بحسب الدراسات العلمية الحديثة و التي اعتمدت في نتائجها على العديد من الجوانب الفيزيولوجية و البيولوجية للإنسان ، فقد قدّرت أن أطول مدة نوم مستمر للإنسان تقدر بـ 36 ساعة . ولا عجب أننا قدر نرى في حالات خاصة من يتجاوز هذا الرقم بحدٍّ طفيف ، فلكل قاعدة شواذ كما نعلم ، لكن .. ماذا لو تحدثنا عن مجموعة فتية استمرت غفوتهم لثلاثة قرون ! . بل أنهم عندما استيقظوا ، استيقظوا بصحتهم الكاملة تماماً كما كانوا قبل نومهم … إليكم قصتهم ، او كما هو معروف عنها : قصة اصحاب الكهف .
أصل رواية أصحاب الكهف
قصة أصحاب الكهف كما يعلم كل مسلم – وربما الكثيرون من غير المسلمين- قد ذكرت في القرآن الكريم في سورة الكهف ابتداءاً من قوله تعالى :
( “أَمْ حَسِبْتَ أنَّ أَصْحبَ الكهفِ والرقيمِ كانُوا مِنْ ءايتِنا عَجَباً (9) إذْ أَوَى الفِتْيَةُ إلى الكَهْفِ فَقالُوا: رَبَّنا ءاتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أمْرِنا رشدا …ولغاية الآية : وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) .
يقدم لنا القرآن في الآيات السابقة وبصورة موجزة، ذكراً مباشراً وواضحاً لأصحاب الكهف ، وهذا ما لا يدع اي مجال للشك في مصداقية حدوث هذه القصة من عدمها ، على الاقل عند المسلمين .لكن هل وردت قصة اصحاب الكهف في الديانات السماوية الأخرى ؟الإجابة : أجل ، و في الديانة المسيحية تحديداً، انما اقتصر ذكرها على الكتب و المخطوطات ولم تذكر في الانجيل ، لكنها تكاد تكون متطابقة مع ما ذكر في القرآن الكريم من آيات من حيث الترتيب و التسلسل ،إلا من اختلافات بسيطة وسرد بصورة مفصلة اكثر ، أما في اليهوديات ، فتعد رواية اصحاب الكهف إحدى الروايات او القصص القليلة التي لم تأتِ على ذكرها .
ذكر القران بشكل موجز قصة أصحاب الكهف فيما لم يرد ذكرهم في الانجيل لان تدوينه جاء بوقت لاحق جدا من حادثتهم .
تتحدث الكتب السماوية و التواريخ القديمة عن فتية اختفوا في بعض الأزمنة في كهف .هناك حيث مكثوا فترة حتى تغشاهم النعاس و ناموا ، لكن تلك النومة لم يستيقظوا منها إلا بعد أكثر من ثلاثمائة عام لتكون قصتهم مثار تعجب على مدى الأجيال .
من هم أصحاب الكهف ؟
تذكر المصادر التاريخية و التدوينات المتنوعة ، أنه وبعد عهد السيد المسيح عليه السلام ، جاءت اقوام (الروم البيزنطيين) احيت عبادة الاصنام و الاوثان و اتسع ذلك الإحياء في عهد أحد الملوك الذي تمسك بمبدأ القضاء على المسيحية ، ومن هنا انشقت مجموعة من رجالات بلاط هذا الملك ممن اعتنقوا المسيحية ، متخلّين عن مناصبهم ومكانتهم ، ليعلنوا عدائهم لافعال الملك ، وبالطبع لم يكن ليدعهم وشأنهم فقرر اعدامهم ، لكنهم فرّوا وآوَو إلى أحد الكهوف ، وفي أثناء خوضهم لذلك الطريق ، التقوا براعي أغنام ، فعرف حالهم وانضم مع كلبه إليهم .
أما بعض الروايات فتقول ان الملك خيرهم بين المنصب و الجاه مقابل تخليهم عن المسيحية أو مصير النفي في حال تمسكهم بها ، لكنهم اختاروا التمسك بديانتهم ولذلك تم نفيهم حيث آوو إلى كهف وانضم اليهم رجل من العوام مع كلبه ، وبعد فترة امر الملك بعدما فقد الامل من عودتهم عن قرارهم بسد باب الكهف عليهم بصخرة ضخمة .
المكان و الزمان ..
في الحقيقة توجد دراسات تؤيد هذا المعنى و تثبت أن الكهف الوحيد الذي تنطبق عليه المواصفات المذكورة في القرآن الكريم هو كهف الرقيم الموجود شرقي العاصمة الأردنية عمان هذا بالإضافة إلى الأدلة التاريخية ومنها وجود أضرحة الفتية عن يمين و عن شمال الكهف ووجود بعض الآثار التي تدعم هذه الفرضية ، هذه القصة الأولى ..
