ما هو لغز الهياكل الحجرية الأثرية الغامضة في صحراء المملكة العربية السعودية، وأين هي جنة الآلهة “دلمون” التي ذكرتها الأساطير السومرية وتغنّت بها، ومن أيّ حضارة أتت ملكة سبأ لمقابلة النبي سليمان! سوف نكمل في هذا المقال ما بدأناه في الجزء الأول من ألغاز وأسرار حضارات الشرق القديم، وهذه المرة سنعرض بعض أسرار الحضارات في شبه الجزيرة العربية. قراءة ممتعة.
قلنا في الجزء الأول من المقال إنّ “التاريخ يبدأ من سومر”، صحيح، لكن هذه المرة سنعود بكم إلى عصور ما قبل التاريخ، إلى حضارات وضعت بصمتها الغامضة والفريدة قبل بدء التاريخ بآلاف السنين، هيا بنا إلى شبه الجزيرة العربية.
شبه الجزيرة العربية: حضارة إسلامية، صحراء قاحلة، جمال وخيول. أليست هذه هي الصورة النمطية التي تخطر على البال مباشرةً عندما نسمع أو نقرأ اسم هذه المنطقة! في الواقع، إننا مخطئون. فهذه البقعة من الكرة الأرضية أكثر بكثير من أن تمثل فقط تلك الصحراء الأزلية التي يتخيلها الناس في كثير من الأحيان، في هذا المكان من العالم وفي زمن يسبق بدء التاريخ، حدثت إحدى أقدم التطورات الثقافية الإنسانية الملحوظة.
حيث اكتشف علماء الآثار مجموعة غامضة من الهياكل الحجرية الأثرية القديمة في المنطقة الشمالية الغربية من المملكة العربية السعودية في سبعينات القرن الماضي. تاريخ هذه الهياكل أقدم بكثيرٍ مما كان يتوقَع، إذ يُقدّر العلماء عمرها بحوالي 7000 عام، أي أنها أقدم بحوالي 2000 عام من الأهرامات المصرية، ومن الآثار الحجرية الضخمة المعروفة باسم “ستونهنج” في إنجلترا، ما يجعلها ربما أقدم مشهد طبيعي لطقوس وشعائر تم تحديدها على الإطلاق. فما سر هذه الهياكل، مَن بناها؟ ولماذا؟
اكتشاف الهياكل الحجرية
يحتوي حقل حرات خيبر، وهو أحد أكبر حقول الحمم البركانية في حقبة الحياة المعاصرة Cenozoic، والواقع في المملكة العربية السعودية على بقايا أثرية لنشاط يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، تخص مجتمعات العصر الحجري الحديث. وقد تم الإبلاغ لأول مرة عن “تشكيلات حجرية دائرية غامضة” تشبه تلك الموجودة في أوروبا في مقال نشرته الصحيفة الأسترالية “سيدني مورنينغ هيرالد” عام 1977، حيث تتواجد هذه الهياكل في جميع أنحاء هذا البلد القاحل على قمم التلال والوديان البعيدة عن أماكن سكن الإنسان.
يمكن اعتبار منطقة خيبر منطقة فريدة من نوعها، بسبب كثرة الآثار المرئية فيها، والتنوع الكبير في الهياكل الحجرية والتي بقيت محفوظة بحالة ممتازة بسبب المناخ المحلي الجاف، وبسبب حقيقة أنّ معظمها غير مدفون تحت الرمال أو الحمم البركانية، بالتالي هذا ما جعله يمثل منظرًا طبيعيًا كاملًا لعصور ما قبل التاريخ وكأنّ الزمن ما مر عليه قط.
ومع ظهور صور الأقمار الصناعية تم التعرف على هذه الهياكل بطريقة أكثر دقة ومنهجية، في حين ظلت المشاهدات الميدانية لفترة زمنية طويلة مقتصرة في الغالب على العمل الذي قام به روبول وكامب عام 1991 لرسم الخرائط الجيولوجية لشبه الجزيرة العربية.
