حادثة دفق راديوي سريع متكرر جديدة تجعل الباحثين يهمّون بالعمل من جديد، إذ رصد العلماء إشارة غريبة بالغة في القدم من أعماق الفضاء.
في 2021 اُلتقطت إشارة متكررة في ظاهرة اسمها دفق راديوي سريع (fast radio burst – FRB) من مصدر بعيد جدًا. وقد سجل العلماء 1863 دفقًا في غضون 82 ساعة من إجمالي 91 ساعة من المراقبة.
سمح هذا السلوك شديد النشاط للعلماء بأن يحددوا خواص المجرة التي تحوي مصدر الدفق وبُعدها عنا، وجعلهم يدركون طبيعة المصدر ذاته.
رصد التلسكوب الراديوي الكروي (FAST) في الصين هذا الجسم، وصفه عالم الفلك هنغ شو من جامعة بكين في ورقة بحثية جديدة وأطلق عليه اسم (FRB 20201124A).
بالاعتماد على الأدلة المتوفرة يعتقد العلماء أن مصدر دفق راديوي سريع كهذا هو على الأرجح نجم مغناطيسي، وهو نجم نيوتروني بحقولٍ مغناطيسية شديدة القوة.
إذا كان (FRB 20201124A) هو بالفعل أحد هذه الأجسام الكونية المهولة، فيبدو أنه متفرد بشكل ملفت.
يقول عالم الفيزياء الفلكية بنغ تشانغ من جامعة نيڨادا، لاس ڨيغاس: «جعلتنا هذه المشاهدات نعاود البحث من جديد. من الواضح أن ظاهرة الدفق الراديوي السريع أكثر غموضًا مما تخيلنا. نحتاج إلى المزيد من حملات الرصد بأطوال أمواج متعددة لنعرف أكثر عن طبيعة هذه الأجسام».
لطالما كانت الدفقات الراديوية السريعة مصدر حيرة وتعجب لعلماء الفلك منذ اكتشافها قبل 15 سنة في بيانات مؤرشفة تعود لعام 2001، فقد رصدوا حينها ارتفاعًا حادًا جدًا من دفق راديوي سريع شديد القوة دام للحظة فقط قبل أن يختفي.
ومنذ ذلك الوقت حتى الآن اكتُشِف الكثير منها: إرسالات من الأمواج الراديوية تستمر لأجزاء صغيرة من الثانية، تصدر حينها طاقةً فائقة تعادل 500 مليون ضعف من طاقة الشمس.
دلّت معظم هذه المشاهدات على انبعاثات فردية غير متكررة، ما جعلها صعبة الدراسة والفهم، نظرًا لعدم وجود أنماط واضحة. ولكن رُصدت قلة قليلة منها تتكرر، ما ساعد العلماء على تتبعها إلى المجرات التي تصدر منها.
ثم في عام 2020 طرأ تطور هام، إذ رُصد دفق راديوي سريع في مجرة درب التبّانة للمرة الأولى، وهذا ما جعل العلماء يتقصوا الحقيقة عن قرب أكبر، فوجدوا أن مصدر هكذا انبعاثات هو نجم مغناطيسي.
يُعد الدفق الراديوي السريع الذي اكتُشِف مؤخرًا مثالًا نادرًا آخر عن إشارات راديوية كونية متكررة. وقد منح (FRB 20201124A) علماء الفلك في أقل من شهرين أكبر عينة جمعها العلماء إلى الآن من دفق راديوي سريع مع استقطاب (polarization).
يشير مصطلح الاستقطاب إلى المنحى الذي تأخذه أمواج الضوء في الفراغ ثلاثي الأبعاد. يستطيع العلماء أن يفهموا البيئة التي مر من خلالها الضوء باستقراء التغيرات التي طرأت على منحاه منذ أن انبثق من مصدره. فعلى سبيل المثال يدل الاستقطاب القوي على بيئة شديدة المغناطيسية وهكذا.
توصل العلماء إلى أنّ مصدر الإشارات المتكررة هذه هو نجم مغناطيسي، بالاعتماد على المعلومات الوفيرة التي حصلوا عليها من (FRB 20201124A).
يبدو أن مصدر الدفق ليس وحيدًا
لوحظ أمر غريب، فالطريقة التي تغير بها الاستقطاب عبر الزمن أشارت إلى أن قوة المجال المغناطيسي وكثافة الذرات حول النجم المغناطيسي كانت متذبذبة.
قال تشانغ موضحًا: «الأمر بالنسبة لي بمثابة تصوير فيلم عن محيط مصدر دفق راديوي سريع، وقد أظهر فيلمنا بيئة معقدة ممغنطة تتطور ديناميكيًا لم نكن نتصورها من قبل. فبيئة كهذه ليست أول ما يجول في الذهن عند التفكير في نجم مغناطيسي منعزل. قد يوجد شيء آخر في مقربة من محرك FRB هذا، على الأغلب يوجد مرافق ثنائي (binary companion)».
توحي البيانات بإمكانية أن يكون المرافق نجمًا حارًا أزرق من نوع (Be Stars) التي تكون غالبًا مرافقة للنجوم النيوترونية. وقد وضحت ورقة بحثية منفصلة بقيادة عالم الفلك فاين وانغ من جامعة نانجينغ في الصين الدليل على ذلك، من الجدير بالذكر أيضًا أن تلك النجوم تملك أطيافًا وخطوط انتشار من نوع B.
مفاجأة أخرى كان يحملها مصدر الدفق الراديوي السريع للباحثين
النجوم المغناطيسية هي نواة النجوم العملاقة هائلة الحجم التي انهارت على نفسها بفعل جاذبيتها كسائر النجوم النيوترونية. كانت كتلة هذه النجوم تتراوح ما بين 10 إلى 25 مرة من كتلة الشمس، أو حتى أكثر إذا كانت غنية بالمعادن.
من المعروف عن النجوم النيوترونية أنها تستهلك وقودها بسرعة دراماتيكية، ما يؤدي إلى امتلاكها حياة قصيرة نسبيًا، تنتهي دائمًا بقذف موادها خارجًا في انفجار يسمى المستعر الأعظم.
نظرًا إلى حياة النجوم المغناطيسية القصيرة، كان يُعتقد أن هذه الأجرام السماوية اليافعة توجد في مناطق من المجرات حيث ما زالت النجوم تتكون، أي تتكون النجوم وتعيش حيواتَها القصيرة وتموت مشكلة سحبًا من الغبار الكوني والمواد التي تدخل في تشكيل نجوم جديدة وهكذا. هي دورة حياة كونية جميلة، ولكن هنا تكمن المشكلة.
طريقة جديدة للنظر في الأمور
يوجد مصدر الدفق الراديوي السريع (FRB 20201124A) في مجرة تشبه إلى حد كبير درب التبانة. ونعلم أنه من غير المألوف أن نجد مناطق لولادة النجوم في مجرتنا، ما يدفعنا للاعتقاد أنه لا يوجد جيل جديد من النجوم اليافعة يتشكل بالقرب من مصدر الدفق قيد الدراسة.
لكن (FRB 20201124A) ليس الحالة الوحيدة التي يوجد فيها مصدر دفق راديوي سريع في مجرة خالية نسبيًا من تشكل النجوم، وما يزال عدد هذه الحالات التي نعلم بها يتزايد باستمرار، وهو ما يوحي بنقص في المعلومات المتوفرة لدينا أو خلل في طريقة التفكير أو عامل مهم غائب في المعادلة. فعندما يتعلق الأمر بدراسة النجوم المغناطيسية ومصادر الدفق الراديوي السريع، من الواضح أننا بحاجة إلى إعادة النظر في ماهيتها وفي الأماكن التي من الممكن أن تقع فيها.
ولكن معرفة خصائص هذا المصدر يعني أننا نملك منطلقًا واضحًا لنعيد خوض هذه الرحلة. فالعمل الذي أجراه وانغ وزملاؤه يشير أساسًا إلى أن ثنائيات (النجوم النيوترونية-النجوم Be) هي المكان الأنسب للبحث عن مصادر دفق راديوي سريع.
المصدر: ساينس أليرت – ترجمة: ibelieveinsci