كوكب إسكندنافيا.. تعرف إلى أكثر البقاع رفاهية على وجه الأرض
كوكب إسكندنافيا.. تعرف إلى أكثر البقاع رفاهية على وجه الأرض
شبه جزيرة تقع في أقصى الشمال الأوروبي، تترّبع على عرش مؤشرات السعادة والرخاء والرفاه بين دول المعمورة، تتألف من ثلاث دول هي الدنمارك والسويد والنرويج، وأحيانا تضاف إليها فنلندا وأيسلندا وجزر فارو. تنتمي هذه الدول حضاريا إلى العالم المسيحي-الغربي، لكنها اختارت سبيلا ثالثا في تنظيم العيش المشترك لشعوبها، فلا هي اعتنقت الليبرالية التي تقدّر الفرد حدّ التقديس، ولا هي أعلت من شأن الجماعة والدولة أكثر مما يخدم الانسان ويحقق مصلحته.
تمتاز الدول الإسكندنافية بنموذج الرفاه الأرقى والأنجح في العالم، لما يتمتع به مواطنوها من خدمات استثنائية سواء منها الرعاية الصحية أو التعليم الأكثر جودة في العالم، أو فضاءات تنظيم العيش المشترك القائمة على الديمقراطية والتضامن ومشاركة العمال في تدبير المؤسسات. وتعتبر الدانمارك والسويد والنرويج بالخصوص معقل أكثر مستويات الرفاه والسعادة في العالم، بشكل يميزها حتى عن فنلندا وأيسلندا المنتميتين إلى المجال الجغرافي نفسه.
وبينما تعتبر المصادر النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة) أن السبيل الوحيد إلى الازدهار هو خفض الضرائب المبادرة الحرة، وأسواق العمل التنافسية؛ تواصل الدول الإسكندنافية رحلة الازدهار والتربع على قمم المؤشرات العالمية للسعادة ومستوى المعيشة، رغم مخالفتها المعايير الأنجلو-أمريكية للرأسمالية، فتجبي ضرائب قياسية وتوفّر خدمات استثنائية، وهو ما يفسر إصرار بعض الأصوات النيوليبرالية على نزع الشرعية عن “النموذج الشمالي”.[1]
في أبريل/نيسان 2020، وبينما كان مواطنو جل الدول الأوروبية يئنون تحت وطأة الحجر الصحي الشامل، كان مواطنو السويد يستمتعون بأوقاتهم ملتئمين حول طاولات المقاهي والمطاعم، ويتجولون بكل حرية بين الشوارع ومحلات التسوق، والمبرر الذي قدّمته ستوكهولم حينها لهذا الاستثناء هو مبدأ المسؤولية الذي ستقاسمه جميع المواطنين. ورغم أن السويد عادت لاحقا لتعاني من خسائر بشرية فادحة بسبب فيروس كورونا، فإن البلدان الإسكندنافية ظلت تمثل استثناء في مقابل الدول الأوروبية الأخرى.[2]
في منتصف العام 2020 كشف المعهد النرويجي للإحصائيات عن بيانات تهم الناتج المحلي الإجمالي للدول الإسكندنافية خلال الشهور الأولى لجائحة كورونا، فقد انخفض ناتج مملكة النرويج خارج قطاع النفط بنسبة 6.3% بين شهري أبريل ويونيو (نيسان وحزيران) 2020، مقابل انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لفنلندا بنسبة 3.2% فقط، بينما تراجع الناتج الإجمالي في الدانمارك بنسبة 7.4%، وفي السويد ارتفعت نسبة الانخفاض إلى 8.6% وهي نتائج أفضل بكثير من المتوسط الذي سجلته دول الاتحاد الأوروبي ويبلغ ناقص 11%.[3]
وعلى غرار باقي الدول الأوروبية، تعيش الدول الإسكندنافية في العقود الأخيرة أزمات تسائل نموذجها الاجتماعي، مع بروز اختلالات في تمويل منظومة الرعاية والاضطرار إلى خفض المعاشات (في النرويج بالخصوص)، وبروز الفوارق الاجتماعية بشكل أكبر مقارنة بفترة الازدهار التي اتسم بها النصف الثاني من القرن العشرين.