أما اليوم، ومن خلال صور الأقمار الصناعية، وطائرات المروحية، والمسوحات الأرضية، والحفريات، فقد اتضحت الصورة أكثر. وقبل أن نكمل الحديث عن بناة الهياكل والغرض منها، دعونا نرى بعض الصور التي توضح الأنواع المختلفة لهذه الهياكل، والتي التقطت لعدة مواقع أثرية في محافظة العلا وخيبر في شمال غرب السعودية.
صورة توضح هيكل ثقب المفتاح من الجوّ
يمكن رؤية العديد من الهياكل الغريبة التي يسميها علماء الآثار بـ “قلادات ثقب المفتاح”. على سبيل المثال، تبين صورة هذا الموقع وجود العديد من القلادات إلى جانب بعضها البعض، يبلغ طول القلادة الأكبر في المجموعة 31 مترًا، وتحتوي على قبة دائرية بقطر 3.5 متر. كما يتميز هذا الهيكل بأن جدران قسم المثلث قد شُيِّد باستخدام كتل الصخور بدلًا من ركام الحجارة المتكدسة المُستخدَمة عادةً في بناء جدران الهياكل. لوحظت هذه الميزة في قلادة أُخرى تقع على بعد بضع مئات الأمتار إلى الشمال الشرقي.
هيكل “عين الهدف”
في هذا الموقع، يمكن مشاهدة جدار صخري منخفض يمتد مسافة 1.36 كيلومتر ويربط بين نوعين من الهياكل الحجرية، الأول ذو شكل دائري يشبه ما نسميه عادةً بـ “عين الهدف”، والثاني عبارة عن هيكل حجري على شكل مستطيل.
هيكل المثلث يشير إلى هيكل “عين الهدف”
هناك العديد من الهياكل الحجرية المبنية على شكل مثلث، والتي غالبًا ما تشير إلى هيكل “عين الهدف”. وفي بعض الأحيان، تم استخدام صف من ركام الحجارة للربط بين المثلث وهيكل Bullseye. تتراوح أبعاد المثلث من 15 إلى 30 مترًا، أما أعدادها فقد تم تحديد 260 مثلثًا في المملكة العربية السعودية عام 2017
هيكل “عين الهدف” على قمة مستطيل
في هذا الموقع، يمكن رؤية هيكل “عين الهدف” أعلى هيكل المستطيل محاطة بتدفق الحمم البركانية. غالبًا ما يتم رؤية هياكل “عين الهدف” وغيرها من الهياكل الأُخرى مبنية على قمة المستطيلات، مما قد يشير إلى أنّ المستطيلات قد تم بناؤها أولًا.
المستطيلات
درست إحدى البعثات الحديثة التي قام بها فريق من جامعة غرب أستراليا بتمويلٍ من الهيئة الملكية لمحافظة العلا مجموعة غامضة من الهياكل الضخمة المميزة بشكلها المستطيل. يتكون هذا الهيكل من منصتين أو جدارين متوازيين قصيرين وسميكين من الحجارة المكدّسة، يتصلان مع بعضهما بواسطة جدارين أكثر طولًا وأقل سماكةً. بعضها عبارة عن إنشاءات بسيطة بجدران صخرية قليلة الارتفاع، وبعضها الآخر أكثر تعقيدًا بكثير، إذ يحتوي على أعمدة وجدران داخلية وغرف صغيرة.
أسرار وألغاز حضارات الشرق القديم
بعض أشكال المستطيلات الموجودة في محافظة العلا في السعودية
عُرِف هذا الهيكل سابقًا باسم “البوابة” نظرًا لتشابهه مع البوابات الميدانية الأوروبية التقليدية عند النظر إليه من الجوّ، لكن عدّلت الهيئة الملكية لمحافظة العلا اسمها مؤخرًا ليصبح “المستطيل” لتجنب أي التباس في التسمية.
