يشكل فن الملحون أحد الأعمدة القوية التي تشيد عليها الذاكرة الموسيقية في المغرب، باعتباره من الألوان الغنائية التراثية، التي تحظى باهتمام بالغ من لدن المستمع العربي.
على رغم كون الأغنية التراثية لا تحظى بقيمة كبيرة من لدن المستمع، مقارنة مع موسيقى الراب والراي والشعبي، فإن المتتبع يجد أن الملحون له جمهوره الخاص الذي يتابعه ويستمع إلى أغانيه، بحكم السحر الذي تمارسه أشعاره وموسيقاه على أذن كل مستمع لها. وإذا كان الملحون في أصله عبارة عن مجموعة من الأشعار القديمة يعاد تلحينها وغناؤها وفق أشكال مختلفة ومتنوعة من الكلمة وقواعدها وآلاتها الموسيقية، فإن هذه الأخيرة جعلت الملحون يخرج من طابعه المحلي صوب العالمية.
والدليل على ذلك حجم المهرجانات التي تقام في كل من فرنسا وبلجيكا وهولندا حول الأغنية العربية ذات النفس التراثي، إذ يحضر فن الملحون بوصفه من الألوان الغنائية المؤسسة لمسار هذه المهرجانات الغنائية، بما تنطبع به من صورة فنية وهوية جمالية، تجعل الآخر يروم إلى الاستماع والبحث والتنقيب عن مظاهر تشكل قصيدة الملحون منذ بواكيرها الأولى.
شعرية الكلمة
ليس الملحون مجرد لغة شعرية عامية (دارجة) يرنو إليها العرب لاستكشاف مدى ارتفاع منسوب الشعر في باطنها، لكنه يمثل روح الحياة المغربية العامة خلال العصور الوسطى، إذ يعتبر كثير من المؤرخين أنه يشكل وثيقة تاريخية مذهلة ترصد وتوثق مظاهر الحياة اليومية ونظم عيش المغاربة وطرق تغنيهم بالحب والعشق والصداقة والتعبد.
فالمستمع إلى أغانيه المتنوعة يعثر على كثير من الأغراض المتعددة التي تتجاوز أغراض الشعر المعروفة مثل “الصبوحي” و”العشويات” والليليات”، وهي أغراض تعبيرية خاصة بمفهوم الزمن خلال اليوم الواحد، كما يتكون من أربعة أنظمة عروضية، حيث نعثر داخل كل واحد على عديد من “المقاسات” المشكلة لبنيته العروضية.
دراسات تقليدية
هذا التعدد الوظيفي لـ”الملحون” جعله من الأغاني التراثية المركبة، التي تعتبر علماً مؤسساً له مراجعه وقوانينه ونظمه وبنيته وجماليته، بعد ما ارتأى عديد من الباحثين المغاربة تأليف دراسات وأطاريح ومؤلفات مونوغرافية تعنى بهذا اللون الغنائي الذي يقرب المغاربة بتاريخهم وذاكرتهم.
وعلى رغم الطابع الجدي الذي ميز هذه الدراسات فإن المدقق في منطلقاتها المعرفية وثنايا خطابها الفني سيجد بعضاً من الارتباك في طرق وآليات المقاربة، كون أن غالب هذه الكتابات اقتصرت على الجانب الوظيفي للملحون، ومن ثم الشق التاريخي الذي يتعامل معه كخطاب غنائي تراثي.
كل هذا يحدث من دون التفكير في خصوصية هذا الملحون، وكيف يمكن الحفاظ عليه وتثمينه وجعله خطاباً غنائياً مرغوباً فيه من لدن الأجيال العربية الجديدة، وذلك بدمجه مع الأغاني الحديثة والارتكاز على أنماط موسيقية معاصرة، تجدد فن الملحون وتدفع به صوب قاطرة التحديث والحداثة.
إن ما ينبغي تأليفه عن “الملحون” يتمثل في رصد التجارب الغنائية التي قدمت جديداً فنياً يعول عليه، وذلك بتتبع المسار الغنائي وامتداده داخل بعض الحواضر العربية الأخرى وفهم أسباب وطرق التأثير والتأثر، هذا مع ضرورة القيام بمقاربات نقدية تستوعب مكانة هذا الفن اليوم، وإلى حد يمكن أن يتماهى مع الموسيقى الغربية وأنماطها الإلكترونية.
تعدد الروافد الفنية
تعود جذور والبوادر الأولى لظهور فن الملحون إلى منطقة تافيلالت المغربية ونواحيها إلى زمن يتجاوز خمسة قرون، بما يجعله اليوم من أعرق الفنون التي تميز الحضارة المغربية وتاريخها.
ونظراً إلى سحره وجماله، لم يسترع الملحون كبار القوم من الطبقة البرجوازية والسلاطين فقط، بل إن تداوله من لدن الحرفيين والصنائعيين خلال الحقبة الحديثة مثل: فاس ومراكش ومكناس وتارودانت، أصبح بموجبهم أكثر شيوعاً وانتشاراً واستمرارية في وجدان المغاربة.
لكن المذهل والعجيب في سيرة “الملحون” أنه كلما انتقل إلى حاضرة مغربية ظل يأخذ من سحرها وجمالها، فيجدد نفسه من خلال بيئتها واجتماعها.
بل إن بعض المدن التاريخية التي كانت آنذاك تعرف ذيوع “الموسيقى الأندلسية” جعلت فن الملحون يتأثر بها ويصبحان في لحظة ما عنصرين فنيين قادرين على إنتاج أغنية واحدة. فهذا الترحال الفني أسس صورة الملحون، وجعله يستمر من قرن إلى آخر، ويتنوع ويتشعب ويتغذى بشكل تلقائي من الحضارة الفنية داخل كل مدينة أقام فيها.
يذكر أن غناء الملحون ظل لقرون طويلة حكراً على الرجال، يتغنون به كنوع من التعبد الروحي أو في تجارتهم وترحالهم وصناعتهم وأعراسهم وحفلاتهم.
فكان الرجل مصدر تلحين هذه الأغاني والخروج بها إلى العلن، لكن مع بوادر التحديث التي طالت الفن المغربي منذ السبعينيات ستظهر المطربة المغربية ثريا الحضراوي (1957) باعتبارها سفيرة للملحون، كأول امرأة في العلن وتخرج من بيوت عائلات برجوازية ومتوسطة التي كان يغني فيها الملحون من قبل النساء وبشكل محتشم صوب عالم المسارح العالمية وسهراتها.
بهذه الطريقة اقتحمت الحضراوي مجالاً ظل خاصاً بالرجال، فكسرت من صورة هذه السلطة الذكورية لتتنزل منزلة كبيرة داخل هذا الفن في المغرب.
حداثة الآلة الغربية
تشكل الآلة الموسيقية المعاصرة أداة تحديثية بالنسبة إلى قصائد الملحون. فلولا الموسيقى المعاصرة بمختلف أنواعها وألوانها، ما كان لـ”الملحون” أن يجدد نفسه من الداخل.
مع أن كثيراً من الفرق المغربية لم تستفد من هذه الثورة الجمالية التي شهدتها الموسيقى في الغرب. فظلت تغني قصائده بطريقة قديمة تنفر الناس من الاستماع إليه والاهتمام به والبحث عن قصائده. وهذه الطريقة في التعامل معه تفقده معناه وتسهم في اندثاره وانقراضه، بدل الحفاظ على كنوزه وذخائره.
إنها تجعله غريباً بيننا، كون أغانيه لا تقدم أي جديد موسيقي يعول عليه. أما حين تمزج هذه القصائد بموسيقى البوب أو البيانو أو الغيتار فتبدو كأنها تعيش حياة ثانية أكثر اتصالاً والتحاماً بالزمن المعاصر.
وليست الآلة هي ما يجدد الملحون، بل حتى إن بعض الأصوات النسوية المعاصرة تسحر هذه القصائد فتأخذها صوب عوالم تفتن الروح ويطرب لها جسد الجمهور.
وبغض النظر عن جمهور الملحون فإنه يتراجع يوماً بعد يوم، وحتماً سيختفي ذات يوم، بما أن المهرجانات المغربية وقنواتها لا تعيره أي اهتمام يذكر، مقارنة مع نظيرتها الغربية ومؤسساتها، التي تبقي التجارب الغنائية التراثية حاضرة بقوة تحت إيقاعات مغربية.
من ثم فهي تؤكد بصيغة أخرى التغير الوجودي الذي أصاب مفهوم الهوية الموسيقية وكيف أضحت مركبة يصعب الحسم في جذورها وروافدها وإيقاعاتها.
ثريا
يأخذ “الملحون” في سيرة ثريا الحضراوي صبغة حداثية متجددة تجعل المرء يعشق هذا اللون الغنائي، ذلك أن ألبوماتها الغنائية سافرت منذ بداية تسعينيات القرن العشرين صوب آفاق عالمية، فقد اشتغلت الفنانة مع العازف الروسي ناباتوف وعملا معاً على عديد من الجولات الموسيقية الأوروبية.
وتحققت الحداثة الموسيقية لغناء الملحون في تجربة الحضراوي أكثر من أي تجربة غنائية أخرى، كونها تعيش حداثة فكرية قبل أن تكون غنائية، ما دامت ثريا الحضراوي كاتبة (بالفرنسية) ومطربة منخرطة في تحديث هذا الفن منذ نهاية السبعينيات. فهذه التجربة مع ناباتوف تعد الأجمل والأعمق في تاريخ فن الملحون.
من كان يتصور أن يصبح الملحون في ضيافة الموسيقى الروسية وعلى يد ذلك الموسيقي الكبير. وقد ذهبت الحضراوي أعمق من ذلك بكثير، بعد أن جعلت مجمل ملابسها وأكسسواراتها تتخذ ميسماً معاصراً، لكن بلمسة تراثية تظهر مهارة التصاميم المغربية والتنورات العربية بكل غناها وجمالياتها.
وتبقى أغنية “ليل عجيب” أشهر هذه الأغاني، حيث الصوت يوجه أنامل ناباتوف على البيانو، لكن في لحظة جمالية يغدو البيانو ذا سلطة على الصوت، فيتقاطعان بشكل جمالي مذهل ويصنعان معاً مسار الأغنية في ذهن المستمع.
المصدر: اندبندنت