تقارير

كان على نصيب عال من الفصاحة والبيان والشجاعة والذكاء.. ماذا تعرف عن “عمرو بن العاص” داهية العرب وسفير النبي وقائد الفتوحات

بين منازل بني سهم في بطحاء مكة وبين الفسطاط في مصر، سارت حياة الشاب الجلد والداهية العربي الأثير عمرو بن العاص بن وائل، فليس يعرف من أذكياء ودهاة العرب من يباري ابن العاص في حدة ذهنه ولا دقة فراسته ولا مكره وخبرته.

وهو ما جعله مع الزمن عقلا إستراتيجيا ضمن قائمة العقول الإسلامية المبهرة التي أذكت جذوة الجهاد في عصر الخلافة الراشدة، وفتحت أمام المسلمين بلادا وأفئدة واسعة من بينها مصر وأجزاء كبيرة من ليبيا.

كان عمرو بن العاص في قومه بني سهم بالمكان العالي والمنزلة الشريفة، ومنذ أن استقرت قريش ببطحاء مكة، وسارت قوافلها في رحلتي الشتاء والصيف، واستقبلت الوفود المقبلة إلى مكة لأداء مناسك الحج.

كان بنو سهم أهل الفصل في الخصومات، وأمناء خزائن الآلهة الممتدة حول الحرم، ولما عرف عنهم من دهاء وحكمة وأمانة، فقد أسلمت إليهم قريش ملفها المالي، وجعلته القوة الإدارية والمالية الأساسية لجيران البيت الحرام.

وبين العاص بن وائل التاجر الغني والأم سلمى بنت حرملة التي سُبيت وبيعت في سوق النخاسة بمكة، عاش عمرو بن العاص مدللا يرفل في دعة ونعيم، ويختبر ظروف وصروف الحياة التي تعجم عوده وتشحذ قريحته.

وقد وصف كُتَّاب التاريخ عمرو بن العاص بأنه كان على نصيب عال من الفصاحة والبيان، مما يعضد قوته البدنية وفروسيته الباهرة وخبرته بالنزال وجاهزيته للحرب، ولم تكن الزعامة والرجولة عند العرب يومها إلا الفصاحة والإبانة والفروسية والشجاعة وخوض مجاهيل الصحراء بقلب جسور وجواد صبور.

وإلى جانب تلك الصفات أضاف ابن العاص ميزة تنافسية خاصة به، فقد كان جوّاب آفاق رفيق سفر لا يؤوب من رحلة إلا أزمع السفر لأخرى، وقد منحه ذلك خبرة فائقة في الشعوب والعادات والبلدان، وفتح له أبواب علاقات هائلة أفادته في تعامله بعد ذلك فارسا فاتحا، وأميرا حاكما، وتاجرا رابح التجارة خبيرا بفنون التسويق.

سفارة قريش

وجدت قريش في عمرو بن العاص سفيرا وقائدا ووسيطا لها في مراسلاتها، ومفاوضاتها مع القبائل والزعامات، ولذلك أوفدته لقيادة إحدى أهم وأعقد مهمة في مسيرتها وعلاقتها بالحرم والعقيدة والتاريخ، وكانت مهمة عمرو ورفيقه الشاب الوسيم عمارة بن الوليد بن المغيرة أن يعيدوا المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة إلى ديارهم مكة.

حمل عمرو بن العاص ورفيقه ما خف وغلا من الهدايا التي كان يراها كفيلة بتغيير مسار وتوجهات الملك الحبشي الصالح أصحمة، واستخدام علاقاته الواسعة بكبار الرهبان وأركان المملكة الحبشية، لكنه عاد مخفقا من تلك المهمة التي كانت قريش تراهن عليها، بعد أن حسم الأمر جعفر بن أبي طالب بلسان الوحي.

وتروي الصحابية الجليلة أم المؤمنين أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة تفاصيل تلك السفارة الفاشلة التي كانت أول إخفاق يواجهه ابن العاص في مهمة دبلوماسية، فتقول: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه.

فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلْدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطاركته بَطْريَرْكا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريرك هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم.

قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وخير جار، فلم يبق من بطاركته بطريرك إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريرك منهم إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم.

وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عينا (أي أبصر بهم) وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا: نعم.

نطق الوحي الصادق

تواصل أم المؤمنين سرد تفاصيل المشهد، حيث تقدم في حديثها المشهور تفاصيل المناظرة، عندما يخاطب عمرو بن العاص ملك الحبشة قائلا: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطاركته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم.

لم يتردد النجاشي، بل رفض عرض التسليم الذي أيده أركان ملكه، وفتح أمام جعفر بن أبي طالب حق الرد متسائلا: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟

بدأ جعفر بن أبي طالب يتحدث متدفقا بلسان الوحي وصادق الإيمان: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة.

وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمر بالصلاة والزكاة والصيام (…) فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعَدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، ولما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.

قالت أم سلمة: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدرا من سورة مريم (كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا..). قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليَخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يُكادون.

الاختبار الصعب

قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم. قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا- لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عليهما السلام عبد. ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

قالت أم سلمة: فأرسل إليهم ليسألهم عنه، ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه، قالوا: نقول والله فيه ما قال الله سبحانه وتعالى وما جاء به نبينا ﷺ كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: نقول فيه الذي جاء به نبينا ﷺ، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

قالت: فضرب النجاشي يده على الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي –والشيوم الآمنون– من سبّكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دير ذهب وأني آذيت رجلا منكم.

غضب النجاشي

هكذا تنتهي الرواية المطولة للأحداث، ويعود عمرو لسيرته الأولى مجانبا للحق محاربا للنبي الكريم ﷺ، مشاركا بقوة في جهود قريش الساعية لحجب نور الإسلام العظيم، فشارك إلى جانب المشركين في غزوة بدر وأحد والخندق، ولكن رحلة أخرى من الشك والارتباك ستبدأ في مسيرة عمرو بن العاص بعد صلح الحديبية، حيث ولى وجهه مع رهط من قومه صوب النجاشي، تهيبا من ميلان الكفة لصالح معسكر المسلمين، واستعدادا لأي احتمال من هذا القبيل.

وبعد وصولهم إلى الحبشة، توقع ابن العاص أنه أمام فرصة أخرى للإثخان في أصحاب رسول الله (ﷺ)، فحدّث أصحابه قائلا: إن عمرو بن أمية الضمري وصل موفدا من الرسول الكريم إلى النجاشي، ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سررت قريشا.

توقع عمرو أن المهمة هذه المرة ستكون أسهل خصوصا مع هدايا الأدم التي قدم بها من مكة فسرّ بها الملك وبطاركته، ولكن الصدمة كانت كبيرة، حيث قال للنجاشي: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدوّ لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا، فأعطنيه فأقتله، فغضب من ذلك ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقا منه. ثم قلت: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك.

فاستحيا وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله؟! قال عمرو: “فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت؟!

ثم قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعني على الإسلام.

سفير الإسلام

انطلق عمرو مسرعا إلى المدينة مسلما منقادا بعد أن أقنعه النجاشي بأن يأخذ نهج السبيل، ويتبع النور الذي جاء به محمد بن عبد الله ﷺ، وفي الطريق التقى بخالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، وألقى الثلاثة عصا الترحال الفكري والعقدي بين يدي رسول الإسلام ﷺ، فاستبشر بإسلامهم وخاطب المسلمين مهنئا: لقد ألقت إليكم مكة بأفلاذ أكبادها.

وبالفعل فقد كان إسلام الثلاثة خسارة كبيرة لمعسكر قريش الذي فقد داهيته، وفارسه الذي لا يشق له غبار، وحامل مفاتيح الكعبة.

ترقى عمر بن العاص سريعا في مهام الثقة النبوية، فأرسله النبي ﷺ في سرايا متعددة منها سرية ذات السلاسل، وسرية أخرى بعد الفتح لهدم صنم سواع في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، ثم أرسله سفيرا ورسولا إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين حاكمي عُمان، وانتهت المهمة بإسلام الرجلين وانتشار الديانة الإسلامية في عُمان وشواطئها إلى اليوم.

وبعد وفاة النبي الكريم ﷺ كان عمرو بن العاص أحد فرسان حرب الردة، ومن بين القادة الأشداء في حروب فتح الشام، كما كان أحد أهم قادة فتح فلسطين، وأحد قادة معركة أجنادين، وقائد الميمنة في معركة اليرموك الشهيرة، وفاتح غزة، وخليفة الأمير أبي عبيدة بن الجراح على الشام، بعد أن أصابه طاعون عمواس الشهير.

كرة الذهب

ارتبطت مصر بعمرو بن العاص، وارتبط كثير من سيرته ما بعد الإسلام بمصر ونيلها وأقباطها وفسطاطها وجامعها الذي أصبح مع الزمن أحد أهم وأعظم الجوامع والجامعات في تاريخ المسلمين، لكن علاقة عمرو ابن العاص بمصر تعود إلى ما قبل الإسلام، وتتداخل فيها الأسطورة بالنبوءة، والطموح بالإثارة.