اكتشف الفريق ما يزيد عن 1000 هيكل مستطيل، بنيت منذ 8500-4800 عام، خلال الفترة المعروفة باسم الهولوسين الأوسط. تتفاوت أطوالها ما بين 20 إلى 620 مترًا، وقد احتاج بناء أحد هذه المستطيلات إلى 12000 طن من حجر البازلت. تمتد على مساحة تزيد عن 200,000 كيلومتر مربع شمال غرب السعودية مع تركز وجودها في محافظتي العلا وخيبر.
من بنى الهياكل الحجرية في شبه الجزيرة العربية ولماذا؟
لا يزال بناة الهياكل مجهولين، مَن هم، من أين جاؤوا، لماذا بنوها؟ أسئلة ما زالت غامضة، وبالطبع لن ننسى أن بعض التحليلات على مواقع الويب تشير إلى الكائنات الفضائية، كالعادة! لكن، وعندما سُئِل البدو أول مرة في عشرينات القرن الماضي عن بناة هذه الهياكل قالوا بأنها “أعمال الأقدمون” أو “أعمال كبار السن “Works of the old men”.
بعض أشكال الهياكل الحجرية في المملكة العربية السعودية دعونا من الفضائيين ولنعد إلى العلم، فكما أشرنا في المقدمة، لم تكن شبه الجزيرة العربية منذ الأزل صحراء قاحلة، إذ أنها وفي الفترة الممتدة ما بين 10 آلاف إلى ستة آلاف عام مضت، لم تكن بالشكل الذي نعرفه اليوم، بل يمكن وصفها في تلك الفترة بـ “الجزيرة العربية الخضراء”، حيث أدت زيادة هطول الأمطار إلى تغيير تلك المنطقة القاحلة بشكل عام. وخلال هذه الفترة من التحسن المناخي، حدث الانتقال إلى العصر الحجري الحديث في شبه الجزيرة العربية. ويعتقد العلماء أنه وخلال هذه الفترة أي في وقتٍ ما من العصر الحجري الحديث تم بناء تلك الهياكل الحجرية المختلفة في شمال شبه الجزيرة العربية.
أدت زيادة الهطولات المطرية في العصر الحجري الحديث إلى زيادة الغطاء النباتي في شبه الجزير العربية
تمثل هذه الصروح الأثرية أحد أقدم المحاولات واسعة النطاق لبناء هياكل حجرية ضخمة على مستوى العالم.
وما زال سبب بنائها مبهمًا نسبيًا بالنسبة لعلماء الآثار، فجدرانها الطويلة قليلة الارتفاع وافتقارها إلى أماكن دخول محددة لا يدعم فكرة أن تكون حظائر للحيوانات. وكذلك الأمر، فإن مواقع بنائها تقلل احتمال أن تكون قد استُخدِمت بغرض تخزين المياه. كما أنها لم تكن على الأغلب مواقع سكن طويلة الأمد أو متكررة الاستخدام، بسبب غياب المواقد والصخور الحجرية. لكن يرجح العلماء على الأغلب أنها ترتبط بسلوكيات طقوسية وشعائر في سياق تبني الرعي.
كما أنّ عملية البناء المتكرر للمستطيلات على مقربة من بعضها البعض يشير إلى أنّ جانبًا مهمًا من استخدامها يتعلق بعملية البناء بحد ذاتها، بدلًا من استخدامها الفعلي على المدى الطويل. إذ يشير التكرار الظاهر في بناء المستطيلات إلى التركيز على التعاون المجتمعي باعتباره جانبًا رئيسيًا لفهم وظيفة الهياكل. بالتالي، يمكننا أن نأخذ في الاعتبار شكلين من الطقوس فيما يتعلق بالمستطيلات، الأول هو السلوكيات الطقسية التي يتم تنفيذها داخلها، والآخر هو العملية الفعلية لبنائها.
أسرار وألغاز حضارات الشرق: شبه الجزيرة العربية
بناء المستطيلات بجانب بعضها البعض يسلط الضوء على التعاون المجتمعي في محاولة فهم سبب بنائها
يمكن أيضًا البحث في وظيفة المستطيلات من خلال النظر عبر منظور أشمل، أي عبر السياق الإقليمي الأوسع. لكن لا بدّ من التنويه في البداية أنه وعلى الرغم من عدم وجود مكافئ دقيق لهذه الهياكل، والتأكيد على الطابع الفريد والمميز لها، إلا أنه قد يوجد هناك شكل من أشكال العلاقة بين “المستطيلات” وبين نوعين من الهياكل الموجودة في جنوب بلاد الشام.