وساهم كل هذا في بروز تحولات سياسية تتمثل في صعود قوى يمينية وشعبوية إلى الواجهة، وتنامي مظاهر العداء تجاه المهاجرين، وارتفاع الطلب على تدخل الدولة في الاقتصاد. كما ازداد نفوذ المنظمات والمؤسسات المالية الدولية والأوروبية، مما قلّص مجال تدخل الهيئات الديمقراطية المنتخبة التي كانت إلى وقت قريب المخوّل الوحيد بتدبير شؤون هذه الشعوب.
تنحدر ساكنة الدول الإسكندنافية من قبائل الفايكينغ، وهي شعوب جرمانية نوردية استوطنت مناطق شمال أوروبا، وأُطلق عليهم تسمية (نورثمان) أي الشماليون، وهم ينقسمون إلى ثلاثة فروع مختلفة: النرويجيون، والسويديون، والدانماركيون.
عرفت هذه الشعوب تاريخيا بركوب البحر إلى آفاق بعيدة واحتراف القرصنة، وقد صوّرتهم المصادر التاريخية لأوروبا القارية على أنهم شعوب متوحشة محبة للغزو والفتك بالأمم الأخرى. بينما كانت جل أنشطتهم المعيشية هي الزراعة وتربية المواشي إلى جانب صيد السمك وبناء السفن، وكان أهم صادراتهم الخشب وفراء الحيوانات والعبيد من أسرى المناطق التي يسيطرون عليها في غزواتهم.[5]
وقد اعتمدت هذه البلاد في تطورها بداية على تجارة البضائع الرئيسية المربحة من سلع زراعية معالجة في الدنمارك، وخشب ومعادن خام في السويد، لكن بداية من أواخر القرن التاسع عشر فصاعدا بدأ الاتجاه إلى التصنيع. ونتيجة لذلك ازدادت دول الشمال -مثل سائر بلاد شمال غرب أوروبا- ثراء نسبيا وتنظيما.
يعتبر التاريخ بوابة أساسية في تفسير هذا الاستثناء الإسكندنافي، إذ تتسم الدول الإسكندنافية بتجربة تاريخية فريدة، ذلك أنها كانت تعاني من فقر بيّن مقارنة بباقي الدول الأوروبية، إلى غاية بدايات القرن العشرين، وهو الفقر الذي أثر على المسار السياسي لهذه البلدان تاريخيا، بينما تعتبر دولة الرفاه القائمة حاليا في هذه المنطقة وليدة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإن كان هذا الفقر لا يفسّر لوحده نموذج التضامن الاستثنائي القائم في هذه البلدان، لوجود دول أخرى عانت من الفقر نفسه في الماضي، لكنها لم تنشئ منظومة رفاه مشابهة.[6]
وتتميز المجتمعات الإسكندنافية بارتفاع مستوى التنظيم في صفوفها. وإلى جانب الأحزاب والنقابات، تخترق هذه المجتمعات تنظيمات أهلية قوية وشديدة التأثير، ظهرت منذ القرن 19، وحملت مشعل النضال من أجل تطوير الخدمات الأساسية من تعليم وصحة، وهو ما أسس لثقافة تضامن وعدالة ومساواة بين الطبقات والأجيال والجنسية، ليأتي في النهاية دور الدولة لاستثمار هذه الطاقة وإعطائها معنى ووجودا قانونيا فعليا.[7]
فقد بني الاقتصاد الإسكندنافي تاريخيا على فلاحة معيشية بسيطة وعائلية، عكس الدول الأوروبية الأخرى التي شهدت الإقطاع الكبير منذ عصور قديمة، وهو ما أفضى إلى بروز طبقة اجتماعية متوسطة ومتكافئة، تمثل الأغلبية في هذه المجتمعات الإسكندنافية، مما جعل المواطنين يكنون ثقة كبيرة للحكومات المنبثقة من هذه الأغلبية، أي أن الحاكمين يشبهون عموم الشعب. من هنا يجد السلوك المدني والتشبع بقيم المواطنة الإيجابية تفسيره الكامل في التربة التاريخية والثقافية للبلدان الإسكندنافية.[8]
