أثبتت كائنات “الأوبلوتِس” وحيدة الخلية قدرتها على الحركة المعقدة بمساعدة برمجة داخلية دقيقة ومنظمة يمكن عدّها آلية داخلية، ذلك بعكس الشائع في مثيلاتها.
حيث يتولى الدماغ في الكائنات الحية المتطورة مثل الحيوانات إرسال إشارات عصبية تكون مسؤولة عن القفز والجري والحركة بشكل عام، غير أن هذا ليس الحال في الكائنات الأولية الدقيقة التي لا تملك أدمغة على الإطلاق لتتحرك حركة معقدة مثل الكائنات الأكثر تطورا، وعوضا عن ذلك فإنها تنزلق أو تتدحرج أو تسبح في البرك.
رُصدت تلك القدرة المثيرة للاهتمام لهذه الكائنات الأولية من خلال نتائج الباحث بين لارسون في “جامعة كاليفورنيا-سان فرانسيسكو” (University of California, San Francisco) بالولايات المتحدة في دراسة تنشر في 22 ديسمبر/كانون الأول المقبل في دورية “كارنت بايولوجي” (Current Biology).
اكتشاف جديد يفند فرضية سابقة
ووفقا لما جاء في البيان الصحفي الصادر عن جامعة كاليفورنيا سان فرانسيسكو يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، فقد حلل لارسون وآخرون قدرة كائنات “الأوبلوتِس” (Euplotes eurystomus) وحيدة الخلية على الحركة، حيث تستخدم تلك الكائنات 14 هدبا من الأهداب المتلاحمة؛ تشبه الأرجل وتعرف بـ”سيري” (Cirri)، وتمكنها تلك الأهداب من التنقل والحركة عبر الأسطح المختلفة. وما أثار اهتمام الباحثين أن هذه الحركة تنطوي على مظاهر للتنقل غير معتادة تصاحبها تكرارية نمطية.
وقد كان يُعتقد منذ أوائل القرن الـ20 بوجود روابط بروتوبلازمية بين أهداب تلك الكائنات تحكم حركتها، حيث دعمت تجارب الجراحة المجهرية آلية مفترضة سابقا لتنسيق الحركة في الكائنات الدقيقة، وتعزى تلك الحركة -وفقا للفرضية المهيمنة منذ وقت طويل- إلى غشاء البلازما الذي يعمل كموصل للنبضات الكهربائية، مما ينفي إمكانية وجود خاصية موصلة تميز البنى الداخلية للخلايا مثل الأليافذ العصبية الحركية المختلفة، غير أن النتائج المرصودة حديثا جاءت لتناقض ما اعتقد سابقا.
وأظهرت النتائج لأول مرة أن الشبكات الدقيقة بين هذه الأهداب تتحكم في حركاتها على نحو يسمح للأرجل بالتحرك فقط في أنماط وتسلسلات معينة. ولكن عندما تتعطل هذه الروابط الداخلية، تعجز تلك الكائنات عن الحركة ويؤدي ذلك إلى عدم تسلسلها، وغالبا ما تلجأ إلى الدوران في دوائر بدلا من السير في خط واحد.
آلية حركية متناهية الدقة
بدأ هذا الاكتشاف المثير بملاحظات ميكروسكوبية لكائنات الأوبلوتس، واعتقد بين لارسون للوهلة الأولى أنه بصدد فحص نوع من الحيوانات عبر عدسة المجهر، نوع أشبه بالحشرات، ولكن سرعان ما فطن إلى أن ما يتجول أمامه هو في الواقع نوع من الكائنات الدقيقة وحيدة الخلية، وما أثار اهتمام لارسون وفتنه بهذه الكائنات هو قدرتها المذهلة على تنسيق حركة أهدابها الـ14 واستخدامها كأرجل من دون امتلاكها لدماغ أو حتى جهاز عصبي.
ولفهم هذه القدرة العجيبة والاستثنائية، عكف بين لارسون ووالاس مارشال على دراسة هذه الكائنات ومحاولة فهم كيفية تحكمها في الحركة بمزيد من التفصيل. وشاهد الباحثان مقاطع مصورة بسرعة بطيئة لكائنات الأوبلوتس أثناء المشي والحركة، والتقطا نحو 33 صورة في الثانية الواحدة، ومن ثم رقّما كل هدب من الأهداب لتسهيل تتبع وتحليل حركتها أثناء المشي.
