تكاد لا تخلو ذاكرة أحدنا اليوم من صورة رسخت في ذهنه، منذ أيام طفولته، عن غرفة منزلية لبيت الجد تضع فيها الجدات مؤونة المنزل من حبوب وبقول ومخللات وغيرها لتكون حرزًا لهم من الجوع أو العازة في أيام تعذر توافر الأغذية أو صعوبة الحصول عليها وتوافر المنتجات في غير مواسمها التي تنتج أو تزرع فيها.
كذلك لا تخلو الذاكرة من مشاهد تجفيف بعض الخضراوات وحفظ بعضها بالخل أو الزيت ومهرجانات تحويل القمح إلى برغل وكشك أو صناعة المكدوس أو المخللات، هذه المشاهد التي تربينا عليها في طفولتنا تكاد تختفي اليوم في عالمنا المتسارع الذي غدت فيه الأسواق مفتوحة على مصراعيها لتوفر الاحتياجات على مدار أيام العام.
لكن الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة التي أخلت بتوفير صادرات القمح للعالم وما سبقها من حروب في سوريا والعراق واليمن وتقلص قدرات هذه البلدان على توفير غذائها وتزايد تعداد سكان العالم وتقلص موارده كانت جرس إنذار كبير تعيد للأذهان أهمية توفير الأمن الغذائي على صعيد الأفراد والمجتمعات.
في هذا المقال الذي سيكون مقدمة لملف “بيت المونة” الذي ينشره “نون بوست”، سنحاول فيه تسليط الضوء على البدايات الأولى لنشوء بيت المونة وكيف أثر هذا على تسريع ظهور المدن والحضارات الإنسانية مروًا بأهميته واتساعه وتحوله من حالة فردية إلى إحدى مهام الدولة وأسس أمنها القومي، ولماذا بدأنا نفقد بيوت المونة كأفراد ومجتمعات وما علاقة العولمة وصراع الخصوصية والانفتاح العالمي بفقدان أمننا الغذائي.
بيت المونة.. البدايات
نشأ الإنسان قديمًا قبل التاريخ صائدًا للفرائس وجامعًا للثمار مختارًا للكهوف كمنازل للعيش ووسيلة للحماية من الحيوانات المفترسة وتغيرات الطقس، وما لبث أن اكتشف الزراعة فهجر الكهوف وتحول إلى الأراضي الخصبة المجاورة للأنهار، لتتشكل أولى القرى الزراعية التي عرفها الإنسان.
ومع اكتشاف الزراعة والتوسع بها ظهر فائض محاصيل في مواسم الجني وغياب هذه المحاصيل في مواسم ثانية، فكانت هذه الحاجة لتوفير المحاصيل في أيام غيابها وصعوبة زراعتها هي النواة الأولى لبيوت المؤن أو الصوامع لجمع الإنتاج الزراعي الذي يزيد على الاستخدام اليومي.
مع زيادة تخزين المحاصيل ووجود مجاميع من البشر ما زالت تسكن الكهوف ولا تزرع، كانت الصوامع والمخازن تتعرض باستمرار للنهب والسرقة، ما دفع المزارعين لتوحيد جهودهم وبناء الأسوار حول قراهم وتخصيص حرس للحماية ووضع نظام لذلك، فكانت هذه الإجراءات اللبنة الأولى لقيام الحضارة الإنسانية، نتيجة استقرار الناس داخل المدن وتراكم الخبرات فيها لتتكون المعرفة التي قامت على أسسها الحضارات.
توسع بيت المونة
إن فائض الإنتاج أو الصيد في مواسم محددة وغيابه في مواسم ثانية هو الدافع الأساسي لتحرك الإنسان لفكرة التخزين البسيطة التي كانت مقتصرة على الحبوب التي لا تحتاج حماية غير توافر أماكن جافة للتخزين، ثم تطور الإنسان فأبدع في حفظ فائض الإنتاج، فظهر التجفيف عبر تعريض الأغذية للهواء والشمس وهي طريقة رغم قدمها ما زالت تستخدم في الكثير من البلدان، فأهالي جنوب العراق يحفظون فائض صيد الأسماك بفتحها وإزالة الأحشاء الداخلية ثم تعليقها أمام الشمس حتى تجف وعند الاستخدام يعاد نقعها في الماء ثم تطبخ، ويطلق على هذه الأسماك “المسموطة” وهي وجبة غذائية مهمة للسكان المحليون.