هذه البنية السياسية المشبعة بالثقة والمواطنة، أفرزت منظومة حكامة طافحة بقيم ومبادئ الديمقراطية والمساواة والعدالة، التي تجد أصلها في التوافقات المبرمة خلال عقد الثلاثينيات بين أبرز مكونات المجتمع من رأسمال واتحادات نقابية. وتعتبر هذه التوافقات أساسا لنمط فريد في التدبير، يجمع بين القواعد الديمقراطية وبين الحرص على تحقيق الإجماع، بفعل الحوار والتفاوض الدائمين، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى قيام حكومات ائتلافية واسعة، أو حكومات أقلية تدبّر بتنسيق مستمر مع الكتل المعارضة. وفي قمة هذا الهرم السياسي الاجتماعي يوجد مستوى عال من الشفافية والنزاهة والولوج السهل والتلقائي إلى المعلومات الرسمية من طرف جميع المواطنين.[9]
ظهر مفهوم الاشتراكية الديمقراطية لأول مرة منتصف القرن التاسع عشر، وجاء ليحل معضلة العلاقة بين الفكر الاشتراكي ومثله العليا في المساواة والعدالة في توزيع الثروات، وبين المنظومة الديمقراطية الليبرالية التي نشأت أساسا في حضن دول رأسمالية.[10]
وبدأت رحلة الاستثناء الإسكندنافي خلال عقد الثلاثينيات، من خلال تفاهمات اجتماعية كبرى بين قوى العمل والرأسمال الخاص. ففي العام 1936 بعث الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” فريقا من الخبراء للاطلاع على الوصفة الجديدة التي توصلت إليها في السويد، للتوفيق بين الرأسمالية والاشتراكية.[11]
وبرزت معالم الاستثناء الإسكندنافي أكثر عقب الحرب العالمية الثانية، نتيجة لمآل ميزان القوى في الصراع المرير بين قوى العمل والرأسمال. وفي سياق خوف كوني من المد الشيوعي، اعتمدت الدول الإسكندنافية قوانين تحمي العمال وتمنع شطط ودكتاتورية الرأسمال الخاص، فأممت جل الخدمات العمومية ونصبت الدولة ضامنة وراعية لها، بل وقائمة على حسن توزيع الثروات ومنع استئثار القلة الغنية بها.[12]
واستفادت دول الشمال الأوروبي من خصوصيات ثقافية، إذ تتسم بنية الرأسمال الخاص بخصائص فريدة في الدول الإسكندنافية، خاصة منها السويد التي تعتمد كليا على السوق والمبادرة الحرة في غياب موارد طبيعية كالنفط والغاز.
فتركيبة المساهمين في رأسمال الشركات تتسم باستقرار كبير، واعتماد خاص على الشركات العائلية، وبالتالي يقل الهوس بتحقيق الأرباح السريعة والعمل على توزيعها بين المساهمين، كما تتميز هذه الدول بسوقها المالي المتين والآمن، خاصة مع رفضها الانضمام إلى منطقة اليورو مع ما تنطوي عليه من أخطار مرتبطة بالمضاربات وسرعة انتقال رؤوس الأموال.[13]
وفي مقابل البنية المميزة للاقتصاد السويدي، تتمتع النرويج بثروة طبيعية كبيرة تتمثل في النفط والغاز، مما يسمح لها بتمويل سياسات اجتماعية في غاية السخاء تجاه المواطن. تضاف إلى ذاك عوامل مشتركة بين الشعوب الإسكندنافية، مثل الانخراط الكبير في العمل السياسي والنقابي المنظم، إذ ينتمي 80% من العمال إلى منظمات نقابية، إلى جانب قيم ثقافية محلية تعلي من شأن المساواة بين الجنسين، وتنبذ الفوارق الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية أو التراتبية الفجة، مع حس عال بالمسؤولية تجاه المجتمع والقدرة على إدارة الحوارات الوطنية قبل القيام بأي إصلاحات.
ولم تتضرر الدول الإسكندنافية الثلاث من الحرب العالمية الثانية كما كان الحال مع باقي الدول الأوروبية، فقد اقتصرت الخسائر على الأرواح التي أزهقت في صفوف العمال والفئات الشعبية، في مقابل عدم تضرر الرأسمال الخاص من التمدير الذي لحق بنظيره في باقي الدول الأوروبية، في مقابل استفادة هذه الدول من تمويلات مخصص “مارشال” الأمريكي الذي استفادت منه أوروبا بعد الحرب. وسمحت قوة النقابات في هذه البلدان باستثمار فائض القيمة الكبير الذي حققه الرأسمال الخاص بعد الحرب العالمية الثانية، مما حقق دولة الرفاه.
