يكثر في التاريخ العربي نماذج من الظرفاء والحمقاء كانت أخبارهم انعكاسًا لنوع طريف من الحوادث والسِّيَر، وسواء أصحّت هذه المرويات عنهم أم كان أغلبها مختلقًا منحولا؛ فإن الظاهرة كانت راسخة ومعروفة بالفعل.
يقول الكاتب محمود خالد في مقال طويل له في “ميدان الجزيرة” أن “هؤلاء المتفكهون غير الآبهين لصرامة الحياة وقسوتها نوع من الناس ينضح بالبراءة والسذاجة في آن، وتعكس لنا أخبارهم قدرًا من عالم المهمشين في التاريخ العربي”.
يضيف خالد، وفي عالم الشعر والشعراء وفي حضرة الخلفاء والقصور نجد أمثلة لهؤلاء المتحامقين، تصورهم بمثابة “مُضحك السلطان” الذي يخرجه من عالم الرتابة والجمود والجدية وصراع القصور والمعارك، وحرب الدبلوماسية والسياسة والأعصاب المتوترة إلى البهجة والسرور والفكاهة والضحك، فالنفس لا تحب البقاء على حالة واحدة جامدة.
كان أبو دلامة زند بن الجون الأسدي الكوفي العبد المولّد الحبشي من ذلك الصنف، إذ كان فصيحاً يحب الفكاهة والظرافة، روي أنه كان مولى لبني أسد وقال بعضهم إنه كان أعرابياً أو عبداً لرجل من أهل الرّقة شرقي سوريا الآن على الفرات من بني أسد فأعتقه.
شَهِد الرجل ردحًا من عصر الدولة الأموية التي لم يكن له فيها نباهة ذكر؛ حيث لم يكن للموالي مكانة عند الأمويين، فلمّا جاءت الدولة العباسية انضمّ إليها، وكان اللقب المتداول على حاشية الخليفة أبي جعفر المنصور، على أنه في موطنه بالكوفة عُرف في ذلك المجتمع المحلي بالطرائف والظرائف
يقول الكاتب خالد، صيت أبو دلامة بدأ في الانتشار بالتزامن مع صعود أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني الذي اتخذه من ضمن حاشيته فعلا شأنُ أبي دُلامة، وأصبح الرجل بين عشية وضحاها ممن يُشار إليهم بالبنان حتى ولو كان “بهلوان” الخليفة
من مشاكساتُ أبي دُلامة أن دعاه أمير الكوفة روح بن حاتم المهلّبي ذات مرة إلى النزول في حلبة القتال أمام أحد الفرسان، فرفض أبو دُلامة لأنه لم يكن يدري ما القتال وما الطعان ولا الضراب وخاف وارتعد.
الأمير أصرّ فلما رأى أبو دُلامة إصرار الأمير قال “إني جائعٌ فأطعمني فدفع إليه خبزاً ولحماً، وتقدّم فهمّ به الرجّل، فقال له أبو دلامة اصبر يا هذا أيّ محاربٍ تراني؟، ثمّ قال أتعرفني؟ قال الفارس لا؛ ققال أبو دلامة فهل أعرفك؟ قال لا، فقال فما في الدنيا أحمق منّا ودعاه للغداء، فتغدّيا جميعاً وافترقا
الخليفة أبو جعفر المنصور كان ينسى حشمته وهيبته أمام الناس إذا فاجأه أبو دلامة بإحدى نوادره، حتى في أشد المواقف حساسية مثل موت زوجته، فقد ماتت زوجته حمّادة بنت عيسى وكانت ابنة عمه، وتظاهر المنصور عليها بالحزن والألم أمام أقاربها من بني عمومته
وقَفَ الخليفة المنصور والناس معه ينتظرون مجيء الجنازة، وكان معه أبو دلامة، وأراد أبو جعفر المنصور أن يرتدي زيّ الواعظ لأبى دلامة فسأله على رؤوس الأشهاد يا أبا دلامة ما أعددت لهذه الحفرة؟ وأشار للقبر، فما كان من أبي دلامة إلا أن قال “أعددتُ لها بنت عم أمير المؤمنين حمّادة بنت عيسى، فضحك المنصورُ وضحك الناس، وقال له المنصور ويحك فضحتنا بين الناس”
وقد حدث ذات مرة عداء بين الخليفة المنصور وعمه عبد الله بن علي أحد مؤسسي الدولة العباسية الأكابر، ومن كان له فضل ضم مصر والشام إلى العباسيين؛ بل هو الذي تمكن من القضاء على الأمويين
لقد شعر الرجل بمكانته الطاغية في الدولة العباسية، ورأى أن مكانه اللائق به أن يكون في منصب الخلافة، الأمر الذي اضطر معه المنصور إلى مواجهته بحسم وقوة
وقد أمر المنصور أبا دلامة أن يخرج في ذلك الجيش، لكن أبا دلامة الجبان الخائر قال معتذراً “نشدتُك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحضرني شيئاً من معاركك، فإني شهدتُ تسعة عشر عسكرًا انهزمت كلها وأخاف أن يكون عسكرك العشرين، فضحك المنصور وأعفاه”