ووصف الباحثان 32 من حالات المشي (gait states)، مما أظهر وجود أنماط معينة يغلب أنها تعقب بعضها بعضا، وهذا ما دفع لارسون إلى الاعتقاد بأن هناك منطقا تسلسليا مصاحبا لتلك الحركة، وقد أثار ذلك الاكتشاف الاهتمام والشك معا في وجود نوع من معالجة البيانات يحكم كل هذا.
وتعليقا على النتائج، يقول والاس مارشال أستاذ الكيمياء والفيزياء الحيوية في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو -أحد الباحثين الرئيسيين وقائد الدراسة- في البيان الصحفي “تستخدم كائنات أوبلوتس هذه الشبكات لتسهيل حركة المشي الدقيقة والمعقدة، غير أنني أعتقد أنه عندما نوسع البحث في كيفية حدوث هذا الأمر، سنجد أن هناك أنواعا من الخلايا الأخرى تعتمد أشكالا مماثلة من الحوسبة الداخلية للتحكم في عمليات أكثر دقة”.
شبكة من الألياف الدقيقة
تتكون أهداب كائنات الأوبلوتس من ألياف بروتين التيوبيولين، ومثلها مثل بقية الهياكل الخلوية؛ فإن تلك الألياف تعمل كبنية داعمة للأهداب، لذا فهي توفر أيضا نوعا من الاتصال الآلي فيما بينها.
وقد ساعدت النمذجة الحاسوبية في فهم كيفية تحكم تلك الأهداب المتلاحمة في حركة المشي لكائنات الأوبلوتس، حيث أوضحت النمذجة أن مقدار الإجهاد والانفعال المبذولين على تلك الألياف هو ما يحكم نمط مشي معين في لحظة معينة، تماما كما لو كانت هيكلا آليا من هياكل الخيزران المتحركة المعروفة بـ”ستراند بيست” (Strandbeast)، التي صممها الفنان الهولندي ثيو يانسن للمشي والتفاعل مع بيئتها.
وقد لوحظ أن بعض الأهداب ربما تحتفظ بطاقة الانضغاط عند مراحل معينة من الحركة، وفور التحرر منه فإنها تدفع الخلية إلى المضي قدما إلى نمط المشي التالي، مما يشكل تسلسلا نمطيا لحالات المشي جعل مارشال يصف آلية عملها بالحاسب الآلي البدائي.
ولفهم تلك الآلية أكثر، تم تعريض كائنات الأوبلوتس لعقار معطل للتفاعلات المتزامنة لألياف التيوبيولين فأحدث ذلك خللا في نمط المشي والحركة في الخلية، بيد أن مشيتها ظلت منتظمة، لكنها لم تعد منسقة بطريقة تسمح بالحركة الفعالة، وعوضا عن ذلك بدأت تدور في دوائر غير مجدية.
ومن هنا، استنتج الباحثان أن تلك الكائنات وحيدة الخلية -المفتقرة إلى دماغ وجهاز عصبي- تستطيع التحكم في حركتها وأنماط المشي الخاصة بها عن طريق شبكات من جزيئات بروتينية قادرة على تبادل الإشارات فيما بينها، وتعمل بانتظام كتروس الساعة التي تنتج حركة نمطية، محسوبة ودقيقة للغاية.
ما زال هناك الكثير لفهمه
يقرّ الباحثان بأن نتائج الدراسة ليست كافية لفهم ميكانيكية الحركة لهذه الكائنات وكيفية تحكم شبكة الألياف البروتينية الدقيقة في حركتها على وجه التحديد، لكن النماذج الحاسوبية إضافة إلى التجارب المجهرية تشير إلى آلية جديدة تماما للخلية تمكّنها في مشيتها وأنماطها الحركية.
يقول لارسون إن “ما تم اكتشافه يعدّ ظاهرة بيولوجية مثيرة ورائعة في حد ذاتها، لكنها تسلط الضوء أيضا على معالجات حاسوبية أكثر عمومية في أنواع أخرى من الخلايا الأولية”.
المصدر: الجزيرة – ترجمات