مدن محذوفة من الخرائط.. ما سر “المدينة 40”
خلال الح.رب العالمية الثانية وبعدها مباشرة أزال قادة المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي أسماء مدن من خرائط دولهم واستبدلوها بأسماء أخرى غيرها، وأجبروا سكانها على نسيانها ونسيان تاريخهم المرتبط بها، والعيش في ظلّ مدن نووية جديدة مثل “مدينة 40” التي اقترحت المخرجة “ساميرا غوتشيل” الدخول إليها من بوابة الزمن الآني والعودة في الوقت نفسه إلى ما كانت عليه قبل عقود عبر مراجعة تاريخية وشخصانية.
“مدينة 40”.. مدينة الأسرار
تتسم “مدينة 40” بطابعها السرّي جدا، حيث يُمنع دخول الغرباء إليها بحجة حماية أمن الوطن من الأعداء، مما اضطر صانعة الفيلم إلى خرق أسوار تلك المدينة سراً في عملية وصفتها بـ”اختراق صفوف العدو الخلفية”، وذلك حين أخفت كاميراتها عن أعين حراس وأجهزة رقابة مدينة مُسيّجة أقيمت عام 1947 فوق مدينة أخرى كان اسمها “أوزريسك”، حيث تعرضت الأخيرة وسكانها لكوارث بسبب التسريبات النووية والتعرض للإشعاعات الخطيرة، حتى سُميت المدينة فيما بعد بـ”مدينة الموت”.
يكشف الفيلم الوثائقي “مدينة 40” عن وقائع مذهلة، وكيف ألغى الصراع السياسي والأيدولوجي كل ما له علاقة بالحسّ الإنساني، وكيف حوّل مدنا كاملة وبشرا إلى مشاريع يرمز إليها بمفاتيح ورموز مجردة.
حاولت المخرجة غوتشيل تقديم تلك المشاريع بكل أبعادها، وبحذاقة سينمائية لافتة استخدمت فيها الكثير من الوسائل المساعدة لتوصيلها بصريا، فيما كان حرصها الأشد على معاينتها بمنظور إنساني شامل لا سياسي منحاز أو مُتحامل.
فتجربة المدن النووية السرية كظاهرة ترافقت مع مراحل تاريخية لا يمكن تجريدها من ظروف نشأتها، لكن بالنسبة للسينمائي يبقى الأهم هو عملية كشفها وتنبيه العالم إلى وجودها وإلى مصائر من ساهم في بنائها وصار ضحية لها.
المشهد الذي تظهر فيه امرأة وهي تقوم بنشر غسيل ملابس أطفالها وتتحدث في الوقت ذاته إلى الكاميرا المتسلّلة عن نصائح والدتها لها يوم كانت طفلة؛ يُمهّد ذلك المشهد للولوج إلى متن الوثائقي ويؤَسس عليه المشهد الذي تظهر فيه امرأة وهي تقوم بنشر غسيل ملابس أطفالها وتتحدث في الوقت ذاته إلى الكاميرا المتسلّلة عن نصائح والدتها لها يوم كانت طفلة
حياة سرية داخل حدود الموت
المشهد الذي تظهر فيه امرأة وهي تقوم بنشر غسيل ملابس أطفالها وتتحدث في الوقت ذاته إلى الكاميرا المتسلّلة عن نصائح والدتها لها يوم كانت طفلة؛ يُمهّد ذلك المشهد للولوج إلى متن الوثائقي ويؤَسس عليه، لما فيه من بوح يُجلي هاجس والدتها وجُلّ سكان “مدينة 40” بنصيحتها الذهبية لها؛ أن تلتزم الصمت عن كل ما يُعد سراً للدولة، وتذكّرها بأهمية نكران أصلها وعدم ذكر من أين جاءت، والاكتفاء بذكر اسم المدينة الجديدة وليس سواها.
