ابن ملكا.. فيلسوف العراق الذي اكتشف قوانين الحركة قبل جاليليو ونيوتن
الزمان؛ بغداد في القرن الثاني عشر للميلاد. العصر الذي كانت فيه بلاد العراق منارةً للحضارة الإنسانية، ومَبعث العلوم والفلسفة، كان أبو الحسن سعيد بن هبة الله علّامة المكان والزمان آنذاك، وأشهر العلماء في الطبّ والعلوم الحكمية وإذا كان لا يُفتى ومالكٌ في المدينة، فقد كان لا يُفتى في طب وهِبة الله موجود.
مع مطلع القرن الثاني عشر للميلاد جرت مسألةٌ ولم يجد هبة الله ولا غيره من علماء بغداد لها جوابًا، وبقي الجميع متطلعًا إلى حلّها، إلى أن سقطت على مسامع تلميذٍ يهوديٍ كان يتعلّم خِلسةً عند هبة الله بحكم أن هبة الله كان يكره تعليم اليهود، فدخل على مجلس علماء بغداد وخطب في هبة الله أنّ عندي جوابًا للمسألة؛ فقال له هبة الله تكلّم، فأجاب عنها بشيء من كلام جالينوس وقال يا سيدنا هذا حدث في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني.
سادت الحيرة والتعجب مجلس العلماء ذاك، واستخبر هبة الله عن المجلس الذي تعلّم فيه هذا الشاب اليهودي، فكان الجواب صاعقًا له بأن كان يتنصت من تحت دهليز الشيخ هبة الله، بحيث يسمع جميع ما يقرأ عليه، فكان أن قبل هبة الله بتعليم التلميذ، كان ذلك التلميذ هو أبو البركات ابن ملكا البلدي الذي صار فيما بعد واحدًا من أعظم العلماء المسلمين والعالم.
«وحيد زمانه».. ابن ملكا من اليهودية إلى الإسلام
يُلقبه البعض بـ«وحيد زمانه»، ويعرفه عامة الناس باسم «فيلسوف العراقيين»، ويعدّ أحد الشخصيات البارزة التي ظهرت خلال القرن الثاني عشر الميلادي، والذي ساهم في إثراء التراث العلمي والفلسفي العربي، وتميز بمواهب كثيرة. إنّه العالم العربي ذو الأصول اليهودية، أبو البركات هبة الله بن علي ملكا البلدي، أحد أبرز العلماء والأطباء والفلاسفة العرب في تلك الحقبة.
ولد أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي البغدادي في عام 480 هـ الموافق للسنة 1077 ميلادية بضيعةٍ اسمها البلد -التي سميّ باسمها- بمدينة الموصل العراقية، لعائلة يهوديةٍ متعصبةٍ، اختارت له اسم ناثانيل العبري، ولأنّ القانون السائد عند علّامة البصرة أبو الحسن ابن هبة الله آنذاك كان يقضي بمنع اليهود من حضور محاضراته رغم كثرتهم؛ (فاق عددهم 25 ألفًا بالمدينة العراقية) صعّب ذلك على أبو البركات مساره العلمي؛ غير أنّ حرصه على استراق السمع من وراء الجدران والتعلم على يد أبي الحسن جعل الأخير يقبله بين تلاميذه.
كان أبو البركات شغوفًا بالعلم ومجالسة العلماء، واستطاع أبو البركات أن يبرز سريعًا بين تلاميذ أبي الحسن ويصير المقرّب إلى شيخ البصرة؛ كما برع في الطبّ صغيرًا وناقش القضايا الفلسفية، وبلغت شهرته الآفاق.
ومع ذياع صيته؛ استنجد به الملوك والخلفاء، فخدم المسترشد بالله العباسي سنة 512 هـ لتبدأ حياة أبي البركات مع المتاعب، أين وقع في أسر السلطان مسعود الذي شنّ حربًا على المسترشد سنة 529 هـ؛ غير أنّ مداواته لأحد السلاطين جعل السلطان مسعود يفكّ سبيله ويغدق عليه بالعطايا ليسلم في ما بعد.
بعد تلك الرحلة الصعبة لأوحد زمانه؛ عاد أبو البركات إلى بغداد أين اعتكف مع طلبته في الحلق للتدريس وتخريج الطلاب، فكان من طلبته كل من موفق الدين البغدادي صاحب كتاب «في علم ما بعد الطبيعة»، وجمال الدين ابن فضلان المعروف برحلته الشهيرة.
تختلف المصادر التاريخية في الكشف عن السبب الحقيقي لقصّة إسلامه، فيذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» أنّ سبب إسلام أبي البركات يعود إلى أنه «دخل يومًا إلى الخليفة المستنجد بالله، فقام جميع من حضر إلا قاضي القضاة كان حاضرًا ولم يقم مع الجماعة لكون ابن ملكا ذميًا، فقال الأخير يا أمير المؤمنين إن كان القاضي لم يوافق الجماعة لكونه يرى أني على غير ملّته، فأنا أسلم بين يدي مولانا، ولا أتركه ينتقصني بهذا وأسلم». ويضيف ابن أبي أصيبعة بأن أبي البركات ظلّ يلعن ويشتم في اليهود منذ إسلامه.
أمّا البستاني فيذهب في كتابه «دائرة المعارف» إلى أنّ سبب إسلام أبي البركات فيعود إلى أمرين هما خوفه من وفاة زوجة السلطان محمود، التي كان قد قام بتطبيبها، وسقوطه في الأسر على يد السلطان مسعود مما جعل حياته مهددة.
غير أنّ البعض لم يعتبر أبي البركات مسلمًا، ففي كتابه «الموسوعة النقدية للفلسفة اليهودية»؛ يشكك عبد المنعم الحفني في إسلامه، إذ يذكر في موسوعته أنّه كان يظهر إسلامه ويبطن عقيدته؛ وأنّ إسلامه كان خوفًا من السلطان وطلبًا لنِعم، ويستدل في ذلك على مدح الشاعر اليهودي إسحاق بن إبراهيم بن عزرا لابن ملكا بقصيدة باللغة العبرية؛ وقيام أبو البركات بتفسير «سفر الجامعة» اليهودي باللغة العربية.
«فيلسوف العراقيين».. كيف أثر ابن سينا في فلسفة أبي البركات؟
«فلما قل عدد العلماء والمتعلمين وقصرت الأعمار، وقصرت الهمم، وانقرض كثير من العلوم، أخذ العلماء في تدوين الكتب وتصنيفها. واستعملوا في كثير منها الغامض من العبارات، والخفي من الإشارات التي يفهمها أرباب الفطنة، ويعرفها أهل صيانة العلوم. فلما استمر الأمر في تناقص العلماء وقلتهم في جيل بعد جيل، أخذ المتأخرون في شرح ذلك العويص، وإيضاح ذلك الخفي ببسط وتفصيل وتكرار وتطويل حتى كثرت الكتب والتصانيف وخالط أهلها فيها كثيرًا من غير أهلها واختلط فيها كلام الفضلاء المجودين بكلام الجهال المقصرين»، بهذه الرؤية يوضّح أبو البركات العوامل التي دفعته إلى تأليف كتابه «المعتبر في الحكمة»، وهو أشهر مؤلفات الفيلسوف العراقي.
يقول ابن العبري في وصف ابن ملكا ووصف كتابه «المعتبر في الحكمة» من خلال كتابه «تاريخ مختصر الدول»، أنّه «كان طبيبًا بارعًا وفاضلًا وعالمًا بعلوم الأوائل وكان حسن العبارة، لطيف الإشارة صنّف كتابًا سمّاه المعتبر أخلاه من النوع الرياضي، وأتى به بالنوع المنطقي والطبيعي والإلهي، فجاءت عبارته فصيحة ومقاصده في ذلك الطرق الصحيحة».
ارتفعت أسهم أبي البركات بتأليفه لكتابه المعتبر؛ فصار يلقب بـ«فيلسوف العراقيين»، غير أنّه وعلى ما يبدو لم يأخذ حظه من الشهرة إسلاميًا، إذ تخلو قوائم الفلاسفة المعتمدة في عصرنا الحالي من أي ذكر لأبي البركات البغدادي، بالرغم من أنّ ابن ملكا سار في كتابه المعتبر على نهج الفلاسفة العرب والمسلمين، ونسخ الكتاب الخطية تملأ مكتبات العالم.
قال عنه البيهقي في كتاب «تاريخ حكماء الإسلام» إنه نال رتبة أرسطو، ويمكن تلمس مبادئ المنهج العلمي الحديث عند ابن ملكا في قوله في كتابه «المعتبر في الحكمة»: «فعلى هذا يسهل طريق التعليم الحكمي الذي يكون بالنظر والاستدلال، وهذا القانون بعينه يستعمل في هذا العلم المسمى بالعلم الطبيعي، المنسوب إلى الطبيعة»
يذكر الفيلسوف موشيه بافلوف في كتابه «الفلسفة الميتافيزيقية لأبي البركة البغدادي: كتاب المعتبر» أنّ ابن ملكا استطاع من خلال كتابه المعتبر أن يرسي دعائم المنهج النقدي والعقلاني، فقد اشتمل الكتاب على عصارة فلسفة وعلم أبي البركات من العلوم المنطقية إلى العلوم الطبيعية وصولًا إلى علم ما بعد الطبيعة وعلم الإلهي وعلم المنطق، أين احتوى الكتاب على آراء أبي البركات في إشكالية الزمن وإشكالية قدم العالم وحدوثه عند ابن سينا.
الطبيب الفذّ.. هل يحتاج العالم أبي البركات
في القرن الثاني عشر للميلاد انتشرت أوبئة وأمراضٌ كثيرةٌ استعصى على العلماء والأطباء إيجاد دواءٍ لها، ومن بين تلك الأمراض، يروي ابن أبي أصيبعة أنّ رجلًا أتى أبا البركات وقد أصابه الوباء فتمكن الورم من رجله؛ فبادر أبو البركات إلى قطع أصابع الرجل فعاتب تلامذة وأطباء ذلك العصر فعل أبو البركات. فأعاد ابن ملكا الكرّة مع مريضٍ ثان وثالث؛ ولم يردّ على معاتبيه من أهل الاختصاص، بينما استمر تلامذته بالعلاج دون القطع ما جعل الوباء يتفشى حتى اهتدوا إلى علاج أبي البركات بضرورة قطع الرجل لكي لا ينتشر المرض إلى كافة أنحاء الجسم.
واشتهر ابن ملكا بطريقة علاجه النفسية، يقول ابن أبي أصيبعة صاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»: «أن مريضًا ببغداد كان عرض له مرض الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنا، وأنه لا يفارقه أبدًا، فكان كلما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة ويمشي برفق، ولا يترك أحدًا يدنو منه حتى لا يميل الدن أو يقع عن رأسه، وبقي بهذا المرض مدة وهو في شدة منه، وعالجه جماعة من الأطباء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، إلى أن عُرض على ابن ملكا».
ففكر في أنه ما بقي شيء يمكن أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية، فقال لأهله: «إذا كنت في الدار فأتوني به، وأمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليه وشرع في الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أن يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه كأنه يريد أن يكسر الدن الذي فوق رأسه، وأوصى غلامًا آخر، وكان قد أعد معه دنا في أعلى سطح المنزل، أنه متى رأى الغلام الأول قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا، أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض. وجلس ابن ملكا في داره وأتاه المريض وشرع في الكلام معه وحادثه، وأنكر عليه حمله للدن».
وأشار إلى الغلام الأول بالعلامة التي بينهما، وحدث المريض قائلاً: «والله لا بد أن أكسر هذا الدن وأريحك منه، وأدار الغلام الخشبة التي معه وضرب بها فوق رأس المريض بنحو ذراع، ورمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح، فكانت له جلبة عظيمة، وتكسر قطعًا كثيرة، فلما عاين المريض ما فُعل به ورأى الدن منكسرًا، تأوه لكسرهم إياه، ولم يشك أنه الذي كان على رأسه، وأثر فيه الوهم أثرًا برئ من علته تلك».
وعلق ابن أبي أصيبعة على عمل ابن ملكا قائلًا: «وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من الأطباء المتقدمين مثل جالينوس وغيره في مداواة الأمور الوهمية».
وقد ألّف ابن ملكا العديد من المؤلفات في مجال الطب، أبرزها مؤلفه «اختصار التشريح من كلام جالينوس» و«رسالة في العقل وماهيته» و«كتاب النفس».
أخذت شهرة الطبيب أبي البركات في الاتساع، فلما مرض أحد سلاطين السلاجقة، استدعي على عجل من بغداد فوفاه وبرأه، الأمر الذي جعل مبغضيه يخرجون إلى الملأ.
وما يعاب على أبي البركات كبره على الناس، فعلاوةً على قصة علاجه السالفة الذكر والتي لم يورد فيها أبو البركات شرح سبب علاجه بالقطع، يقارن بديع هبة الله الاسطرلابي بين أبي البركات الذي يعرف بالتكبر وابن تلميذ الذي يعرف بالتواضع فيقول:
لم يكن ابن ملكا فيلسوفًا أو طبيبًا فقط، فقد اقتحم علم الحركة مبكرًا وأبدع فيه، حتى أن سائر بصمه جي، يرى في كتابه «تاريخ علم الميكانيك»، بأنّ أبي البركات كان أوّل عالم درس واستفاض في البحث عن معنى «القانون الثاني للحركة». فقد وجد أبو البركات أن «الجسم الذي يفارقه سبب حركته يبقى مستمرًا في حركته التي استفادها من القاسر لولا مقاومة الوسط. ولولا مقاومة طبيعية وأن لا مقاومة في الخلاء، فيبقى الجسم متحركًا إلى الأبد» وهي النظرية التي ناقض بها أبو البركات عالم الفيزياء الشهير أرسطو الذي كان يرى أن الجسم لا يتحرك في الخلاء أصلًا.
ويذكر في موضعٍ آخر أنّ «كل حركةٍ في الزمان لا محالة، فالقوة الأشدّية تحرّك أسرع، وفي زمنٍ أقصر، فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة فقصر الزمان، فإذا لم تنته الشدّة لم تنته السرعة » ونفهم من قول ابن ملكا هذا، أن زيادة السرعة تحدث من زيادة القوة، وهي الانطلاقة التي بدأ منها نيوتن صياغة القانون الثاني للحركة.
لم يتوقف ابن ملكا عنذ ذلك، فلاحظ أنّ لكّل فعلٍ رد فعلٍ وقد عبّر عن ذلك بمثال الحلقة المتجاذبة بين متصارعين فيقول في كتابه «المعتبر» أن: «الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكلّ واحدٍ من المتجاذبين في جذبها قوة مقاومة لقوّة الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كلّ ذلك الجذب».
ويعد هذا المثال بمثابة التعريف الأوّلي لقانون الحركة الثالث والمشهور بـ«قانون نيوتن» والذي ينص على أن:
«لكل فعل رد فعل، يساويه في الشدة، ويعاكسه في الاتجاه»
وعن سبب اختيار ابن ملكة لمثال الحلقة عن مثال شدّ الحبل الذي كان مشتهرًا بين فيزيائيي ذلك العصر يجيب الباحث في الفيزياء، سائر بصمة جي، فيقول أنّ أبو البركات: «أراد تبسيط فكرته من خلال استعانته بفكرة الحلقة التي تعدّ شكلًا هندسيًا ودائريًا له مركزه في وسطه، ويعبّر عن مركز ثقله الخارجي في الوقت نفسه».
في مراجع علم الميكانيك الحديث يوضع «الشكل الأيمن» ليدل على الفعل وردّ الفعل الذي يحدث بين شخصين يقومان بشدّ الحبل، أمّا الحالة التي تكلّم عنها ابن ملكا البغدادي فهي في «الشكل اليسار» ونلاحظ أنّ شرحه أوضح وأفضل من من الشرح الحديث وذلك عندما اقترح وضع حلقةٍ في المنتصف بين شخصين.
البحر يُغرق السباح والطبيب يموت عليلًا
يروي المؤرخون أن علّةً أصابته وقصّر عن معالجتها طبّه، فاستولت الآلام مما لا يطيق جسمه وقلبه، فيذكر ابن أبي أصيبعة أنّ أبي البركات عمي، ثمّ طرش فبرص وأصابه الجذام، ولمّا أحسّ بدنو أجله أوصى أن يكتب على قبره «هذا قبر أوحد الزمان ذي العبر صاحب المعتبر» ، وكانت وفاته حسب ما ذكر الزركلي في سنة 1152 ميلادية وهو على نحو الثمانين من العمر مخلفًا إرثًا فكريًا عظيمًا.
مواقع عربية