النوع الأول هو منصات مستطيلة مرتبطة بأواخر العصر الحجري الحديث، والنوع الثاني هو هياكل مستطيلة مُسجلة كـ “مواقع عبادة” توصَف على أنها مزارات ومقدسات في جنوب بلاد الشام القاحلة. وعلى الرغم من أنّها غير مؤرخة بشكل دقيق، إلا أنها ترجع إلى فترة مماثلة لتلك المرتبطة بـ “المستطيلات”.
هياكل حجرية في جنوب بلاد الشام
لا تتطابق مواقع العبادة هذه مع “المستطيلات” فهي أصغر بكثير، وتفتقر للمنصات، وهي عمومًا مقسمة داخليًا بشكل أكبر. لكن ومع ذلك، فإن وجود هياكل مستطيلة ذات طابع طقوسي في المنطقة الجنوبية من بلاد الشام قد تشكل مصدر إلهام تنتشر منها الأفكار والسكان إلى داخل شبه الجزيرة العربية.
حضارات مدهشة
إذًا وكما رأيتم، فإن تاريخ الحضارات في شبه الجزيرة العربية يمتد إلى زمن سحيق، أقدم من الحضارة الإسلامية بكثير، قديمة كانت وكثيرة وعريقة، لن نستطيع ذكرها جميعها، سوف اختار لكم بعضها والتي بقي الغموض يكتنفها فترة طويلة.
الفردوس المفقود
“أرض دلمون مكان طاهر، أرض دلمون مكان نظيف
أرض دلمون مكان نظيف، أرض دلمون مكان مضيء
في أرض دلمون لا تنعق الغربان
ولا تصرخ الشوحة صراخها المعروف
حيث الأسد لا يفترس أحدًا
ولا الذئب ينقض على الحمل
ولا الكلب المتوحش على الجدي
حيث لا أحد يعرف رمد العين
ولا أحد يعرف آلام الرأس
حيث لا يشتكي الرجل من الشيخوخة
ولا تشتكي المرأة من العجز…الخ”
هكذا تبدأ أسطورة دلمون إحدى أشهر الأساطير السومرية، والتي تتحدث عن الفردوس الذي عاش فيه إنكي إله المياه العذبة مع زوجته ننخرساج إلهة الأرض، وقد كانت -حسب الأسطورة- أرضًا طاهرة مباركة نظيفة خالية من الأمراض.
وفي نصٍّ سومريّ آخر، والمعروف بأسطورة الطوفان السومرية، قيل عن دلمون بأنها الأرض التي نُقِل إليها “أوتنابشتيم”، نوح السومريّ، ليعيش خالدًا بين الآلهة، فهي أرض الخلود.
فهل كانت دلمون جنة افترض وجودها خيال القدماء، أم كانت مكانًا يتلألأ على أرض الواقع؟
بقيت دلمون مكانًا يكتنفه الغموض لمئات السنين، وعلى الرغم من أنها تزامنت مع حضارة السومريين، وذكرتها العديد من الوثائق الاقتصادية المسمارية والتي تم التنقيب عنها في مدينة أور، إحدى أهم المدن السومرية حينذاك، إلا أنها بقيت حضارة غامضة لم يؤتَ على ذكرها إلا قليلًا، بل وبقيَ موقعها مجهولًا لفترة طويلة.
لغز حضارة دلمون المفقودة
أثناء عمل عالم السومريات واللغة السومرية صمويل نوح كريمر وبحثه في الأعمال الأدبية السومرية، وجد الكثير من الأدلة التي تشير إلى دلمون، “المكان الذي تشرق فيه الشمس”، وقد استنتج حينها أنها تقع إلى الشرق من سومر، ووجد العديد من الألواح التي تتحدث عن العاج والأشياء المصنوعة من العاج التي استوردت من دلمون إلى مدينة أور، كما وجد العشرات من أختام حضارة السند أثناء عمليات التنقيب في سومر، كلّ ذلك دفعه إلى وضع فرضية مفادها أنّ دلمون هي أرض السند، أو جزء منها على الأقل.
