عرب وعالم

أطفال قطريون يتعلّمون الصيد بالجوارح للحفاظ على تراث أجدادهم

وسط صحراء قاحلة في شمال قطر تنتصب خيمة عملاقة بداخلها أطفال يرتدون أثوابهم البيضاء التقليدية وعلى الساعد الأيسر لكلّ منهم يقف صقر غطّى برقع جلديّ عينيه: هؤلاء “الصقّارون الصغار” يتعلّمون الصيد بالجوارح للمحافظة على تراث أجدادهم.

قبل أسبوعين من انطلاق صفارة كأس العالم في كرة القدم وتدفّق أكثر من مليون مشجّع على قطر، تنظّم الإمارة الخليجية الصغيرة فعاليات عديدة لتعريف زوّارها بـ”الصقارة”، الرياضة التراثية في عموم الخليج التي أدرجتها اليونسكو في 2010 في قائمتها للتراث الثقافي غير المادّي للبشرية.

داخل خيمة غير بعيدة عن مجمّع راس لفان الضخم لتسييل الغاز، مصدر الثروة الضخمة في قطر، ينهمك عشرات الأطفال القطريين مع آبائهم في تحضير أنفسهم لخوض مسابقتي “الصقّار الصغير” و”الصقّار الواعد” اللتين تجريان سنوياً.

يُدخل برَيْك المرّي (11 عاماً) كفّه الأيسر الصغير في قفّاز جلديّ بنّي اللون، يحمل بيمناه صقره “قشّام” ويضعه فوق القفّاز. يعدّل الطفل شماغه الأحمر، ينتصب بجسمه النحيل وقامته الطويلة، ويقول لوكالة فرانس برس “هذه مشاركتي الأولى في هذه المسابقة. أنا أحبّ قشّام وأعتني به”.

“شدّة العزيمة”

يضيف بصوته الخافت “تعلّمت هذه الرياضة من أجدادي وأعمامي ووالدي، تعلّمت منهم شدّة العزيمة وكيف أعتني بالصقر. حين يحين موعد طعامه أطعمه، وإذا جاء مثلاً ولد صغير ليمسكه أقول له لا تمسكه لأنّه من الممكن أن يعضّك”.

وبينما ينظر إلى شقيقه التوأم علي، يشرح بريك أنّ البرقع هو سرّ هدوء الصقر، فما أن يستعيد الطير بصره حتّى يتغيّر سلوكه، بدليل أنّ قشّام عضّ يوماً شقيق بريك لأنّ الأخير لمس صدر الصقر حين كان “مفرّعاً” أي بلا البرقع. ويتذكّر قائلاً “أتى أخي وكان الصقر مفرّعاً، مسح يده عليه فعضّه. الصقر يخاف!”.

ويقول بثقة بينما يمرّر سبابته الصغيرة فوق منقار طيره الكاسر “هل إذا مسحتُ الآن على الصقر عادي؟ نعم، عادي، لكن لو كان مفرّعاً لرأيته يعضّني لأّنّه جائع”.

وشارك بريك مع 12 متبارياً آخرين في مسابقة “الصقّار الواعد” (11-15 عاماً)، وتعيّن على كلّ منهم أن يطلق العنان لصقره في اللحظة التي يراها مناسبةً لكي ينقضّ الطير بأسرع وقت على طريدة يلوّح بها معاون للطفل يسمّى “الداعي” يقف على بُعد أكثر من 200 متر.

وتقوم مسابقة “الدعو” هذه على قياس الوقت الذي يستغرقه الطير لاجتياز مسافة المئتي متر، ويتمّ احتساب الثواني القليلة بواسطة أجهزة استشعار تصل دقّتها، بحسب صالح سالمين، الخبير في التوقيت الرياضي، إلى عشرة آلاف جزء من الثانية.

ويقول سالمين إنّ الصيد بالجوارح كان هدفه في العصور الغابرة، كسائر أنواع الصيد، توفير المأكل، لكنّه اليوم صار هواية، و”نحن حوّلنا هذه الهواية من نظام المقناص الحرّ، عندما كان الصيّاد يذهب إلى البرّية ويعسكر أسبوعين أو ثلاثة أو شهراً، إلى سباق محدود زمنياً”.

“الصقر هيّا”

من بين المشاركين في المسابقة سعيد الجميلة (15 عاماً) الذي أطلق على صقره اسم “هيّا” تيمّناً باسم بطاقة إلكترونية هي بمثابة تأشيرة دخول استحدثتها الدوحة للراغبين بالسفر إلى قطر خلال فترة المونديال.

يبدأ الصقر بتحريك جانحيه فيقرّب سعيد من منقاره ساق حمامة ذبحت لتوّها فينهش منها “هيّا” قطعة ويستعيد هدوءه.

ويقول الفتى “أعتني بصقري وأؤمّن له كلّ ما يلزمه. أطعمه وأمرّنه يومياً على مسابقة الدعو، صبحاً وعصراً، وأوفّر له كل ما يحتاج إليه”.

وإذ يبدي سعيد فرحته بقدوم مئات الآلاف من مشجّعي كرة القدم من العالم أجمع إلى بلده لحضور المونديال، يدعوهم إلى التعرّف على هذه الرياضة، “فليجرّبوا ولن يخسروا شيئاً. إنّها رياضة جميلة وأجمل ما فيها هذه السباقات”.

وإذا كان الحماس هو سمة مسابقة “الصقّار الواعد”، فإنّ نجوم الحدث كانوا بلا منازع ستّة أطفال تباروا في مسابقة “الصقّار الصغير” (من 6 إلى 10 سنوات) وخطفوا الأضواء حين تقدّم واحدهم تلو الآخر أمام لجنة التحكيم ومخلاة الصيد تتدلّى من كتفه وعلى يسراه ينتصب صقر مخالبه أكبر من يد حامله.

يتقدّم الطفل حمد النعيمي (8 سنوات) من اللجنة، يستعرض على الطاولة أمامها مجموعة من أدوات الصيد فيطرح عليه الحكّام أسئلة تتعلّق بأسماء هذه الأدوات وطرق استخدامها وأسئلة أخرى عن الطيور وبعض خصائصها.

نزع البرقع

يعجز الطفل عن الردّ على أحد الأسئلة فيعاجله صاحب السؤال بالإجابة، مرفقة بشرح وافٍ، لأنّ الهدف من المسابقة في النهاية هو “الحفاظ على موروثنا وتراث آبائنا واجدادنا. نحن ننقل هذا التراث للجيل الحالي”، كما يقول عضو اللجنة سعد المهنّدي.

بعد مرحلة الأسئلة الشفهية، يأتي الامتحان العملي، فتطلب اللجنة من الطفل أن يزيل البرقع عن عيني طيره، فيفعل ذلك ممسكاً بأحد طرفي الربطة بيمناه وبالطرف الآخر بأسنانه.

بعدها، يأتي امتحان إنزال الطير من اليد ووضعه على منصة مخصّصة له وإحكام وثاقه بربطة لا تخلو من التعقيد.

ويؤكّد المهنّدي أنّ “رياضة المقناص أو الصيد تعلّم الجَلَد والمثابرة والاعتماد على النفس”.

ويدعو الرجل الخمسيني إلى اغتنام فرصة استضافة بلاده بطولة كأس العالم في كرة القدم “لنشر ثقافتنا وهويتنا الوطنية”، مشدّداً على أنّ الصيد بالجوارح “رياضة عريقة، سواء في قطر أو في دول مجلس التعاون الخليجي، إنّها رياضة أصيلة”.

المصدر: يورونيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى