تختلف اتجاهات الفنون لدى البشر باختلاف المكان والزمان، لكن عددًا من تلك الاتجاهات عاد ليبرز من جديد بعد أن كان رائجًا من قبل، ويتضح هذا الأمر في فنون كالموسيقى والفنون الجميلة والأزياء مثلًا.
فن العمارة أيضًا قابل للتحديث والانتعاش من جديد، وأبرز مثال على ذلك هو فن العمارة الوحشية. منذ منتصف القرن الماضي، برزت شعبية العمارة الوحشية –أو العمارة الخمومية كما تُسمى أيضًا، ويُطلق عليها Brutalism بالإنجليزية – ووصلت إلى ذروتها في منتصف السبعينيات، حينها أصبحت العمارة الوحشية نوعًا من الذوق السيء. لكن على أي حال، يبدو أن هذا الأمر تغيّر اليوم، إذ تجدد الاهتمام بهذا الفن المعماري.
ما هي العمارة الوحشية؟
تعتمد العمارة الوحشية، أو الخمومية، على الخرسانة والصلب، واستُخدمت بشكل أساسي في بناء مؤسسات الدول ومراكزها الحكومية، بالإضافة إلى المباني السكنية سعيًا لتلبية الحاجة المتزايدة للطلب على السكن.
تمتاز تلك المباني بمظهرها المهيب والأشكال الهندسية التي تمتاز بها تلك المباني، وكأنها نماذج أبنية من فيلم خيال علمي، وهذا ما دفع بالمعماريين اليوم إلى الاهتمام مجددًا بأسلوب البناء الغريب هذا.
قد تعتقد أن الأسلوب الوحشي سُمي كذلك بسبب مظهر المباني الجامد أو الوحشي والخالي من الذوق الفني. لكن في الحقيقة، اشتُقت كلمة «بروتاليزم» من المادة التي صُنعت منها تلك المباني. في اللغة الفرنسية، يترجم مصطلح «بيتون بروت Béton brut» إلى «الخرسانة أو الباطون الخام»، وهو المصطلح الذي استُخدم لوصف هذا النوع الغريب والأيقوني من فنون العمارة.
أول ما يخطر في ذهنك هو تلك المباني السوفياتية التي انتشرت في أوروبا الشرقية، وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن العمارة الوحشية لا تخلو من التصاميم الفريدة والغريبة. لنتعرّف أولاً على تاريخ هذا الفن، ونشاهد أمثلة مذهلة عن عجائب العمارة الوحشية.
أصول العمارة الوحشية
غالبًا ما يُربط بين ظهور أسلوب العمارة الوحشية وفترة نهاية الحرب العالمية، فبينما كانت أوروبا غارقة في الدمار، برزت الحاجة إلى بناء مدارس ومباني سكنية ومسارح ومكتبات، تحديدًا في الدول الشيوعية وحتى في المملكة المتحدة أيضًا، بالتالي جاء هذا الأسلوب ليحلّ المشاكل التي خلقتها الحرب، ويفضل الكثير من المعماريين اعتباره امتدادًا لأسلوب العمارة الحديثة وفرعًا منه، بينما يرى آخرون أنه مثالٌ عن أسلوب عمارة ما بعد الحداثة.
بدأت قصة العمارة الوحشية من طرف المعماري الفرنسي السويسري (لو كوربوزييه)، أحد رواد العمارة الحديثة الذي يُعتبر أول من بدأ أسلوب العمارة الوحشية. كان أول مشروع لـ (لو كوربوزييه) هو وحدة السكن أو Unité d’Habitation التي صممها المعماري في مدينة مرسيليا الفرنسية، لكن الحرب العالمية الثانية أدت إلى انقطاعه عن إكمال المشروع، فاكتمل أخيرًا عام 1952 وكان بمثابة مجمع سكني ضخم لأفراد الطبقة العاملة. اتسع هذا المجمع الضخم لـ 1600 شخص، وكان شبه خالٍ من أي عناصر تزينيية أو جمالية، ما مهّد الطريق لأسلوب البناء الرخيص والعملي هذا.
