موضة رسم لوحات الماشية المبالغ في حجمها كرمز للثروة والمكانة التي انتشرت في القرن التاسع عشر
موضة رسم لوحات الماشية المبالغ في حجمها كرمز للثروة والمكانة التي انتشرت في القرن التاسع عشر
في سنة 1802، كانت مدينة لندن موطنًا لثور مميز جداً، لقد وصل هذا الثور في عربة مصممة خصيصا له بعد أن كان في جولة استعراضية حول إنجلترا وإسكتلندا. في كل محطة حل بها، كان الثور يجذب الحشود التي كانت تأتي من كل حدب وصوب من أجل التحديق في حجمه العملاق، فقد كان هذا الثور يزن حوالي 1500 كلغ، وقد كان مجرد وجود ثور بهذا الحجم على قيد الحياة هو أعجوبة في حد ذاتها.
تم تخليد هذا الثور الذي عرف باسم «ثور دورهام» في لوحة زيتية، كما تمت طباعة صورته على مئات المطبوعات التي بيعت مقابل مبالغ كبيرة، غير أن هذا الثور لم يكن وحيدا، بل كان يمثل جزءا صغيرا من اتجاه وموضة أكبر اجتاحت بريطانيا في القرن التاسع عشر.
كان ملاك الأراضي الأثرياء في بريطانيا يعكفون على استيلاد الحيوانات كبيرة الحجم وذات الدهون الأكبر أكثر من ذي قبل، ولأنهم كانوا يشعرون بنوع من الفخر نظير إنجازاتهم، ولرغبتهم الكبيرة في نيل الاستحقاق والاعتراف الشعبي، كانوا يوكلون إلى الرسامين المحترفين مهمة إعداد لوحات فنية لهم مع ماشيتهم المميزة، وعلى ما يبدو، لم يكن الشعب ينال كفايته منها.
مثلت أوائل القرن التاسع عشر أوج لوحات الماشية الفنية. كان موضوع هذا الفن غالبا هو أحصنة السباقات التي كانت ترسم في خطوط نحيلة لتبرز السرعة والرشاقة، وبالنسبة لحيوانات المزارع، كان الحجم الكبير هو المفتاح.
في هذه اللوحات الفنية، كانت الأبقار والخراف والخنازير كبيرة الحجم، ومع ذلك كانت تصور وهي واقفة على أربعة أطراف هزيلة بشكل غريب. أحياناً يرسم مالك هذه الحيوانات إلى جانبها أيضًا وهو ينظر إليها بفخر كما لو كانت من صنعه.
في أحيان أخرى يتم تصوير الحيوان وحده، وأحيانا أخرى يبدو فيها وكأنه على استعداد لالتهام قرية بأكملها.
يشار إلى الأسلوب البسيط في تصوير هذه الحيوانات غالبا على أنه ”الفن القروي“ أو ”الفن الساذج“ حتى على الرغم من واقع أن الحيوانات المندرجة فيه تعود ملكيتها للنخبة من الأثرياء، وقد كانت الصور الناتجة عن ذلك في جزء منها للاستعراض وفي جزء آخر للدعاية والإشهار.
كانت الأبقار السمينة، والخنازير كبيرة الحجم، والخراف البدينة تعتبر دليلا على نجاح مالكيها في الاستيلاد والتهجين بهدف الوصول إلى أكبر حجم وأثقل وزن. استخدم المزارعون من الأثرياء الانتخاب الاصطناعي في الاستيلاد من أجل خلق ماشية سريعة النمو وكبيرة الحجم. إلى جانب الاستيلاد، كانت بعض الممارسات الجديدة في مجال الزراعة وإطعام الماشية تساهم هي الأخرى في إنتاج حيوانات أكبر حجمًا
كان المزارعون الأثرياء يشاركون في المسابقات الزراعية وكانوا على اطلاع دائم على آخر ما توصلت إليه الأبحاث العلمية في هذا المجال، وقد كان يطلق عليهم اسم ”المحسّنين“، ذلك أنهم كانوا يحاولون تحسين نسل الحيوانات المتواجدة آنذاك.
أصبحت طرائق على شاكلة إطعام الأبقار كعك الزيت واللفت من أجل تسمين أخير قبل الذبح واسعة الانتشار، حتى أن قرين الملكة فيكتوريا، وهو الأمير آلبرت، أصبح هو الآخر ”محسّنًا“ متباهياً بخنازيره وأبقاره المحسّنة وكبيرة الحجم.