أما الثانية فيقول بعض الباحثين في هذا الموضوع إن باب الكهف الذي آوى اليه الفتية كان نحو الشمال . ربما تكون هذه هي الفرضية الوحيدة التي تتوافق مع المعنى الوارد في القرآن الكريم ، حيث أشار الله تعالى إلى حركة الشمس داخل الكهف بقوله 🙁 وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْه..ُ ) الكهف الآية 17وهذا يعني بالضرورة أن باب الكهف كان نحو الشمال ، فلو كان باب الكهف من ناحية المشرق لما دخل إليه شيء من أشعة الشمس عند الغروب ، ولو كان من ناحية الجنوب لما دخل منها شيء عند الشروق و لا عند الغروب ، أما لو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الشروق بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب .
كهف الرقيم ، هل احتضن هذا المكان رقدة الفتية لثلاثة قرون !
اما قصتنا الثانية للبحث عن الحقيقة في هذا الموضوع تأخذنا إلى القسطنطينية عاصمة دولة البيزنطيين و بالتحديد في عهد الإمبراطور “ثيودوسيوس الثاني” الذي حكم من سنة 408 م إلى سنة 450 م حيث ذكر بعض المؤرخين أن فتية استيقظوا في ذلك الزمان بعد رقدة استمرت لأكثر من مائتي عام .
جاء في كتاب المنجد في الاعلام ص52 ( أصحاب الكهف يعرفون أيضا باهل الكهف ونوام افسس السبعة هم قوم نبذوا عبادة الأوثان و اعتنقوا المسيحية ثم هربوا من جور داقيوس الامبراطور الروماني و اختفوا في كهف قرب “افسس *” و ناموا نوما عميقا لم يستفيقوا منه الا بعد مئتي سنة في عهد ثيودوسيوس الثاني )
كهف افسوس .. تقول الروايات المسيحية أنه المكان الذي احتضن اصحاب الكهف .
ورغم وجود بعض التناقضات او الاختلافات بين الرواية القرآنية و الروايه التاريخية المدونة في المخطوطات القديمة حيث نسجت حول الرواية التاريخية الكثير من الفرضيات و ربما القصص الخيالية وهو امر نلاحظه أحيانا عند تدوين الوقائع التي تتسم بالغرابة حيث تضاف إليها العديد من الزيادات وتنسج حولها الكثير من الروايات الخيالية إلا أن الشيء الثابت بين جميع هذه الروايات في هذا الموضوع هو أن الفتية استيقظوا بالفعل في عهد ثيودوسيوس الثاني الذي حكم كما ذكرنا من سنة 408 إلى سنة 450 بعد الميلاد .
وربما الشئ الثابت أيضا هو أن أهل ذلك الزمان لم يكن لهم علم بما حدث قبل ثلاثة قرون ولم يكن لهم علم حتى بالفترة التي قضاها الفتية داخل الكهف ، وأما من معرفة خبرهم فقد كان عندما ذهب احد الفتية للمدينة بحذر ليشتري بعد الطعام ، ولكنه تفاجأ بأن المدينة قد تغيرت كليّاً ، وأن المال الذي بحوزته قد اندثر استخدامه منذ عقود ، وان الجميع ممن حوله يدينون بدين المسيحية الذي نفي مع باق اصحابه بسببها .لكن يقيننا يزداد بحدوث نوع من التلاعب في نقل القصة حين نعلم أن المؤرخين لم يقوموا بتدوين خبر استيقاظ الفتية الا بعد عقود من عهد ثيودوسيوس الثاني .
كهف افسوس في تركيا أم كهف الرقيم في الاردن ؟
بما ان الرواية المسيحية انطلقت من افسس، فقد قيل ان الكهف الموجود في المدينة هو الكهف الذي نام فيه اصحاب الكهف نومتهم تلك ، لكن بالعودة للقران الكريم عند قوله تعالى :(إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) الكهف الاية 21
يقول التفسير الميسر في هذه الآية :
….. وبعد أن انكشف أمرهم، وماتوا قال فريق من المطَّلِعين عليهم: ابنوا على باب الكهف بناءً يحجبهم، واتركوهم وشأنهم، ربهم أعلم بحالهم، وقال أصحاب الكلمة والنفوذ فيهم: لنتخذنَّ على مكانهم مسجدًا للعبادة…
لم تذكر هذه الجزئية بصيغة واضحة وصريحة في الروايات المسيحية ولكن نرى ان كهف افسس يجاوره مئات القبور و عدة دور للعبادة ، بينما كهف الرقيم في الاردن يجاوره سبعة اضرحة و مسجد للعبادة .مع العلم ان هناك اختلاف في عددهم وشمل الاختلاف جميع الروايات التاريخية ، بينما لم يذكر القران الكريم عددهم بصورة محددة ، ولكن شاع انّ عددهم سبعة والله اعلم .
ترجيحات يدلي بها التاريخ
بالرجوع الى الفترة التاريخية التي سبقت عصر ثيودوسيوس الثاني بثلاثة قرون أي إلى أواسط القرن الأول او بدايات القرن الثاني بعد الميلاد وهي الفترة التي شهدت بداية الأحداث التي أدت إلى لجوء الفتية الى الكهف ، نجد أن المنطقة المحيطة بجيل الرقيم قد شهدت اضطرابات و انقسامات و صراعات مذهبية و طائفية حادة إلا أن بعض الآثار و اللفائف المستخرجة حديثاً أي في أواسط القرن الماضي من كهوف “خربة قمران ” شمالي البحر الميت ، حملت في طياتها أخبارا عن طائفة كانت على شريعة من الحق انعزلت منذ أواسط القرن الثاني قبل الميلاد عن المجتمع اليهودي و اتبعت حياة الزهد و التقشف و لجئت إلى الصحاري و الكهوف و اتخذت من المغارات الموجودة فى خربة قمران مقرا لها عرف أتباع هذه الطائفة ” بالأسينيين ” ومعناه الأتقياء أو القديسين كما عرفوا ايضا ” بالأبيونيين ” و معناه المساكين ويقال إن النبي يوحنا المعمدان عاش جزءا من صباه بين الأسينيين .
طائفة انعزلت واتجهت الى الصحاري و الكهوف
في سنة 68 م تعرضت المنطقة لغزوة شرسة من الرومان حيث دمروا منطقة قمران وقضت على أعداد كبيرة من الأبيونيين وعاش من تبقى بعد ذلك من الأسينيين مشردين في البرية التي توجد في الضفة الشرقية لنهر الأردن يمكن أن نفهم أيضا من بعض المصادر التاريخية التي تحدثت عن اندثار أو فناء طائفة الأسينيين في أواخر القرن الأول أو بدايات القرن الثاني بعد الميلاد أن أصحاب الكهف الذين ذكروا في القران الكريم كانوا من آخر ما تبقي من الأسينيين بعد أن جرى استئصالهم على أيدي اليهود و الرومان .
وكان الأسينيون قد كتبوا نسخا من التوراة في لفافات مصنوعة من جلد المعز ووضعوها في جرار فخارية مطلية بالنحاس ودفنوها في كهوف خربة قمران وقد تضمنت بعض اللفائف أيضاً نبذة من تراث الأسينيين و معتقداتهم و ايمانهم المطلق بجميع الأنبياء و مخالفتهم لليهود في الكثير من الأمور .
مخطوطات كهوف قمران .. اختفى الكثير منهامن لاحقاً بشكل مريب
يذكر بعض قدماء المؤرخين منهم المؤرخ الشهير يوسيفوس (37 _ 98م ) و المؤرخ فيليون (20ق.م _ 52 م) قد أشاروا في كتاباتهم إلى طائفة الأسينيين وتحدثوا باسهاب عن زهدهم و تبتلهم و انقطاعهم للعبادة و فعل الخيرات و مساعده المحتاجين و كفل الأيتام . ويستفاد مما سبق أن لجوء الفتية إلى كهف الرقيم كان على الأرجح في الفترة الممتدة بين عامي 108 و 150 بعد الميلاد أي تقريبا قبل ثلاثمائة عام من عصر ثيودوسيوس الثاني .
هذا الإطار يذكر المؤرخ أحمد النيسابوري و غيره من المؤرخين فيما نقلوه عن مسلمة أهل الكتاب أن الله عز و جل قبض أرواح أصحاب الكهف بعد ساعات قليلة من استيقاظهم من رقدتهم اي في نفس اليوم الذي فطن فيه الناس لخبر استيقاظهم .
تفاجأ الجميع بأن لديه نقوداً اكل عليها الدهر وشرب ..
خلافا لما جاء في بعض الروايات فإن النص القرآني يشير صراحه إلى أن باب الكهف كان مفتوحا طيلة الفترة التي مكث فيها الفتية داخل الكهف أي على مدى ثلاثة قرون حيث يقول الله عز وجل:(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) الكهف :18
وكان الناس او التجار الذين يسيرون في البرية و يمرون امام الكهف يشاهدون الفتية و لكنهم لا يستطيعون الاقتراب او الدخول الى الكهف من شدة ما يلقى في قلوبهم من الرعب ، وربما هذا يفسر التساؤول الذي يدور حول الرواية التي تخص ملاحقة الملك لهم وقرار اعدامهم ، هل تبخروا ولم يستطع القبض عليهم !
ختاماً
بغض النظر على تعدد الروايات واختلافها ، وبغض النظر أيضاً عن المرجع الذي تؤمن به وتقتنع به أكثر من غيره ، لا يمكن لأحد إنكار أن قصة أصحاب الكهف تبرز احدى جوانب العناية الإلهية الواسعة ، تلك العناية التي اذا اختصها الله عز وجل في احد عباده ، لم يكن ليخشى شرا او مكرا .