أسرار وألغاز حضارات الشرق القديم
أماكن أثرية متبقية من حضارة دلمون إلا أنّ هذه الفرضية فقدت صحتها لاحقًا، فقد استطاع فريق أثري دنماركي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، من خلال أعمال التنقيب في الأجزاء الشرقية من شبه الجزيرة العربية اكتشاف أدلة تشير إلى أنّ حضارة دلمون المفقودة كانت قد نشأت سابقًا في هذه المنطقة، في المنطقة التي أصبحت تُعرَف اليوم بدولة البحرين.
من آثار حضاراة دلمون في البحرين
توصل الفريق إلى أنّ عاصمة دلمون كانت مبنية في البحرين، تُعرَف اليوم بـ “قلعة البحرين”، والتي تولت السلطة منذ حوالي 2800 عام قبل الميلاد. وقد سيطرت هذه الحضارة طوال ألفي عام على التجارة والطرق البحرية بين بلاد ما بين النهرين ومدن وادي السند. ولاحقًا، تم دمج دلمون مع الامبراطورية الآشورية وذلك قبل الميلاد بـ 600 عام.
قلعة البحرين، عاصمة حضارة دلمون في السابق
واليوم، ما زالت أعمال التنقيب تكشف العجائب. ومؤخرًا، أدرجت لجنة التراث العالمي لليونسكو كلًا من موقع قلعة البحرين وموقع تلال مدافن دلمون ضمن لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو.
لغز الجغرافيا والكنز المفقود
ربما لم يسمع العديد منا عن حضارة دلمون سابقًا، لكن لا بدّ أن الغالبية قد سمعت بمملكة سبأ العظيمة، صحيح!
مملكة سبأ العظيمة، مملكة عربية ثرية، تقع في الركن الجنوبيّ الغربيّ من شبه الجزيرة العربية، والتي تُعرَف اليوم بدولة اليمن. وقد كانت ذا تاريخ عريق يمتد إلى أكثر من 3000 عام مضى، وموقع استراتيجيّ يتربع على مفترق طرق بين شرق إفريقيا والجزيرة العربية وآسيا، ما جعلها أمة مزدهرة ومركزًا حضاريًا رائعًا في تلك الأيام.
أماكن أثرية من مملكة سبأ في اليمن
ظهرت قبل الميلاد بحوالي 1100 عام، وهي الحضارة التي بنَت سد مأرب العظيم، أقدم سد في العالم، والذي شُيِّد عام 940 قبل الميلاد، فأوقف الفياضانات الموسمية، ووفّر المياه الكافية لريّ سهول اليمن التي كانت خصبةً ذات يوم.
ورغم تلك الثروة والنفوذ، فقد اشتهرت سبأ بشيء آخر، شيء أعظم، وهو الحاكمة الأسطورية لمملكة سبأ، والتي ذُكرِت في الأديان السماوية الثلاث، وُصِفت بملكة الجنوب في العهد الجديد، وسماها العرب “بلقيس”.
تروي التوراة والإنجيل والقرآن قصة هذه الملكة الثرية ذات العرش العظيم مع النبيّ سليمان، والذي حكم في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد. وتتشابه القصة في كل الروايات الدينية في أنّ تلك الملكة الحكيمة قد توّجهت إلى القدس محملة بالبخور والتوابل والذهب، لمقابلة النبيّ سليمان.