إذا ما كان حيوان ما ضخما بشكل استثنائي، سيستعين مالكه بكل من دور العرض والفن كوسيلة للدعاية الذاتية والترويج. خلق هذا الأمر طبقة من مشاهير الحيوانات، على شاكلة ثور دورهام، الذي استخدمت صورته كقالب لأطباق العشاء! كما كانت الحيوانات الاستثنائية للغاية تباع مقابل مبالغ باهضة.
لكن فقط المستولدون الهواة من طبقة النخبة كانوا يملكون الوقت والمال من أجل تطوير حيوانات استثنائية. كان الكثير من النبلاء وسادة القوم يملكون مزارع مترامية الأطراف، وقد كان الاستيلاد والتهجين آنذاك يعتبر الهواية المفضلة لدى الأثرياء والنبلاء.
وفقا للمؤرخ (هارييت ريتفو)، كان يتم تحذير المزارعين العاديين بشكل روتيني من خلال المنشورات الزراعية من أن محاولة منافسة النبلاء في مساعيهم للوصول إلى أبقار هائلة الحجم قد يكون مكلفا جدا، وقد يأتي حتى على نفقة مزارعهم بأكملها.
أشار (ريتفو) كذلك إلى أن المزارعين من الطبقة الراقية استخدموا القومية والوطنية من أجل تبرير المنافسات والترويج الذاتي. وقد كان المبدأ الذي احتجوا به هو أنه إذا كانت النخبة قادرة على استيلاد أبقار أكبر حجماً وأكثر بدانة سيكون بمقدور المزارعين العاديين والفقراء امتلاكها في نهاية المطاف، مع وجود المزيد من اللحم للبيع، ستصبح كذلك المجتمعات الريفية أكثر استقرارا من الناحية المادية.
كما سيستفيد حتى الأمن الوطني للبلد من هذا الأمر، فقد كان النمو السكاني في بريطانيا يتزايد بوتيرة سريعة، وبسبب تواتر الحروب المتتالية كان تأمين الموارد الغذائية من الحيوانات البدينة أمرا ضروريا للغاية.
تطور ”التحسين“ بسرعة كبيرة، لدرجة أن متوسط حجم الأبقار زاد من سنة 1710 إلى غاية 1795 بحوالي الثلث.
غالبا ما كانت اللوحات الزيتية والمطبوعات التجارية الخاصة بهذه الحيوانات المميزة تأتي مع معلومات حول الحيوان من وزن وأبعاد وكذا مجهودات مالكه في الاستيلاد. وفقا لبروفيسور دراسات الحيوان (رون بروغليو)، فإن هذه البورتريهات كانت غالبا مبالغًا فيها من أجل إبراز الحجم المثالي للحيوان، والذي كان يتركز أساسا وعادة على: ”تركيز وجود الدهون في مناطق معينة“، فبالنسبة للخنازير، كان الشكل المثالي يشبه شكل كرة القدم، بينما كان الشكل المثالي للأبقار والخراف مستطيلًا.
بعيدا عن جعل المزارعين الأثرياء مشهورين للغاية، كان للوحات الحيوانات ومطبوعاتها هدف عملي، فقد أصبح بمقدور المربين والمستولدين عبر البلد استخدام صورة حيوان معين كنموذج لقطعانهم الخاصة، ذلك أن الماشية التي كانت تطابق معايير الجمال المطلوبة كانت قيمتها أكبر.
حتى في يومنا هذا، مازالت الحيوانات التي كان يحتفى بها في السابق مثيرة للإعجاب، لكن بطريقة أخرى. مازالت المطبوعات التي تصور حيوانات ضخمة الحجم معلقة على الكثير من الحانات التي تحمل طابعا ريفيا، مما يثير لدى الناظر إليها نوعا من الماضي الريفي.
تمت تسمية الكثير من الحانات والبارات البريطانية تيمنا بالكثير من الأبقار المشهورة سابقا على شاكلة (ذا كرايفن هيفر)، و(ثور دورهام).
لكن في أيامنا هذه، لم تعد لوحات الماشية المميزة تمثل علامة على الازدهار ولا على القومية والوطنية، وتماما مثل الكثير من الأمور والممارسات التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة سابقًا واندثرت، أصبحت هذه اللوحات تبدو غريبة وفي بعض الأحيان مثيرة للضحك.
في أواخر سنة 2016، أصبحت لوحة لفنان ماشية من القرن التاسع عشر التي رسم فيها خنزيراً بدينًا ميماً Meme راج كثيرا في الإنترنت.
المصدر: موقع Atlas Obscura