كان عام 1810م عامًا فارقًا في قدرة الإنسان على تخزين الطعام، إذ أصدر صانع الطعام الفرنسي نيكولاس أبير كتابًا عن طرق حفظ الطعام عبر تعليبه
وكذلك يفعل بفائض الخضراوات، فيجفف الباذنجان والقرع والفلفل والبامية وغيرها، لتحفظ وتستخدم عند الحاجة، وصورة قلائد المجففات المعلقة في منازلنا الشرقية لا تزال حاضرة في الذهن، كذلك استخدم الإنسان التخليل والتسكير والتمليح لمنع فساد الأغذية بعزلها عن الهواء الذي يؤدي لإفسادها بمواد مختلفة كنقعها بمحلول الخل أو الملح أو السكر، فظهرت المخللات والمربيات والأغذية المملحة كالأسماك المملحة وغيرها ولم يقتصر على ذلك بل استخدم التبريد للحفظ عبر تموين بعض الأغذية في الكهوف الباردة أو في التلوج كما يحدث في مناطق القطبية.
ولم يكتف الإنسان قديمًا وحديثًا بذلك، بل حول بعض المنتجات لحالات أخرى لتقاوم وتحافظ على إمكانية استخدامها كتحويل حليب الحيوانات لمنتجات مختلفة يمكن تخزينها كبعض أنواع الأجبان أو الدهون وغيرها، فتوسعت بيوت المؤن لتضم طيفًا واسعًا من الحبوب والبقول والمربيات والمجففات والمخللات والدهون والزيوت، ما يضمن توافر الغذاء بكل مفرداته، وأيضًا لم يكتف الإنسان بذلك بل طور وسائل حفظ الأطعمة.
كان عام 1810م عامًا فارقًا في قدرة الإنسان على تخزين الطعام، إذ أصدر صانع الطعام الفرنسي نيكولاس أبير كتابًا عن طرق حفظ الطعام عبر تعليبه، ويعرف أبير اليوم بأنه “أبو التعليب” وذلك بعد فوزه بمسابقة أقامها نابليون بونابرت لتقديم طريقة لحفظ الطعام وسهولة تقديمه لجنوده في نفس العام.
حصل بيتر دوراند، تاجر بريطاني، على براءة اختراع لتقنية حفظ الطعام الخاصة به باستخدام علبة من الصفيح كحاوية لحفظ الأغذية لمدة طويلة، وبذلك ظهر التعليب وانتشر بشكل كبير عالميًا خاصة بعد اختراع أمريكي لفتاحة العلب، ما جعله في متناول يد الجميع.
ثقافة بيت المونة وصراع العولمة
إن ثقافة التخزين التي نشاهدها في بعض المدن وتغيب عن بعضها الآخر لم تأت أو تغيب اعتباطًا، فالتاريخ يخبرنا أن ثقافة التخزين والتموين هي نتاج لأحداث سابقة ضربت بعض المجتمعات وجعلتها تتمسك بثقافة التخزين كحالة ثقافية سائدة في السلم والحرب.
فالموصل القديمة، المدينة التي نشأتُ بها، بنيت تحت أغلب منازلها سراديب كبيرة بها غرف خاصة للتخزين وتكون غالبًا باردة في الصيف مما يساعد على عدم فساد الأطعمة، وكنتُ في طفولتي أستغرب من الحرص الشديد على تخزين الطعام رغم توافره في الأسواق طوال العام، لكن تاريخًا طويلًا من الحروب والحصارات التي ضربت المدينة في القرون الماضية – أشهرها حصار نادر شاه عام ١٧٤٣م الذي صمدت فيه المدينة نتيجة توافر هذه المخازن، والمجاعات المتكررة التي ألمت بالمدينة – أقساها ما حدث في الحرب العالمية الأولى من قحط وجوع تزامن مع سنوات الحرب الأخيرة وضرب أغلب مدن الشرق الأوسط وقتلت ثلثي سكان لبنان – كل ذلك رسخ أهمية التموين والتخزين في العقل الجمعي للمدينة حتى في أعظم لحظات السلم والرخاء وهذا الذي لم أفهمه حتى طالعت تاريخ المنطقة.