وفي مشهد مواز يعود تصويره إلى مرحلة ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، تقول الإشارات المعدنية المثبتة حول مدينة ريتشلاند الأمريكية القريبة من موقع هاتفورد لإنتاج البلوتونيوم لأغراض صناعة القنبلة الذرية؛ الكلام نفسه باللغة الإنجليزية، فالسرية كانت عنوانا مشتركا للمدن النووية الجديدة المبنية على أرض مدن سبقتها، فيما اختلط سكانها بين القادمين الجدد للعمل في مفاعلاتها النووية والمصانع التابعة وبين أهل المدينة الأصليين؛ “رهائن” قرارات صدرت من المركز ولم يتبق أمامهم خيار سوى تنفيذها.
جرى التركيز على “مدينة 40” لخصوصية المكان لا اختلافه من حيث الجوهر، مع الحرص على الإمساك بالفكرة الأساسية التي اعتبرت التخصص مدخلاً للتعميم، فالمدينة الروسية الواقعة جنوب الأورال تشبه بقية مدن العالم النووية المشيدة للتمويه على مدن أخرى تمت إزاحتها من على أسطح الخرائط.
“المدينة 40”.. حقائق عن حياة ملوثة
تداخل أزمنة الوثائقي موضوعية فرضتها طبيعة المادة المطروحة للبحث والمقسمة بين زمنين، حيث وصلت إلى نهايات شديدة الصلة بوضع روسيا الحالي.
شهادات أغلبية من عرف المنطقة على اختلاف أزمنتها تصبّ في صالح وحدة الفيلم الداخلية الشديدة التماسك.
ومثلت مرحلة التسعينيات التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي اكتشافاً عاماً لأجيال من الشعب لم يعرف شيئاً عن وجود المدن النووية السرية، بينما أسهمت شهادات المواكبين لبداية تأسيسها في تقوية خطه الديناميكي، وسلمت بقية الحكاية لترويها بطلته المرأة التي ظهرت في بداية الشريط ويتبين فيما بعد أنها ناشطة مدنية لعبت دوراً مهماً في فضح ما ارتُكب من جرائم ضد سكانها، وصولا إلى المرحلة البوتينية التي حافظت على الإرث السوفياتي النووي وعلى حماسته العسكرية.
أضفى الصحفيون بدورهم بُعداً تحليلياً وتاريخياً عليه، والأرشيف كان البطل دون منازع، فما وفره من خامات فيلمية وأرشيفية طالت سجلات المخابرات الروسية، حيث خرج الكثير منها للعلن بداية التسعينيات. كل ذلك شكّل قاعدة تم البناء عليها وتشييد فيلم وثائقي رائع.
مدينة نووية داخل المدينة
في واحدة من المفارقات التي واكبت فكرة بناء مدينة نووية داخل مدينة غُيب اسمها؛ أن بُناتها جُلّهم من المساجين السياسيين والمنفيين إلى سيبيريا، أي المعارضين للحكم السوفياتي.
حقيقة أن فكرة بناء المفاعلات وعمليات تخصيب اليورانيوم جاءت بعد إسقاط الأمريكيين قنبلتهم الذرية فوق اليابان لم تبرر الاندفاع الروسي للدخول في النادي النووي، فحُمّى سباق التسلح رافقه عمل استخباراتي وعسكري وضع كل الحسابات الإنسانية جانباً وركز على فكرة النصر النهائي وبأي ثمن.
تطرح عودة الوثائقي إلى بدايات إقامة “مدينة 40” أسئلة إشكالية عن مساهمة الناس فيها، وحماستهم التي لا يمكن التغاضي عنها.
لقد اشتركت الحماسة القومية والانحياز الحزبي مع المغريات التي قدمها ستالين لسكانها من الفئتين، فالسجناء وجدوا أنفسهم يعيشون وسط مدينة تتوفر على كل مستلزمات العيش، وأهلها القدامى قبلوا ببيع اسمها وتاريخها مقابل امتيازات لم تُمنح لأي مدينة روسية.
