من أي نقطة مرتفعة في (نيكوسيا) عاصمة جزيرة قبرص وأكبر مدينة فيها؛ بإمكانك رؤية علم عملاق يرمز لمنطقة شمال قبرص التي تحتلها تركيا، والذي رسم على منحدرات جبال (كيرينيا). بجانب هذا العلم يوجد علم آخر لتركيا واقتباس تركي أسطوري من تأليف مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة، الذي يقول فيه: ”Ne Mutlu Türküm Diyene“، فيما معناه: ”كم هو سعيد كل شخص يستطيع قول أنا تركي“!.
يبلغ عرض كل واحد من هذين العلمين 450 متراً، وهما كبيران بما فيه الكفاية لتتم رؤيتهما بوضوح في الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية، ومن المستحيل عدم رؤيتهما من الجهة الجنوبية لمدينة (نيكوسيا) المقسمة إلى قسمين.
كبر الكثير من سكان (نيكوسيا) وهم يرون هذه الأعلام في كل يوم من حياتهم، وعلى قدر كرههم لها، أصبحوا معتادين على منظرها ذلك.
مثلما قد تتذكره عزيزي القارئ، فإن جمهورية قبرص مقسمة جغرافيا وسياسياً منذ غزو القوات التركية لها سنة 1974 إلى قسمين اثنين، حيث أعادت الحكومة التركية تسمية الجزء الشمالي منها بـ«الجمهورية التركية لشمال قبرص»، وهي دولة لا يعترف بها أي كيان آخر سواها، بما في ذلك جمهورية قبرص نفسها التي تعتبر الأتراك المتواجدين هناك غزاة واحتلالهم للمنطقة غير مشروع.
يعود توتر العلاقات بين قبرص وتركيا إلى سنة 1571، منذ الغزو العنيف الذي شنته الإمبراطورية العثمانية عليها والمجازر التي اقترفتها أثناء ذلك في حق الكثير من السكان اليونانيين والأرمينيين، وخلال القرون الثلاثة التالية التي حكمت فيها تركيا قبرص، انتشر الفقر بشكل واسع بين السكان.
أدى هذا إلى تذكية حس يوناني وطني قوي بين الفئات السكانية اليونانية في الجزيرة التي كانت ترى في الجزيرة كلها جزءا لا يتجزأ من اليونان تاريخيا، وقد برز على إثر ذلك ميل كبير إلى توحيد قبرص مع اليونان.
في سنة 1878، بعد انهزام الأتراك على يد الروس في الحرب الروسية التركية التي امتدت بين سنتي 1877 و1878؛ سلّم العثمانيون قبرص إلى البريطانيين مقابل تأمين الحماية لهم ضد أي هجوم روسي مستقبلي محتمل، غير أنه عندما انضم العثمانيون إلى الألمان ووحدوا صفوفهم مع دول المحور خلال الحرب العالمية الأولى؛ قام البريطانيون بشكل رسمي بإعلان ضمّهم لجزيرة قبرص إلى الإمبراطورية البريطانية.
بحلول ذلك الوقت، كانت أعداد المواطنين الأتراك واليونانيين الذين يعيشون في جزيرة قبرص كبيرة جدا، والذين كان كل منهم يظهر ولاءً كبيراً لبلده الأصلي، كما كان القبارصة الأتراك سعداء تحت حكم البريطانيين، لكن القبارصة اليونانيين كانوا مازالوا يأملون في تحقيق الوحدة مع اليونان.
استغلت بريطانيا تلك العداوة القائمة بين هذين المكوّنين السكانيين الأساسيين في المنطقة استغلالا كاملا، حيث طبقت استراتيجيتها التي أثبتت فعاليتها منذ القدم القائمة حول مبدأ «فرّق تسد»، والتي استخدمتها لبسط نفوذها في الهند بشكل ناجح. على سبيل المثال، في كل مرة كان فيها القبارصة اليونانيون يثورون ضد الحكم البريطاني، كان البريطانيون يوجهون الأتراك لسحق الهيجان اليوناني.
في أوائل خمسينيات القرن الماضي، ظهرت إلى الوجود منظمة مقاتلين غير نظاميين أطلقت على نفسها اسم «المنظمة الوطنية للمقاتلين القبارصة»، والتي كانت فكرتها تقوم على محاربة الاحتلال البريطاني للجزيرة وضم الجزيرة وتوحيدها مع اليونان. في استجابة طارئة على هذا، أنشأ الأتراك القبارصة بدورهم منظمة مماثلة خاصة بهم أطلقوا عليها اسم «منظمة المقاومة التركية»، وبدأوا بشن حربهم على المتمردين اليونانيين القبارصة.
في سنة 1960، توصل الأطراف الثلاثة: بريطانيا واليونان وتركيا إلى اتفاق أخيرا، الذي قضى بإنشاء جمهورية قبرص، وهي أمة مستقلة بذاتها ولا تخضع لسيادة ولا حكم أية دولة أخرى أجنبية. قد تفكر في أن هذا كان قرار ودياً ناجحاً، لكنه لم يكن كذلك لأن العداوة بين الجانبين التركي واليوناني كانت أكبر من أن يعيشا في سلام تحت حكم دولة واحدة.
في سنة 1974، نفذت «المنظمة الوطنية للمقاتلين القبارصة»، بمساعدة من الجيش اليوناني، عملية انقلاب عسكري وأطاحت برئيس جمهورية قبرص آنذاك، وكانت ردة فعل الأتراك سريعة وعنيفة من خلال احتلال الجزيرة. تم تهجير أكثر من 150 ألف مواطنا قبرصيا يوناني الأصل من منازلهم بينما احتلت القوات التركية شمال الجزيرة.
تم تقسيم العاصمة (نيكوسيا) إلى قسمين تركي ويوناني من خلال ما أطلق عليه اسم «الخط الأخضر». إلى يومنا هذا، تحتل تركيا القسم الشمالي من الجزيرة الذي يشكل حوالي ثلث مساحتها.
في وقت ما في ثمانينات القرن الماضي، رسم المواطنون القبارصة من أصول تركية علماً هائل الحجم للجمهورية التركية لشمال قبرص إلى جانب علم تركيا على المنحدرات الجنوبية لجبل (كيرينيا) حتى يكون بالإمكان رؤيتهما من العاصمة (نيكوسيا)، وفي بعض المناسبات الخاصة والأعياد الوطنية كانت هذه الأعلام تضاء باستعمال آلاف المصابيح ليلاً.
احتج القبارصة اليونانيون على الأمر بقولهم أن العلم تم رسمه لا لشيء إلا لإثارة حفيظتهم ومضايقتهم، بينما ظل الأتراك القبارصة يقولون بأن العلم كان مقاماً لتخليد ذكرى المجزرة التي ارتكبت في حق الأتراك من طرف القبارصة اليونانيين.
في سنة 2010، قدم الجانب اليوناني في قبرص احتجاجا رسميا حول هذا العلم أمام لجنة الاتحاد الأوروبي، مدعيا بأنه مضر بالبيئة بسبب كون الطلاء السام الذي استعمل في رسمه يلوث الجبل، فقال السياسي القبرصي اليوناني (أنتيغوني بابادوبولو) في كتابته للبرلمان الأوروبي في هذا الموضوع: ”كيف يُسمح بوجود مثل هذا العلم الذي، إلى جانب الضرر الكارثي الذي يحله بالبيئة والمحيط، واستعمال المواد الكيميائية والإضرار الكبير بالمحيط، يتضمن إهدارا سخيفا وكبيرا للطاقة الكهربائية في ظل هذه الأزمة الاقتصادية؟“.
المصدر: موقع amusingplanet