هذه الثقافة الحريصة على التخزين تتغير اليوم في ظل ضغط العولمة على خصوصيات الثقافات الفرعية في مدنا وبلادنا، ما جعلنا نفقد تدريجيًا بيت المونة ونفتح أبوابنا أمام ثقافة الاستهلاك السريع مع توافر السلع وسهولة الاستيراد، فمميزات ثقافة العولمة المعتمدة على توافر السلع وسهولة النقل والتواصل جعلتنا نغير مطابخنا المحلية ووجبات الغذاء في بلادنا من أطباق تعتمد 100% على ما ننتجه على أرضنا إلى أطباق نحتاج إلى استيراد موادها الأولية من بلدان ثانية منتجة لها، لذلك سوقت أطباق محددة عالميًا لتكون وجبات تغزو البلدان ولأننا لا نزرع أو ننتج مكونات هذه الأطباق سيكون أمننا الغذائي مرهونًا بالبلدان المصدرة لها.
كانت جداتنا قديمًا أكثر حكمة وأقدر على صناعة أمننا الغذائي من حكومات ومجتمعات اليوم التي يكاد يسيطر عليها بشكل كامل ثقافة الاستهلاك السريع عبر الاستيراد والارتهان لمن يمتلك أدوات العولمة
فطبق الأرز الذي حل محل البرغل المنتج من القمح في منطقة الجزيرة الفرانية في العراق والشام جعلنا في حاجة لمحاصيل الأرز التي ننتجها بشكل محدود جدًا أو تكاد معدومة مقارنة بالقمح المتوفر بكثافة في هذه المناطق فنضطر للاستيراد، ومن الأمثلة الصارخة على إشكالية ما نأكل ونزرع أن مصر أكبر البلاد العربية عددًا تضطر لاستيراد 60% من الفول لتوفير طبق الفطور المصري الشهير “الفول والطعمية” الذي يعتبر أحد أعمدة المطبخ المصري ومصدر قوت الملايين يوميًا!
إن الانجراف الأعمى خلف الثقافات العالمية وعولمة المطبخ في مدننا وبلادنا يهدد أمننا الغذائي، فمن غير المنطقي أن يكون أكثر شعوب المنطقة استهلاكًا للحوم الحمراء هو الشعب الفلسطيني وهو شعب ساحلي يقع على البحر المتوسط وتشتهر مدنه بالزراعة أكثر من الثروة الحيوانية! كذلك يحدث في مصر التي لا تنتج من زيوت الطعام إلا 2% فقط من حاجتها وتستورد 5.5 مليون طن سنويًا لتوفير الطعام لمئة مليون مصري لا يأكل ما يزرع!
إن مقولة “نأكل ما نزرع ونلبس ما نحيك” هي ثقافة بدأت تتفلت من مجتمعاتنا، فقد كانت جداتنا قديمًا أكثر حكمة وأقدر على صناعة أمننا الغذائي من حكومات ومجتمعات اليوم التي يكاد يسيطر عليها بشكل كامل ثقافة الاستهلاك السريع عبر الاستيراد والارتهان لمن يمتلك أدوات العولمة حتى شاهدنا خمس دول عربية تتصدر بؤر الجوع هذا العام وفق تقرير للأمم المتحدة.
في ملف بيت المونة سنحاول قدر الإمكان مناقشة هذه الفكرة من زواياها المختلفة، باحثين عن حلول للأفراد والمجتمعات لتحقيق أمننا الغذائي ولو بشكل جزئي يضمن لنا ولعوائلنا قدرًا أكبر من الاستقرار في ظل تقلبات العالم الحاليّة.
المصدر: نون بوست