على أي حال، لم يكن (لو كوربوزييه) أول من صاغ مصطلح العمارة الوحشية، بل المعماري السويدي (هانس أسبلوند) الذي صاغه لوصف منزل من الطوب يُدعى «فيلا غوث» عام 1949. بدأ أسلوب العمارة الوحشية بالظهور في تلك الفترة، وانتشر بسرعة أيضًا، إذ أُعجب به المعماريون الإنجليز أيضًا، ويتضح تبني الإنجليز لهذا الأسلوب في مجمع سكني يقع شرق لندن هو «حدائق روبن هود» الذي اكتمل بناؤه عام 1972، لكنه أُزيل عام 2017 بهدف إعادة صيانة المنطقة.
كسبت العمارة الوحشية هذا الزخم جراء رخص تكاليف البناء، وهذا أمر مثالي لدولٍ عانت من حرب طاحنة، حيث كان الفولاذ مكلفًا جدًا حينها، فجاءت الخرسانة كحلٍ رخيص.
لا يتوقف الأمر عند المزايا المالية التي وفرها هذا الأسلوب المعماري، بل كان ردًا مباشرًا على العمارة الحديثة التي امتازت بالاتزان والجمال، فكانت العمارة الوحشية أكثر جرأة في تصميم المباني، ولم تخفِ مواد البناء وراء الجص والتزيينات الخارجية، كما امتازت بكتلها الضخمة والنافرة والتي كانت أشبه بتصاميم من عالم مستقبلي.
في أوروبا الشرقية، ارتبطت العمارة الوحشية بالأفكار الاشتراكية، بينما كان لتلك العمارة مفهوم آخر في أماكن أخرى من العالم، تحديدًا في دول مثل البرازيل والهند وغانا، حيث جاءت لتؤكد على نوعٍ من الحرية الجديدة.
اضمحلال العمارة الوحشية
في ثمانينيات القرن الماضي، بدأت العمارة الوحشية تفقد رونقها، لعدة أسباب. إحدى تلك الأسباب هي الطبيعة الغريبة والجافة لتلك العمارة، والتي غالبًا ما ارتبطت بالدول الدكتاتورية. سبب آخر هو أن استخدام الخرسانة الخام في البناء لا تدوم طويلًا، وهي عرضة للكثير من المشاكل مع مرور الزمن والعوامل البيئية الأخرى، فغالبًا ما تظهر عليها علامات التلف والتفسخ والرطوبة، فكانت تلك الأبنية ”وحشية“ بكل معنى الكلمة، كما أن وجود تلك الأبنية في دول تحوي العديد من المباني الجميلة الأخرى يخرّب المنظر العام للمكان.
مشكلة أخرى تتمثل بمزايا البناء السريع والعملي، فبما أن إيجاد وبناء سكن للمواطنين يُعد مشكلة معقدة، بدأت السلطات باللجوء إلى هذا الأسلوب المعماري لحلّ مشكلة السكن خلال وقت قصير، لكن تلك المباني تحتاج إلى صيانة دورية كثيفة، وغالبًا ما يقطنها أفراد من الطبقات الأدنى من المجتمع، فارتبطت صورة تلك المباني بالأحياء الفقيرة التي ترتفع فيها نسبة الجريمة والتي يعاني أفرادها من صعوبات مالية واقتصادية.
أضف إلى ذلك أن الخرسانة أصبحت لوح رسم مثالي لفناني الغرافيتي، فأسهمت رسوماتهم في تخريب وتشويه تلك المباني عديمة الذوق أساسًا، ما أدى في ثمانينيات القرن الماضي إلى الاستغناء عنها، واللجوء إلى أساليب معمارية جديدة مثل العمارة فائقة التكنولوجيا وعمارة ما بعد الحداثة.
جراء ذلك، هُدمت العديد من تلك المباني في ثمانينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من اعتبار أسلوب العمارة الوحشية نوعًا «بشعًا» من العمارة، لكن بعض الفنانين والمعمارين يعتبرون إزالة تلك الأبنية خسارة فنية وتاريخية. على أي حال، لا تزال العديد من تلك المباني موجودة في أنحاء العالم، وليس في الدول الشيوعية السابقة فحسب، بل في لندن وعدد من المدن الأمريكية والكندية أيضًا.
العمارة الوحشية تكسب استحسانًا من جديد
على مرّ السنوات الماضية، برز اهتمام جديد بالعمارة الوحشية. تقول (فرجينيا مكلويد)، محررة الكتاب الفني «أطلس العمارة الوحشية»، أنها لاحظت هذا الاهتمام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي: “لاحظت مزيدًا من الاهتمام بالعمارة الوحشية، إنها تثير اهتمام الناس”.
بالفعل، مجرد بحث صغير على تطبيق انستغرام تحت هاشتاغ #brutalism وسترى مئات آلاف الصور والمجموعات التي تحاول الحفاظ على هذا الفن الذي تقوم السلطات عالميًا بتجاهله أو هدمه.
فوق ذلك، يبدو أن بعض المعماريين يحاولون إحياء العمارة الوحشية، ولو تحت مسمى جديد هو «العمارة الوحشية الجديدة Neo Brutalism». لا نعلم تماماً ما سر هذا الاهتمام الجديد بالفن المعماري الوحشي، لكن مثلما قال المؤلف (براد دانينغ) لمجلة GQ، يبدو أن ”العمارة الوحشية أشبه بموسيقى التيكنو الالكترونية، صارخة ومخيفة، فأبنية العمارة الوحشية مكلفة من حيث الصيانة وصعبة الإزالة أيضًا، فلا يمكن تعديلها أو تغييرها بسهولة، لذا تبقى تلك الأبنية كما صممها المعماري. لربما عادت هذا الأسلوب مجددًا باعتباره أسلوبًا فنيًا جذابًا في عالمنا الغارق في الفوضى حاليًا“.
إليكم أبنية ومعالم فنية تنتمي لفن العمارة الوحشية، وصفها بالمعجزات المعمارية أقل ما يمكن قوله:
1. مركز وعقارات باربيكان في لندن
اكتمل تشييد هذا المبنى عام 1982، ويتموضع داخل أكثر أحياء لندن تعرضًا للقصف خلال الحرب العالمية الثانية، فكان مركزاً ضخمًا للفنون يمتاز بحجمه الهائل وتصميمه المعقد والفريد، وهو من عمل شركة «تشامبرلين بويل وبون».
أثناء أعمال البناء، اهتمت الشركة بجعل مساحات المشاة أكبر بكثير من تلك المخصصة للسيارات، وفي الحقيقة، احتوى المبنى على ممرات وجسور سماوية وقنوات مدهشة للغاية. افتتحت الشركة أولًا عقارات السكن والأبراج، بينما اكتمل بناء مركز الفنون عام 1982، وحينها أشرفت الملكة (إليزابيث الثانية) بنفسها على عملية الافتتاح.
كان الهدف من المشروع تأمين سكن للمواطنين في منطقة ذات تصميم معماري فريد، وإحاطة هؤلاء السكان بمراكز فنية وثقافية في قلب العاصمة لندن. لكن شعبية هذا المبنى تغيرت مع مرور الزمن بشكل دراماتيكي، ففي عام 2003، اعتُبر مركز باربيكان ”أبشع مباني لندن“ وفق تصويت شعبي.
2. بنك لندن وأمريكا الجنوبية في بوينس آيرس
إحدى أهم جوانب العمارة الوحشية هي توفير فضاء داخلي ضخم ومهوى بشكل جيد، فجاءت العمارة الوحشية بتصاميمها الداخلية الكبيرة جدًا، تحديدًا القاعات الواسعة. لذا كانت الواجهة الخارجية لمباني العمارة الوحشية عبارة عن كتل خرسانية ذات مظهر قاسي، بينما اتسمت تلك المباني في الداخل بالفضاء الواسع والإضاءة القوية والوفيرة.
إذا بحثتم عن أشهر معالم العمارة الوحشية، لعلّكم ستشاهدون بنك لندن وأمريكا الجنوبية، أو بولسا BOLSA اختصارًا، وهو مصرف اكتمل بناؤه عام 1966 على يد المعماري الإيطالي (كلوريندو تيستا) وشركة SEPRA. يُعد المبنى شهيرًا لدرجة أنه أُدخل ضمن معرض أهم الأعمال المعمارية في القرن العشرين.
3. معالم سبومنيك التذكارية
شيُدت هذه المعالم السوفياتية بدءًا من النصف الثاني للقرن العشرين، وتمتد على ماساحات واسعة من أراضي جمهورية يوغوسلافيا سابقًا، وتمثل نضال شعوب يوغوسلافيا ضد قوى المحور خلال الحرب العالمية الثانية، وتمتاز طبعًا بتصميمها المستقبلي الفريد والغريب، بالإضافة إلى كونها رمزًا لوحدة الأمة اليوغوسلافية وتذكارًا تاريخياً.
صُممت هذه المعالم على يد عدد من المهندسين في فترات زمنية مختلفة، وتصنيفها تحت قالب العمارة الوحشية ينتقص حقًا من روعتها ورمزيتها الفريدة. بعض تلك المعالم ضخمة جدًا، بحجم بناء سكني، لكن بعضها صُمم بحجم طبيعي.
4. مكتبة غيزل في كاليفورنيا
صُممت هذه المكتبة عام 1970 على يد المعماري (وليام بيريرا)، وتقع في منطقة لاهويا في مدينة سان دييغو، وسُميت بمكتبة (غيزل) تيمنًا بالمؤلف الأمريكي الشهير (ثيودور سوس غيزل)، والمعروف بلقب (دكتور سوس)، وهو مؤلف العديد من قصص الأطفال الشهيرة جدًا
بالإضافة لأهميتها المعمارية، تحوي المكتبة العديد من مجموعات (دكتور سوس)، سواء الرسومات أو القصص أو المذكرات أو حتى التسجيلات الصوتية، ويقدر عدد محتوياتها بـ 8500 قطعة، بالإضافة إلى تمثال مستوحى من قصة «القطة في القبعة» للمؤلف، وهو تمثال على هيئة القط الشهير يحيّ زوار المكتبة.
من الناحية المعمارية، كان المهندس المعماري (وليام بيريرا) مسؤولًا عن تصميمها، وهو مصمم عدد كبير من المعالم المعمارية المهمة جدًا في كاليفورنيا. تمتاز المكتبة بتصميمها الذي يمثل يدين تحملان كتابًا مفتوحًا، فاليدان هما تلك الأعمدة الإسمنتية والكتاب هو طوابق المبنى.
5. كاتدرائية القديسة مريم العذراء في سان فرانسيسكو
صمم هذه الكاتدرائية المهندس المعماري الإيطالي الشهيرة (بيير لويجي نيرفي)، والذي يُعتبر من أبرز فناني العمارة الخرسانية. على الرغم من قلة أعماله في الولايات المتحدة، لكن هذه الكاتدرائية، التي اكتمل بناؤها عام 1970، تُعتبر مثالًا عن روعة تصاميمه، ويُبرز تصميمها الداخلي تحديدًا مدى الابتكار والإبداع في فن العمارة الوحشية التي غالبًا ما يرتبط اسمها بتلك الأبنية الإسمنتية الباردة.
6. تل بوذا في اليابان
صمم هذا المعلم الفريد الياباني (تاداو أندو)، وهو عبارة عن مقبرة ضخمة للغاية، يتموضع ضمنها تمثال إسمنتي عملاق يمثل بوذا. كان التمثال موجودًا قبل بناء المقبرة، لكن (أندو) قرر إضافة لمسته الخاصة، ففطى التمثال جزئيًا داخل منحدر على تل اصطناعي.
وبذلك، أصبح رأس التمثال مرئيًا فقط من الخارج وهو يطل من أعلى التل. عليكم رؤية هذا المعلم في الصيف، حيث تغطيه الزهور الطبيعية الخلابة.
7. متحف ميت بروير في نيويورك
صمم المعماري الألأماني (مارسيل بروير) هذا المتحف، واكتمل بناؤه عام 1966. يُعد (بروير) واحدًا من رواد مدرسة الباوهاوس الألمانية، واشتُهر بتصاميم الأثاث الخاصة به، فأصبح واحدً من رموز العمارة الحديثة.
يُعرف هذا المتحف بكونه واحدًا من الأبنية المميزة في مانهاتن ضمن مدينة نيويورك، تحديدًا تلك الواجهة التي تمزج بين الخرسانة والغرانيت. لم يلق المتحف شعبية كبيرة عند افتتاحه، لكنه يحوي اليوم أمثلة وأعمال فنية رائعة تجسد حركة العمارة الوحشية أفضل تجسيد.
المصادر : مواقع الكترونية