صارت تلك المدينة الصغيرة الواقعة وسط الغابات والمحاطة بالبحيرات “جنة أرضية” رغد العيش فيها أسكتهم، فقبلوا المُضي في اللعبة والتواطؤ مع الحكومة السوفياتية، ومن عارضها كان مصيره الموت أو الترحيل إلى سيبيريا ومعتقلاتها السرية.
ظلّ الأمر على ما هو عليه عقوداً، إلى أن بدأت تظهر أعراض أمراض غريبة على سكانها خاصة عند المشتغلين في معامل تخصيب اليورانيوم، كما لوحظ ارتفاع نسبة الوفيات بسبب الإصابة بمرض السرطان وظهور مشاكل تنفّس جديّة عند الأطفال.
كشف الوثائقي حقائق عن وصول النفايات النووية إلى مياه البحيرة الكبيرة، وتلوث الهواء وتعرض العمال للإشعاعات النووية. والشهادات المقدمة فضحٌ لجرائم ارتكبت ضد آلاف المواطنين الروس وغيرهم، ورغم كل ذلك لم يجرِ الإفصاح عن الأسباب الحقيقية وراء موت السكان ومرضهم، وظل الأمر طيّ الكتمان والسرية.
عيش رغم غبار الموت
الحياة في “مدينة 40″ استمرت مثلما كانت من قبل، بفارق ظهور أنباء عن وجود خطط سرية حسبت منذ البداية ما سيحدث لسكانها وأولادهم، وتُوجت بإعلان وقوع انفجارات نووية عام 1957 تكتمت عليها قيادة المدينة، حيث دمرت غيوم الـ”مدينة 40” الملوثة بالإشعاعات؛ الحياة المحيطة بها ووصلت إلى مدن بعيدة.
يكشف الوثائقي بمتابعته واستقصائه الجدّي موت المدينة من الناحية العملية، ويذهب لمتابعة تحرّك الناشطة المدنية ومساعدة المصابين والمرضى برفع شكاويهم إلى الجهات القضائية الروسية، لكن لعبة السلطات دائماً أقوى.
لجأت الدولة أواخر التسعينيات إلى حيلة ضيّعت على سكانها الجدد حقوقهم بعد إحساسها بسعة المطالب وارتفاع تكاليف التعويضات المالية، وذلك حين أعلنت الدولة أن المولودين والمُسجلين في المدينة القديمة التي أُعيد إليها اسمها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي؛ لهم الحق في رفع شكواهم إلى المؤسسات الرسمية، لكن من وُلدَ في “مدينة 40” لا يحق له ذلك كونه غير مسجل رسمياً كروسي، ولأن مدينتهم وهمية لا وجود لها على الخارطة.
يسجل الفيلم مفارقة أخرى مؤلمة تتمثل في احتفاظ الدولة الروسية الجديدة بالمدينة النووية السريّة، والاستمرار في تشغيلها مصنع ماياباك القديم لإنتاج المواد المستخدمة للأغراض العسكرية، خاصة المستخدمة في الصناعات النووية.
يصل الوثائقي عبر مقابلة مع رجل مُطّلع أن عملية اغتيال الجاسوس الروسي الهارب “ألكسندر ليتفينينكو” في لندن عام 2006 تمت بمواد أنتجتها مصانع “مدينة 40″، وأن الرئيس بوتين أشرف بنفسه عليها، لهذا كان الدخول إليها سراً.
ما سُجل في داخل المدينة أحاط بظروفها وظروف حياة سكانها الذين ما زالوا باقين فيها رغم الغبار النووي المُغطي لأسطحها ودروبها ونسبته التي تعد الأكبر في العالم، لهذا أُطلق عليها اسم “مدينة الموت”.
يختتم الوثائقي مسيرته المؤلمة بعرض قائمة بأسماء مدن الموت الأخرى، وبمجرد المرور عليها ينتاب المُشاهد إحساس مرير بسبب ما يتعرض له البشر من جرائم باسم الأيدولوجيات والحفاظ على سلامة وأمن الأمم
الجزيرة الوثائقية