حسنًا، في الواقع، لا تتشابه كل الروايات مع بعضها البعض! ففي القرن الرابع عشر، في المرتفعات الشمالية الشرقية للقرن الإفريقي، وهي ما يعادل اليوم إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، اتخذّت قصة الملك سليمان وملكة سبأ منحىً جديدًا. في هذه النسخة من الرواية، أصبحت الملكة تحمل اسمًا جديدًا، ماكيدا
ظهرت هذه القصة في كتاب “كيبرا ناغاست”، ويعني “مجد الملوك”، وهو الكتاب الذي وحّد الثقافة الإثيوبية لعدة قرون، وقد جرت أحداثه في مملكة أكسوم، الحبشة سابقًا، إثيوبيا اليوم. وفي هذه القصة أيضًا، تسافر ملكة الجنوب، الملكة ماكيدا، إلى القدس لمقابلة الملك سليمان بنفسها، محملةً قوافلها بالبخور والتوابل والذهب، لكنها ترجع إلى مملكتها حاملًا بابن الملك لتنجب طفلًا تدعوه “مينليك” أي “ابن الحكمة”، ومنه تنشأ سلالة سليمان الحاكمة في إثيوبيا والتي حكمت لأكثر من سبعة قرون.
لغز الجغرافيا، من أين أتت ملكة الجنوب
لا تزال ملكة سبأ ضائعةً في التاريخ، وفي الجغرافيا أيضًا. أما الموقعان الرئيسان المحتملان هما: مملكة سبأ في اليمن، ومملكة إكسوم في إثيوبيا. لكن وبعد أكثر من قرن على الحفريات والبحث اللذين قام بهما مجموعة من علماء الآثار للحصول على دليل مادي على وجود الملكة، لم يتم العثور على أيّ منها حتى الآن.
بل وما زاد القضية حيرةً وغموضًا هو موضوع الزمن، فالتسلسل الزمني المنسوب إلى الملك سليمان كان في الغالب في القرن العاشر قبل الميلاد، في حينّ مملكتي سبأ وأكسوم لم تصلا إلى أوج عصرهما ويظهرا كقوة دولية إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، أي بعد فترة زمنية طويلة من حكم سليمان.
ومع ذلك، فإن القرآن الكريم والمصادر اليهودية تذكر المواقع التي تربط ملكة الجنوب بمملكة سبأ بشكل واضح، فوجود المدينة القديمة في اليمن مدعوم بالأدلة بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، تتحدث العديد من النصوص الآشورية عن ملكات عربيات عُرِفن في عصر الازدهار لمملكة سبأ، وتذكر النصوص أيضًا أنّ السبئيين كانوا يرسلون السفراء والهدايا إلى البلاط الآشوري في بعثات تجارية ودبلوماسية.
من جهة أُخرى، تحظى الرواية الأثيوبية بدعم قويّ من مؤرخ القرن الميلادي الأول فلافيوس جوزيفوس، والذي وصف ضيفة الملك سليمان بأنها “ملكة مصر وإثيوبيا”، مما يشير إلى الأصل الأفريقي لملكة الجنوب.
من وجهة نظرٍ أُخرى، قد لا تكون ملكة الجنوب من سبأ ولا من إثيوبيا، إذ اقترحت بعض البعثات الدراسية الجديدة أنّ أصل الملكة قد يكون من حضارة مغايرة تمامًا، مثل حضارة البونت (البنط) في شمال شرق الصومال، فقد ذكرت المصادر المصرية منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد أن حضارة البونت كانت قد زودت مصر بالبخور والتوابل والذهب، جميع السلع التي ارتبط بها اسم ملكة سبأ!
فلنأمل أن يحسم علماء الآثار مستقبلًا هذه القضية، علهم يحلّون لغز المكان الذي دفنت فيه بلقيس كنوزها الأسطورية!
في الختام، لا بدّ أن نذكّركم أنّ الكثير من الأسرار لا زالت تنتظر أن تُكشف، فأينما نقّلت ناظريك في الشرق الأوسط تجد حضارةً تبهر الأبصار، وألغازًا تخطف القلوب والعقول، ومهما كتبنا عن تلك الحضارات فنحن لا نعطيها حقها أبدًا، فهنيئًا لها في ذكراها، وهنيئًا لنا الشرف أننا نحيا على الأرض التي عاشوا عليها.
مواقع عربية