رافقك منذ أيامك الدراسية الأولى.. قصة حياة قلم الرصاص وعلاقته باقتصاد السوق الحر
أنا قلم رصاص، استخدمتني كجميع من غيرك، بشكلي وتصميمي البسيطين، في كافة مراحلك العمرية. رافقتك منذ أيامك الدراسية الأولى، رسمت بي أولى لوحاتك وكتبت أولى كلماتك.
لم أغادرك رغم تطور استخداماتك لي وتزايد تعقيدها مع مرور الوقت، وقد تغرّك بساطتي فتعتبرني من الأشياء العادية، البديهية الوجود في دنياك، ظالمًا بذلك قصتي، وناسيًا ارتباطها الشديد بمبدأ الحرية وبقصة الاقتصاد الحديث. لذا سأحاول في ما يلي استعادة ما خسرته من الإعجاب والهيبة، وإثبات جدارتي واستحقاقي للمزيد من اهتمامكم.
هل أنا بسيط؟
يربطني الكثيرون بهذه الصفة، دون التعمق بمعرفتي. ماذا لو أخبركم بأن شخصًا واحدًا، مهما كان ماهرًا أو علت درجة ذكائه أو تقدّم في تحصيله العلمي، غير قادر على صناعتي لوحده. فعن أي بساطة نتكلم هنا؟
أنا قلم الرصاص، قطعة الخشب اللامعة، التي تمر عبرها قطعة من الجرافيت، كي أصبح بين يديك، يجتمع في تكويني آلاف البشر، تختلف وتتنوع جنسياتهم وطبيعة عملهم وخلفياتهم العلمية. ولأسهّل عليك تصديق هذه المعلومة، دعنا نلقي نظرة على شجرة عائلتي.
شجرة العائلة
تبدأ شجرة عائلتي من شجرة حقيقية، ينشر خشبها عدد من العمال بواسطة مناشير، ويصنع هذه الأخيرة، من الصلب، عمال آخرون. تربط من بعدها الجذوع، التي قطّعت، بواسطة حبال، وتنقل إلى مكان التصنيع، على متن عربات نقل. وقد شارك عمال في صنع الحبال، وقادها سائق عربة النقل على طرقات شارك في بنائها عدد كبير من المهندسين. وفي ورشة أخرى، تمر هذه الجذوع بمراحل عدة كي تصل في النهاية إلى الشكل والحجم المناسبين.
من بعدها نصل إلى ما يعرف خطئًا بالرصاص، فهو لا علاقة له بمعدن الرصاص، بل هو عبارة عن جرافيت، يستخرجه عمال من المناجم، باستعمال أدوات صنعها عمال آخرون، وتنقل بأكياس صنعها غيرهم أيضًا، وينقل هذه الأكياس غيرهم من العمال، على متن سفينة، يقودها عدد من البحارة إلى مكان التصنيع
بالإضافة إلى الخشب والجرافيت، تنضم المعادن الأخرى والمطاط لهذه العائلة الكبيرة، وهي تمرّ أيضًا بسلسلة واسعة من المراحل والعمليات، حتى تستخدم في المنتج النهائي.
من العقل المدبر؟
لكم إذًا أن تتخيلوا كم يبلغ عدد الأفراد الذين شاركوا في عملية صنعي وإيصال المنتج النهائي إليكم. يبرع كل واحدٍ من هؤلاء في دوره ضمن هذه العملية، ويخلق وجود السوق الحر جوًا من التنافس، ويحث الأفراد على التحسين الدائم في عملهم، حتى يتمكنوا من رفع جودة خدماتهم، مع خفض أسعارها، وبهذا تبقى المنافسة قائمة دائمًا.
قد تسأل ما إذا خطط شخصٌ ما لكلّ تلك الأمور، تلك الحلقة الواسعة من العمليات التي أوصلتكم في النهاية إليّ. في الحقيقة، لا وجود لعقلٍ مدبر هنا، فأنا نتيجة قرارات اقتصادية وجهود الآلاف الذين قاموا بدورهم على أكمل وجه، وبحرية تامة، ولم يكن تصنيع قلم الرصاص هدفهم النهائي بالضرورة، إذ أن هدف كل عملية صغيرة في رحلة تصنيعي، كان محاولة لكسب الرزق على الأرجح، ولا أكثر من ذلك.
اليد الخفية
من الممكن أن يصعب تصديق فكرة اجتماع أناس من جنسيات وثقافات وأديان مختلفة، وقد تنشأ بينهم خلافات حادة أو صراعات في بعض الأحيان، بهدف تصنيعي ووصولي إلى المرحلة النهائية. وقد تتساءل عمن أقنعهم أو أجبرهم على المشاركة. والإجابة هي: لا أحد! أو بالأحرى: اليد الخفية.
هنا تأتي الأفكار التي تحدث عنها (آدم سميث) في كتابه الشهير «ثروة الأمم»، حيث قال بأن سعي الأفراد نحو مصالحهم الذاتية وتحسين أوضاعهم، سيؤدي إلى تحقيق المصلحة العامة بلا شك، وازدهار المجتمع ككل في نهاية المطاف.
يرى (سميث) أن السماح للأفراد بإنتاج السلع وتبادلها بحرية، بالإضافة إلى فتح الأسواق أمام المنافسة المحلية والأجنبية بدلًا من تدخل الحكومات ووضع قوانين وأنظمة صارمة في هذا الشأن، سيؤدي عمل الأفراد، تحقيقًا لرغباتهم ومصالحهم الذاتية، إلى مزيدٍ من الازدهار العام لدى الشعوب.
الحرية
في مقالته الشهيرة «أنا قلم رصاص» التي نشرت سنة 1958، روى المفكر الاقتصادي الأمريكي (ليونارد ريد) قصة حياتي، ولحقه من بعدها الاقتصادي الأمريكي الشهير (ميلتون فريدمان)، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في أحد أهم كتبه، التي ألفها مع زوجته (روز فريدمان)، والذي حمل اسم «حرية الاختيار» ووُضعت صورتي على غلافه.
استخدم (فريدمان) قصتي في كتابه ليتكلم عن سر نجاح الاقتصاد الحر، وكيف أن حرية السوق التي سمحت بوجودي، هي نفسها التي تسمح بوجود كل اختراعاتنا الحديثة اليوم، وهي التي تغني وتسهل حياتنا اليومية، عوضًا عن تضييق الحكومات وتدخلها وفرض أنظمة صارمة وقيود فيما يخص الأنشطة الاقتصادية، التي لا ينتج عنها سوى نتائج سلبية، من تعطيلٍ للانتاج وحدٍّ من القدرات الإبداعية لدى الأفراد.
فكرتي الأخيرة
رويت حكايتي اليوم كي أصل في النهاية إلى فكرة أساسية، أهمية المناخ الحر في الاقتصاد. إذ أنه الأنسب في الحث على التقدم والإبداع، ونتجت عنه –ولا تزال– أبرز الانجازات، ويعود سعي الأفراد وراء تقدمهم الشخصي عليهم بالتقدم والازدهار على الأمم ككل.