يروي المؤرخ أحمد بن علي المقريزي قصة طريفة لأول علاقة ربطتها الأقدار بين الفتى السهمي ومدينة الإسكندرية، قال ابن عبد الحكم‏:‏ فلما كانت سنة ثماني عشرة من الهجرة وقدم عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه الجابية، خلا به عمرو بن العاص، واستأذنه في المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل في الجاهلية مصر، وعرف طرقها ورأى كثرة ما فيها.

وكان سبب دخوله إياها أنه قدم إلى بيت المقدس لتجارة في نفر من قريش فإذا هم بشماس من شمامسة الروم من أهل الإسكندرية قدم للصلاة في بيت المقدس فخرج في بعض جبالها يسيح، وكان عمرو يرعى إبله وإبل أصحابه، وكانت رعية الإبل نوبا بينهم، فبينا عمرو يرعى إبله إذ مرّ به ذلك الشماس وقد أصابه عطش شديد في يوم شديد الحرّ، فوقف على عمرو فاستسقاه فسقاه عمرو من قربة له فشرب حتى روي.

نام الشماس مكانه وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس نظر إلى حية عظيمة قد أنجاه اللّه منها فقال لعمرو‏:‏ ما هذه؟‏ فأخبره عمرو أنه رماها فقتلها، فأقبل إلى عمرو فقبّل رأسه، وقال‏:‏ قد أحياني الله بك مرتين‏:‏ مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية فما أقدمك هذه البلاد؟‏

وتذكر الروايات أن الشماس المذكور أقنع عمرا بالذهاب معه إلى الإسكندرية، ودخلها في يوم عيد، وكان من عادات أهلها رمي كرة من ذهب، ومن وقعت في ملابسه، كانت تلك نبوءة بأنه سيحكم مصر، وشاءت الأقدار أن تقع في ثياب عمرو، لينكشف ستار الغيب بعد ذلك عن حاكم مصر الذي سخر منه الأقباط أول مرة، عندما رأوه أعرابيا هادئا يصحب الشماس، ليحصل منه على جائزة إنقاذ حياته

حصن بابليون

قاد عمرو بن العاص 4000 جندي من المسلمين، وبدأ رحلته إلى مدينة العريش، وتمكن من اجتياز سيناء سريعا بسبب عدم وجود حاميات للروم على الطريق بعد العريش، وكانت أولى المحطات التي واجه فيها مقاومة كبيرة هي مدينة الفرما التي فتحها بعد حصار دام شهورا، قبل أن تدخل حظيرة الإسلام سنة 20 هـ (639 م)، وتلحق بها في السنة ذاتها، مدينة أم دنين، ثم حصن بابليون الشهير التي استمر حصاره فترة طويلة قبل أن يفتحه المسلمون.

وقبل حصار حصن بابليون، كان عمرو قد أرسل إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب يستمده، فأمده بـ4 آلاف رجل، بينهم أسود من الصحابة، وعلى كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد. وكتب له: اعلم أنَّ معك 12 ألفا، ولن تغلب 12 ألفا من قلَّة.

بعد مفاوضات مع المقوقس حاكم بابليون، مال الروم إلى المصالحة وتسليم المدينة، قبل أن يُفاجأوا برفض القيصر هرقل الذي دفعهم إلى مزيد من القتال، وفي الأخير مال الزمن الروماني في مصر إلى المغيب، وانتهى ذلك الجبروت بهزيمة ساحقة، وبدأ عهد جديد من تحت ظلال فسطاط عمرو بن العاص.

فسطاط الأمير

بدأ المسلمون بعد فتح بابليون بناء مخيمهم الصغير حول خيمة قائدهم عمرو بن العاص، وسرعان ما تحول المخيم إلى مدينة صغيرة، ثم توسع بعد ذلك عمقا وأصالة في آماد المكان وأعماق التاريخ.

ثم ارتفع فيه مسجد عمرو بن العاص الذي حمل اسمه إلى اليوم، وقد شارك العشرات من صحابة النبي الكريم ﷺ في تحديد خط قبلته، حتى تسامت بشكل تام ودقيق جهة الكعبة المشرفة دون أدنى ميل أو انحراف، وقد أعيد بناء الجامع المذكور عدة مرات، كانت إحداها في عهد الوليد بن عبد الملك الذي كان مولعا بإقامة المساجد ومد جسور العمران الخالد.