كانت دول الشمال الحديثة محظوظة بوقوعها في مساحة جغرافية قريبة من بلدان النظام الرأسمالي العالمي الرائدة، مع الحفاظ على استقلالها السياسي في الوقت نفسه، وكان من نتائج هذا الظرف التاريخي أن استفادت دول الشمال -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- من التدفقات التجارية التي لازمت الرأسمالية التجارية المبكرة، كما استفادت لاحقا من الثورة الصناعية والحقبة الاستعمارية.[14]
ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية كانت النخب الأوروبية قلقة من القوى العاملة المتطرفة وصعود الشيوعية السوفياتية، ووجدت هذه النخب أن التوصل الى حل وسط مع العمال أمر ضروري للحفاظ على النظام الرأسمالي، مما أدى إلى ارتفاع سريع في الأجور الحقيقية وبناء مؤسسات الرعاية الاجتماعية في كل بلاد أوروبا الغربية التي تحركها الولايات المتحدة، وساعد على ذلك مساعدات مشروع مارشال، والانفتاح المثمر على السوق الأمريكية.
لكن هذا النموذج الجديد من الرأسمالية الاجتماعية اتخذ شكلا أكثر تطرفا في إسكندنافيا منه في أي مكان آخر، لتصل معدلات توزيع الدخل القومي وقوانين الضمان الاجتماعي في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل والإسكان، إلى مستوى غير معهود في أي مكان آخر في أوروبا.
حاليا يجد هذا النموذج تفسيراته الأولية في معطيات مثل القطاع العام الكبير الذي يجعل الدولة أكبر مشغّل، بما يناهز ثلث مجموع العمال في الدول الثلاث، مقابل معطى ديمغرافي محفز من خلال قلة عدد السكان (حوالي 20 مليون نسمة في الدول الثلاث: الدانمارك والسويد والنرويج)، إلى جانب الطبيعة الهجينة للاقتصاد الإسكندنافي، إذ تجعله يجمع بين إيجابيات النموذجين الرأسمالي والاشتراكي، فيأخذ من الأول حرية السوق وتحفيز المبادرة الخاصة وحق الملكية، بينما يأخذ من الثاني روح المساواة والعدالة في توزيع الثروة.
تتمتع النساء الإسكندنافيات بفرص استثنائية في التمتع بالمساواة والوصول إلى مراكز المسؤولية والقرار. ويعود هذا الأمر إلى أكثر من قرن مضى، حين كانت النساء الإسكندنافيات سباقات إلى الاستفادة من حق التصويت، مقارنة بباقي الدول الأوروبية، فقد أُقر هذا الحق في 1906 بفنلندا وفي 1913 بالنرويج وفي 1915 بالدانمارك وفي 1921 بالسويد. بل إن أحفاد الفايكينغ تميزوا منذ القرن الـ19 بعدد كبير من الجمعيات النسائية المناضلة من أجل المساواة ومشاركة المرأة في تدبير الشأن العام.[15]
يمتد حس المساواة هذا إلى الحياة الخاصة، حيث تحصل الأسرة (الأب والأم) على 480 يوم عطلة مدفوعة الأجر خلال السنة التي يرزقان فيها بطفل، يتقاسمها الوالدان بحسب رغبتهما، مع عدم نزول أي منهما تحت مستوى 90 يوما من العطلة. وتتمتع النساء الإسكندنافيات بمستوى إدماج مرتفع في سوق الشغل، إذ تتوفر 81% من السويديات على عمل، مقابل 64% فقط في صفوف الفرنسيات.[16]
وإلى الغرب من شبه الجزيرة الإسكندنافية، توجد جزيرة أيسلندا الصغيرة التي لا يكاد يتجاوز عدد سكانها 300 ألف نسمة، وهي لم تخرج عن هذا الاستثناء الشمالي، إذ تحقق هذه الدويلة الصغيرة مؤشرات رفاهية ونمو تضاهي تلك التي تحققها دول شبه الجزيرة الإسكندنافية. بل إن هذا البلد -الذي ينأى بنفسه بعيدا عن اليابسة الأوروبية- حقق سنة 2021 ما عجزت عنه أعتى الديمقراطيات الأوروبية، حين فازت النساء بأغلبية مقاعد مجلس النواب، وحصدن 33 مقعدا من أصل 63 مقعدا التي تشكل المؤسسة التشريعية، دون أي قوانين تفرض حصة معينة للنساء كما هو الحال في بعض الدول.
غير بعيد عن شبه الجزيرة الإسكندنافية، وفي فنلندا التي أنهكتها الصراعات السياسية والحروب العالمية قديما، وقعت معجزة عالمية في مجال التعليم، وبات نظامها التربوي يتربع على عرش التصنيف العالمي من حيث جودة الخدمة وأثرها على المتعلمين.
التعليم مجاني ومتكافئ ويستند إلى مرجعيات علمية ونظرية دقيقة، في بلد صغير قابع في الركن الشمالي الشرقي من القارة العجوز، وواحد من أضعف البلدان كثافة سكانية (عدد سكان لا يجاوز 5,5 مليون نسمة، مقارنة بمساحة البلاد التي تعتبر ثامن أكبر مساحة في أوروبا)، ورقعة جغرافية تتنازع النفوذ عليها السويد وروسيا لقرون طويلة، قبل أن تستقل بنفسها مع الثورة البلشفية (الروسية) عام 1917.
النظام التربوي في الدول الإسكندنافية يتربع على عرش التصنيف العالمي من حيث جودة الخدمة
وتجد المعجزة الفنلندية في مجال التعليم تفسيرها في عدد من العوامل، منها تقدير واحترام الثقافة واللغة المحليتين، ثم العناية الشديدة بانتقاء وتكوين المدرسين، وفقا لمعايير ومراحل انتقاء عسيرة، مع تخفيف العبء على الكوادر التعليمية، وعدم مطالبتهم بالعمل أكثر من عشرين ساعة في الأسبوع، ومكوث المدرّس الواحد مع المجموعة نفسها من التلاميذ عدة سنوات، حتى تحصل المواكبة الكاملة.[17]
بلغت دول الرفاه الإسكندنافية ذروتها في السبعينيات والثمانينيات، حين كان التمييز في أقل مستوياته المسجلة في الاقتصادات الرأسمالية، وحينما قلصت ضغوط المنافسة الدولية والتكامل الاقتصادي الأوروبي من مساحة السياسات الوطنية، وغيرت معالم الساحة السياسية بشكل حاسم لصالح المشاريع، بدأ انهيار التسوية الاجتماعية التي يقوم عليها “نموذج الرفاه الشمالي”. وفي هذا الظرف أثبت النموذج الشمالي هشاشته، فلم تسلم الدول الإسكندنافية من موجة الليبرالية الجديدة التي اجتاحت العالم بعد سقوط جدار برلين.[18]
لكن مع بداية عقد التسعينيات، اضطرت أحزاب الشمال -حتى الاشتراكية والديمقراطية منها- إلى التكيف بدرجة كبيرة مع إجماع سياسي جديد على الخصخصة وإلغاء القيود، والحد من الحقوق والمنافع الاجتماعية. ونتيجة لذلك تقترب النظم الاجتماعية للدول الإسكندنافية تدريجيا من التيار العام الأوروبي، لنجد اليوم أن الشعبوية اليمينية الكارهة للأجانب التي تجتاح دول الشمال وسائر دول شمال أوروبا، تأتي ملازمة لمحاولة يائسة للدفاع عن دولة الرفاه المتداعية. ومع تراجع الأمن الاجتماعي يخلط بعض الناس بين اثنين من آثار العولمة وإعادة هيكلة رأس المال (الهجرة الجماعية وتدهور الخدمات الاجتماعية)، فيحسبون أن بينهما علاقة سببية.[19]
فمزايا النموذج الإسكندنافي في التنمية والرفاه والعدالة لا تعني ضرورة استنساخه، لكونه نتاج تجربة تاريخية محلية، ونتيجة توافقات وتفاهمات بين القوى الوطنية، وبالتالي لا يعني نجاح هذه البلدان ضرورة النسج على منوالها.
مواقع عربية