هاجر الرسول برفقة صاحبه أبي بكر ومكث في غار ثور ثلاثة أيَّامٍ، وكان يصحبهما دليلٌ استأجراه ليدلَّهما على الطَّريق ويسلك بهما طريقاً غير المعتادة هو عبد الله بن أريقط
وفي طريقهم نحو المدينة صادف الرسول ومن معه خيمتان تعودان لامرأةٍ تدعى أمُّ معبدٍ الخزاعية، وكان لها موقفٌ مشرِّفٌ مع نبيِّ الله عليه الصَّلاة والسَّلام سجَّله لها التَّاريخ ودوَّنته كتب السِّيرة النَّبوية
كانت أمُّ معبد تُقيم في خيمةٍ على الطَّريق الواقع بين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وكانت تقطن في وادٍ يسمَّى وادي قُديْد، وهو وادٍ صغير تقيم فيه بعض القرى، ويسكنه بنو خزاعة
ويأتي الطريق قبل منطقة رابغ، وهذا الوادي يبعد عن الطريق المعبَّدة والمعروفة حاليَّاً بين مكَّة والمدينة ما يقارب ثمانية كيلو مترات
وأمُّ معبد اسمها عاتكة بنت كعب الخزاعيَّة، وأخوها خُنيس بن كعب الخزاعي، وهو الذي روى قصَّتها
نزول رسول الله بخيمة أم معبد نفد الماء والزَّاد من النَّبيِّ وأبي بكر، ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهما، وإذا بهم يصادفون خيمة أمِّ معبد
وكانت أم معبد امرأة ظاهرة تجلس أمام خيمتها، وكانت كبيرةً في السِّن لكنَّها قويةٌ، وكانت تجلس واضعةً يديها حول ركبتيها، وكانت أمُّ معبد تجلس بالفناء تسقي وتطعم، فنزلوا عندها ليشتروا منها ما يأكلونه من تمرٍ أو لحمٍ وما شابه.
كان قوم خزاعة يمرُّون في هذا العام بسنة قحطٍ، وكانوا مجدبين، ونفد عندهم كلُّ شيءٍ، فلم يجدوا عندها شيئاً يقتاتونه.
رأى رسول الله في جانب الخيمة شاةً طاعنةً في السِّن، لا تخرج للرَّعي لجهدها، فسأل عنها إن كان بها لبنٌ فيشربون منها، فأجابته أمُّ معبد بأنَّ هذه الشَّاة أجهد من ذلك، ثمَّ استأذن رسول الله من صاحبتها بحلب هذه الشَّاة، وسمحت له بذلك.
فجاء إليها نبيُّ الله وتوجَّه بالدُّعاء لله ثمَّ مسح على ضرع هذه الشَّاة، وذكر اسم الله وإذا بها تدرُّ لبناً صافياً كثيراً، فطلب النبيّ إناءً يملأه، فامتلأ حتى بانت رغوة الحليب في أعلاه، وكان اللَّبن كافياً ليروي كلَّ من معه
وشرب أصحاب النبي منه حدَّ الارتواء، وملأ الإناء ثانيةً من لبنها، ثمَّ بايعها وغادر ليكمل طريقه نحو المدينة
عاد أبو معبد إلى بيته ومعه شياهٌ هزيلةٌ، وذُهِل عند رؤيته اللَّبن في بيته، ولمَّا سأل عنه أجابته زوجته بأنَّه قد طاف عليهم رجلٌ مباركٌ ففعل ما فعل ورزقهم الله بذلك، فطلب من زوجته أن تصف له هذا الرَّجل
قالت أم معبد في وصف رسول الله كلاماً منمّقاً وجميلاً “رأيتُ رجلًا ظاهرَ الوضاءةِ، أبلجَ الوجهِ، حسَنَ الخلق لم تَعِبْهُ ثَجلةٌ ولم تُزريهِ صعلةٌ، وسيمٌ قسيمٌ، في عَينيهِ دعجٌ، وفي أشفارِهِ وطفٌ، وفي صوتِهِ صَهَلٌ، وفي عنقِهِ سَطعٌ، وفي لحيتِهِ كثاثةٌ، أزجُّ أقرَنُ.
أضافت أم معبد ” إن صمتَ فعليهِ الوقارُ، وإن تَكَلَّمَ سماهُ وعلاهُ البَهاءُ، أجملُ النَّاسِ وأبهاهُ من بعيدٍ، وأحسنُهُ وأجملُهُ من قريبٍ، حُلوُ المنطقِ فَصلًا، لا نزرٌ ولا هذرٌ، كأنَّ منطِقَهُ خرزاتُ نظمٍ، يتَحدَّرنَ ربعةٌ لا تشنأَهُ من طولٍ، ولا تَقتحمُهُ عينٌ من قِصَرٍ، غُصنٌ بينَ غُصنَينِ، فَهوَ أنضرُ الثَّلاثةِ مَنظرًا وأحسنُهُم، قدرًا لَهُ رفقاءُ يحفُّونَ بِهِ، إن قالَ سمِعوا لقولِهِ، وإن أمرَ تبادروا إلى أمرِهِ، مَحفودٌ محشودٌ لا عابسٌ ولا مفنَّدٌ”،
فعرفه زوجها وعرف أنَّه صاحب قريش الذي يبحثون عنه، وعرف أنَّه على حقٍّ، فهمَّ أن يلحق به.
ظلَّ من بقي في مكَّة من آل أبي بكرٍ ومن معهم لا يعرفون وجهة رسول الله ولم يصلهم خبراً بعد مغادرتهم غار ثور، وإذا بهاتفٍ ينادي في مكَّة لا يعرفون من أين يخرج صوته.
استشهدت كتب السِّير بحديث أمِّ معبد في وصفها لرسول الله، وهو حديثٌ صحيح الإسناد، أخرجه الحاكم في كتابه المستدرك على الصحيحين، وقال إنَّ الحديث صحيحٌ لكنَّ الشَّيخان لم يخرّجا
يُستفاد من قصَّة أمّ معبد مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- جملةٌ من الدُّروس والعبر، حصول بركة النَّبيِّ عند ملامسته لأيِّ شيءٍ، فقد رُوي أنَّ الشَّاة ظلَّت وقتاً طويلاً تدرُّ بالحليب
فصاحة أم معبد مع أنَّها امرأةٌ بدويَّةٌ كبيرةٌ في السِّنِّ، إلَّا أنَّها أبدعت في انتقاء كلماتها ووصفت النَّبيَّ وصفاً دقيقاً.
تقدير نبيَّ الله لهذه المرأة لكبر سنِّها، ومناداته لها بكنيتها، فهو الذي ينزل النَّالس منازلهم، وأدب رسول الله وتحلِّيه بالأخلاق الفاضلة، وذلك عندما استأذن صاحبة الشَّاة بحلبها، فلا يتصرَّف في ملك غيره دون إذنٍ، ومن تمام أدبه أنَّه ترك لأهل البيت ما يشربون مع أنَّه كان هو السَّبب في نزول الحليب