مدينة الإسكندرية

توجه عمرو بن العاص إلى مدينة الإسكندرية ليتمكن من مراقبة الشاطئ، ومنع الروم من العودة إلى مصر، ومن الإسكندرية انطلقت الفتوح إلى ليبيا الحالية، فركز لواء الإسلام في برقة ومصراته وغيرها من مدن الساحل الليبي.

أعاد عمرو إعمار مصر على نموذج جديد، يجمع بين إحياء الأرض ودعم مقدراتها في الري والفلاحة، وبين العدالة بين الرعية، وحماية حقوقها الدينية والاجتماعية فأعاد حفر القناة الرابطة بين البحر الأحمر ونهر النيل، بعد أن ظلت لقرون طويلة نسيا منسيا، كما رفع الإتاوات والظلم الذي كان يمارسه الرومان على السكان الأصليين، فأعاد لهم حرية كنائسهم وعبادتهم، ورفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من عهد القياصرة.

ولم يغادر عمرو بن العاص مصر إلا في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، بعد أن عزله وولى خلفا له الصحابي عبد الله بن أبي سرح.

قصة التحكيم

لا يمكن أن ننهي سيرة ومسيرة عمرو بن العاص رضي الله عنه دون المرور بقصة التحكيم، فقد انحاز عمرو بن العاص فيما بعد فتنة قتل عثمان بن عفان إلى صف معاوية بن أبي سفيان رضي الله عن الجميع، وكان أبرز وزرائه وعقوله الإستراتيجيين، وكان ممثله في التحكيم المشهور في مقابل الصحابي أبي موسى الأشعري الذي كان ممثلا ومتحدثا باسم أمير المؤمنين الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وتتضارب الروايات التي نقلتها المصادر التاريخية بشأن قصة التحكيم، فقد تحدثت إحداها عن أن جمعا من عقلاء الطرفين خافوا هلاك المسلمين إن استمر القتال، فيستغل الأعداء ذلك ويستأصلوا الإسلام، فلا تقوم له بعد ذلك قائمة، وتحدث بعضهم بذلك، منهم الأشعث بن قيس الكندي، فلما وصل حديثه إلى معاوية قال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا.

بيد أنه اشتهرت رواية أخرى للواقعة، مؤداها أن قصة التحكيم بدأت عندما رأى عمرو بن العاص بوادر الهزيمة تدب في معسكر معاوية، فنصحه برفع المصاحف على أسنة الرماح لإيقاف القتال والاحتكام إلى ما جاء في القرآن الكريم، وقد أدى هذا الرفع إلى خلخلة معسكر علي بن أبي طالب الذي لم يكن له بد من قبول التحكيم، رغم معرفته بأنه خدعة من دهاء عمرو بن العاص، وفقا لهذه الرواية.

التقى الحكمان، وخرجا بعد أن اتفقا على خلع الأميرين المتنازعين، وأعلن أبو موسى الأشعري الاتفاق، وأحال الكلمة إلى عمرو بن العاص الذي أعلن رفض خلع معاوية، وأعلن بيعته خليفة للمسلمين، وأمام هذه الخدعة الكبرى تحول عمرو بن العاص في كثير من مصادر التاريخ الإسلامي إلى عنوان للمكر، ونسجت حوله عشرات القصص المهترئة إسنادا ومتنا، سعيا إلى تشويه صورته والانتقام من مكره ودهائه.

وتؤكد مصادر تاريخية أخرى أن الرواية السابقة بشأن نتيجة التحكيم وخلع أبي موسى لصاحبه لا أساس لها من الصحة، وأن الرجلين اتفقا على أن يردا الأمر بعد ما حصل من الخلاف والنزاع والقتال إلى كبار الصحابة، فيجعلوا على المسلمين من يرونه أهلا للخلافة، قطعا للنزاع وحقنا لدماء المسلمين

جبل المقطم

الثابت أن عمرو بن العاص عاد بعد ذلك إلى مصر واليا، ونجا من موت محقق بعد أن قرر الخوارج اغتيال الزعماء الثلاثة علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وعاش بعد ذلك فترة غير طويلة قبل أن يناديه صوت الأجل ويرحل، مرصعا خاتمته باستغفار وانكسار أمام رحمة الله، حيث يروى عنه ابنه عبد الله أنه قال عند موته: اللهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت.

وفي سفح جبل المقطم دفن عمرو بن العاص، وظلت روحه وتاريخه وعنفوان دهائه، وعظمة فتوحاته تاريخا يكلل ماضي مصر، ويثبت أن في سفح المقطم أحد أهم العقول الاستراتيجية على مر التاريخ.

المصادر : مواقع الكترونية – الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى