداقات والسفرات الكثيرة إلى مختلف بلدان العالم كمصر وفيتنام واليابان السبب في توسيع آفاق (كان) وإدراكه بأنه قادر على إحداث تأثير إيجابي في السياسة العالمية، حيث أنه كان يؤمن كلياً بقوة الانصهار بين ثقافات العالم المختلفة وقدرته على إحلال السلام في عالم كان يقف على شفا الحرب.
بدأ (كان) في العمل على تحقيق آماله في إحلال السلام العالمي بمبادرة أولى تمثلت في تأسيس منحة دراسية أطلق عليها اسم «حول العالم» في عام 1898، والتي كانت تعتبر بادرة للعديد من التبادلات الدولية الحديثة مثل منحة «فولبرايت» الدراسية. مكنت مؤسسة (كان) الطلاب الناجحين والذين حصلوا على منحة «حول العالم» المدفوعة كلياً من السفر حول العالم لمدة خمسة عشر شهرًا، سالكين أي مسار يرغبون به.
بالإضافة إلى المنح الدراسية أنشأ (كان) حديقة على إحدى الأراضي التي كان يملكها خارج باريس، معتمداً نفس الرؤية السابقة التي تحفز على اندماج الثقافات المتعددة، وقد جمعت الحديقة خصائصاً مختلفة من البستنة الفرنسية والبريطانية واليابانية، وتمثلت فكرة الحديقة بكونها قادرة على جعل الزوار يقدرون الثقافات الأخرى ويشعرون بالوئام بينهم وبين الشعوب المختلفة عند تواجدهم في المكان.
اعتبر (كان) كل من المنحة والحديقة جهودًا مبكرة، فبالنسبة له لم يحصل التغير الحقيقي إلا مع تطور ما يسمى باللغة الفرنسية بالـAutochrome «استعادة الصور الفوتوغرافية للألوان». حيث اخترع الأخوان (أوغست) و(لويس لوميير) «الأوطوكروم» أو «التلوين الذاتي للصور» [وهو أول نموذج للتصوير الملون] بين عامي 1903 و04.
وكان نفس الأخوين الفرنسيين قد حصلا مسبقا على براءة إختراع الـ(سينموغراف)، وهي واحدة من أقدم كاميرات الصور المتحركة في العالم. وبالاستعانة بهذه التكنولوجيا الجديدة استطاع (ألبرت كان) الذي كان يملك الأدوات اللازمة لمطابقة رؤيته؛ ربط ثقافات الدول المختلفة، ثم قام بتمويل إنشاء مشروع «أرشيفات الكوكب».
سافر فريق (كان) والتقطوا الصور في خمسين دولة مختلفة، وامتدت رحلتهم منذ عام 1909 وحتى عام 1931، بما في ذلك تركيا والجزائر وفيتنام [التي كانت تدعى حينها بالهندوشين الفرنسية] والسودان ومنغوليا، وموطنهم الأم فرنسا. يصل إجمالي عدد أعمالهم الجماعية إلى 73000 لوحة صور ملونة وأكثر من 100 ساعة من مقاطع الفيديو.
على الرغم من أن أسماء المصورين الذين قاموا بتلك المهمة من أمثال (أوغست ليون) و(ستيفان باسات) و(مارجريت ميسبولي) و(بول كاستيلناو) و(ليون بيزي) وغيرهم قد انزلقت إلى حواشي التاريخ، إلا أن أعمالهم خلدت وجوه قبائل وعادات شعوب كانت تعيش قبل قرن من الزمن.
احتفظ (كان) بهذه السجلات المدهشة في ملفات منظمة بعناية في منزله الذي يقع في ضواحي باريس، وكان يدعو أصدقاءه ومعارفه من المفكرين والدارسين بعد ظهر كل أحد إلى السير في حدائقه، ويعرض عليهم الصور المذهلة التي تحتوي عليها مجموعة «أرشيفات الكوكب».
على الرغم من أن فكرة (كان) حول الثقافات الأخرى وقدرتها على زراعة النوايا الحسنة والسلام بين دول العالم، تدل على أن الرجل كانت لديه دوافع حسنة وأنه أقرب للمثالية من غيره، إلا أنه بدى بصورة مخالفة عندما اختصر عدد الأشخاص الذين شاهدوا صوره تلك في نخبة المجتمع فقط ولم يتجاوز عددهم بضع مئات من الناس استطاعوا رؤية تلك الأعمال خلال حياته.
من ناحية أخرى كان (ألبرت كان) أكثر تقدمية في أفكاره من العديد من دعاة التبادل الثقافي المعاصرين، الذين كانوا يرون بشكل رئيسي أن التفاعل بين الثقافات هو فرصة للأوروبيين لينشروا الحضارة في بقية العالم. أما بالنسبة لـ(كان) فقد كان الهدف من مشروعه هو الاحتفال ببقية العالم كما هو على طبيعته.
انهارت ثروة (كان) بالاقتصاد العالمي في نهاية عشرينيات القرن العشرين. وبحلول عام 1931 نفدت أموال مشروع «أرشيفات الكوكب»، حيث كانت رؤيته لمستقبل أكثر سلامًا لها حدودها أيضًا. وتوفي (كان) عن عمر يناهز الثمانين عاماً بعد بضعة أشهر فقط من الاحتلال النازي لفرنسا.
مع ذلك لا يزال مشروع «أرشيفات الكوكب» ينبض بالحياة، حيث يمكن لزوار باريس التوجه إلى الضواحي لمشاهدة متحف وحدائق (ألبرت كان) الجميلة في أي وقت من السنة، وعلى الرغم من عدم عرض كل شيء ينتمي إلى المشروع، إلا أنه توجد أكثر من 70000 لوحة صور ملونة في المتحف، والعديد من الحدائق التي امتلكها الرجل من قبل التي تم ترميمها لتستعيد شكلها الذي كانت عليه في أوائل القرن العشرين.
حتى بعد عقود من وفاة (كان) فإن الرسالة التي تركها بعده واضحة: ”نحن جميعا – بغض النظر عن المكان الذي جئنا منه – جزء من نفس العائلة البشرية، ونحن لسنا مختلفين لتلك الدرجة التي يدعيها أولئك الذين يرغبون في تقسيمنا“.
إليك بعض الصور المعبرة التي التقطها مصورون محترفون منذ مئة عام:
صورة من سنة 1912 لامرأة كاثوليكية من البوسنة تضع وشما على ساعدها موضوعة في متحف (ألبرت كان).
صورة ملونة لجندي سنغالي التقطت من طرف المصور (ستيفان باسيه) في منطقة فاس في المغرب سنة 1913.
صورة لثلاث نساء وفتاة صغيرة من قرية (سميليفو) المقدونية التقطت من طرف المصور (أوغست ليون) في مايو 1913.
فتاتان من بشارى واقفتان أمام منازلهما في أسوان في مصر في شتاء 1914.
إحدى صور المصور (ستيفان باسيه) التي التقطها خلال رحلتها إلى تركيا في 1912 تظهر مجموعة من النساء والفتياة الأرمنيات في إسطنبول.
امرأتان كرديتان تم التقاط صورتها في شمال العراق في 1917 واضافتها إلى مجموعة «أرشيفات الكوكب».
شارع في بلدة (أوهريد) في مقدونيا، في مايو عام 1913، بعدسة (أوغست ليون).
صورة رجال من بلدة (أوهريد) أيضا في مقدونيا التقطها المصور (أوغست ليون) في عام 1913.
صورة رجل عربي يدعى (فايز باي العزم)، وهو من مرافقي الأمير فيصل، التقطت هذه الصورة له في منطقة القويرة في الأردن سنة 1918.
مدخل مقر الجندرمة في مدينة ينبع السعودية في أبريل 1918.
صورة للباي باصري من ألبانيا، موضوعة في متحف (ألبرت كان).
صورة لبرج (إيفل) في باريس في سنة 1912.
صورة تبين الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الأولى في منطقة (ريمس) الفرنسية. التقطتها عدسات مصوري مجموعة «أرشيفات الكوكب».
صورة لـ«شارع الجمهورية» في (باريس) في مايو 1918، التقطتها عدسة المصور (أوغست ليون).
بائعة الزهور في (باريس) بمحاذاة ثكنة (فيرين)، وهي صورة أخرى أضافها المصور (أوغست ليون) إلى مجموعة «أرشيفات الكوكب».
صورتين ملونتين تظهران الزي التقليدي الذي كانت ترتديه الفتياة الصغيرات والنساء في إقليم الألزاس، مسقط رأس (ألبرت كان).
صورة تظهر الزي التقليدي للنساء المقدونيات المتقدمات في السن، حيث يظهر في هذه الصورة ثلاث نساء مقدونيات يهوديات في ”صالون“ حلاقة في مايو 1913.
صورة لقارب (بيوريتي أند إيز) في بكين في الصين سنة 1912، التقطها المصور (ستيفان باسيه).
صورة تظهر الزي التقليدي الذي كان يرتديه الرجال الكبار في مقدونيا.
صورة عجوز من منطقة نهر (المارن) شمال شرق باريس.
صورة لامرأة من (مونتينيغرو) في أوروبا في أكتوبر 1923.
صورة لمجموعة من النساء يحملن دجاجات وبط التقطت في صربيا في إبريل 1923.
منظر لمدينة حلب السورية ملتقط من القلعة سنة 1921.
حي الميدان في دمشق سنة 1921.
نهر العاصي في حمص في سوريا في أكتوبر 1921.
صورة لفتاتين تعملان في حقل للبطاطا في مقاطعة (سين إي واز) الباريسية.
صورة راهب بوذي في بكين التقطتها عدسات المصور (ستيفان باسيه) سنة 1913.
صورة التقطها المصور (ستيفان باسيه) خلال زيارته إلى منغوليا.
راهب بوذي التقطت صورته من طرف المصور (ستيفان باسيه) في السنوات الأولى من القرن العشرين.
صورة تظهر الزي التقليدي العربي في بلدة تل شهاب السورية لكل من الرجال والنساء، حيث يظهر في الصورة أختان برفقة زوج إحداهما سنة 1921.
ورشة لصناعة سفينة خشبية في ميناء صيدا في لبنان سنة 1919.
مجموعة من الأشخاص جالسون حول نافورة مياة بالقرب من قرية مجدل عنجر في لبنان سنة 1921.
صورة تظهر الزي التقليدي الرجالي في احدى القرى الألبانية.
صورة تظهر الزي التقليدي الذي كانت ترتديه النساء من طهران في إيران. التقطت الصورة في أغسطس 1927.
إحدى صور (ليون بوسي) من أسفاره في فيتنام وكمبوديا أو كما كان يعرف آنذاك بالهندوشين الفرنسية.
امرأة فيتنامية تستلقي في منزلها، صورة التقطتها عدسات كاميرا المصور (ليون بوسي) وأضيفت إلى مجموعة ”أرشيفات الكوكب“.
صورة التقطت في الهند من طرف (ستيفان باسيه) في ديسمبر 1913.
صورة لـ(رابندراناث طاغور) وهو أول فائز بجائزة نوبل للآداب من أصول غير أوروبية.
صورة لبعض الرجال الهنود في بومباي (مومباي) سنة 1913 التقطت من طرف (ستيفان باسيه).