كان التحدي الأكبر الملقى على عاتق مصممي الملاعب التي تستضيف مباريات كأس العالم 2022 في قطر، هو الإبداع في الدمج بين الحداثة والعراقة معاً، لإنتاج تشكيلات بصرية تمثل روح البادية وعمق التفاصيل المحلية التقليدية، في محاولة للاحتفاء بالماضي في ضيافة الحاضر، وعيش التاريخ في عمق اللحظة الحاضرة وإعطاء تأثير يعبر عن الكيفية التي يمكن بها للعراقة والأصالة أن تحتضن الحداثة وترتقي بها.
ثلاثة معماريين وضعوا فكرة كل من استاد الجنوب واستاد 974 واستاد الثمامة، فمن قطع الليغو الملونة إلى القحفية القطرية إلى أشرعة المراكب التقليدية، رحلة موفقة جداً لمارك فينويك وإبراهيم محمد الجيدة وزها حديد.
الرائد في تصميم الملاعب
تولى تصميم استاد 974 المعماري الإسباني مارك فينويك، الذي سبق له كمؤسس لشركة “فينويك إيريبارن آركيتكتس” تصميم عدد كبير من المعالم الرياضية العالمية الشهيرة في قطر والمغرب وإسبانيا والنرويج وغيرها، باسم شركته التي أسست عام 1990 من قبله ومعه المعمار خافيير إيريبارن، وهي عبارة عن استوديو للتصميم المعماري.
يصف فينويك نفسه على موقعه الرسمي كرائد في تصميم ملاعب كرة القدم، وواحد من القلة المعترف بهم في مجال الإنشاءات الرياضية والملاعب، ومن شركات الهندسة المعمارية الإسبانية القليلة التي تعمل في مشاريع مهمة على نطاق دولي.
وفي فيديو على حساب اللجنة العليا للمشاريع والإرث على “تويتر”، الجهة المسؤولة عن مشروعات ومبادرات كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022، وصف فينويك استاد 974 (رأس أبوعبود) بأنه أيقونة هندسية خاصة وفريدة لم تشهد مثله أي نسخة سابقة في تاريخ كأس العالم، وأنه مفاجأة عالم هندسة الاستادات الرياضية، من مميزاته قرب مقاعد المشجعين من أرضية الاستاد مما يمنح المشجعين تجربة مميزة جداً، كما يفخر فيونيك بتصميمه الذي يجسد أعلى معدلات الاستدامة في ملاعب كأس العالم 2022.
إذ انطلق التفكير في تصميم الاستاد من القدرة على تفكيكه بالكامل ليعاد استخدامه في دولة أخرى بعد نهاية البطولة، ومن هنا جاءت فكرة توظيف حاويات الشحن والتعامل معها كمكعبات ليغو مختلفة الألوان، بحيث يعاد تركيبها وتحويلها إلى نحو 30 مشروعاً رياضياً مصغراً.
المتشبع بالمعمار التقليدي
في المقابل، صمم استاد الثمامة المعماري القطري إبراهيم الجيدة، وهو رئيس المعماريين في المكتب العربي للشؤون الهندسية، وتعرفه رابطة رجال الأعمال القطريين بـ”أنه استطاع أن يضع نفسه مهندساً بارزاً في الحركة المعمارية الحديثة التي تجمع بين عمق التأثير الإسلامي وأسلوب العمارة الحديثة، مما أدى إلى ظهور مبان وصروح بارزة أسهمت في تشكيل دولة قطر الحديثة، وهو عضو مؤسس لمجلس قطر للأبنية الخضراء وداعم للاستدامة”.
تخرج إبراهيم الجيدة في جامعة أوكلاهوما في الولايات المتحدة عام 1988، وعمل في وزارة الشؤون البلدية والزراعة في قطر رئيساً للقسم المعماري قبل الاستحواذ على المكتب الهندسي العربي (AEB) في عام 1991، وأشرف شخصياً على أكثر من 1500 مشروع، يحاول الاحتفاظ بالهوية الثقافية مع احتضان الحديث، وتعكس مشاريعه السياق الثقافي والتاريخي والبيئي الذي توجد فيه.
ويصنف الجيدة نفسه رائداً في حركة معمارية جديدة تجمع بين التأثيرات بعيدة المدى للفن الإسلامي والأسلوب الحديث، وأنه متشبع بالمعمار القطري التقليدي وهذا ما يتجلى واضحاً في تصميم الاستاد، إذ نجح في المسابقة المعمارية الخاصة بتصميم الاستاد، ومنذ اللحظة التي طرحت فيها القحفية (غطاء الرأس التقليدي في قطر) خلفية تصميمية للاستاد، بدأ الجيدة في استكشاف الأشكال المتنوعة للقحافي رغبة منه باختيار الشكل الأمثل الذي بإمكانه أن يعكس روح هذا الجزء من التراث المادي للبلاد، وترجمتها على شكل تصميم بإمكانه أن يكشف نفسه بسهولة للمشاهد، وأن ينسجم مع معايير العمارة الحداثية.
فاختار الجيدة أحد أشكال القحافي التي تسمى قحفية بنيرة، وهو عبارة عن مجموعة من المعينات المتتالية والمتحاذية تنصفها دوائر مركزية، ويتخلل التصميم ككل دوائر صغيرة مفرغة، التي تشكل في النهاية شكلاً مثالياً يمزج برشاقة وتناغم بين الخطوط المائلة والدائرية.
هذا الطابع التراثي تجسد أيضاً في افتتاح الاستاد، إذ ارتدى الأطفال المشاركون في الافتتاح القحفية ذاتها التي استلهم منها تصميم الاستاد، وجلسوا على طريقة الكتاتيب لتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم لعبوا كرة القدم مرتدين الزي التقليدي القطري.
أقوى مهندسة في العالم
من جهة ثانية، تولت المعمارية العراقية زها حديد تصميم استاد الجنوب، وهي التي أعادت برؤيتها الجديدة تعريف الهندسة المعمارية للقرن الحادي والعشرين، وغير كل مشروع من مشاريعها مفاهيم ما يمكن تحقيقه باستخدام الخرسانة والفولاذ والزجاج.
تخرجت عام 1977 في الجمعية المعمارية بلندن وعملت معيدة في كلية العمارة 1987، نالت عديداً من الجوائز والألقاب الشرفية في فنون العمارة، وكانت من أوائل النساء اللاتي حصلن على جائزة “بريتزكر” في الهندسة المعمارية عام 2004 والتي يشار إليها باسم “جائزة نوبل للهندسة المعمارية”، وحازت في مناسبتين على جائزة “ستيرلينغ” التابعة للمعهد الملكي للمعماريين البريطانيين (RIBA)، وعلى وسام الإمبراطورية البريطانية والوسام الإمبراطوري الياباني عام 2012، وعلى الميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة ريبا للفنون الهندسية عام 2016 التي تمنح سنوياً من قبل المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين نيابة عن ملكة بريطانيا، لتصبح بذلك أول امرأة تحظى بها، كما وصفت بأنها أقوى مهندسة في العالم.
حرصت زها على دراسة منطقة الوكرة بدقة والاستنباط من مجتمعها وتاريخها، لتخرج بتصميم يمثل هيكله الخارجي شكل صدفة بينما صممت الداخل على شكل مركب تقليدي، كما جسدت سيدة الخطوط المنحنية والثائرة على اللاممكن تصميماً تتخلله المنحنيات في كل جزء من أجزائه من الهيكل الخارجي إلى التشكيلات الداخلية وصولاً إلى هيكل السقف، حيث الحيوية والتناغم مع روح المكان، إضافة إلى مراعاة التطور والحداثة التي لا تغيب عن تصاميمها الداخلية، فالملعب الذي يتميز بكونه أول ملعب مكيف عملياً بالطاقة مع سقف قابل للسحب، حصل على جائزة الفئة الأولى للمنظومة العالمية لتقييم الاستدامة.
انطلق العمل على أساسات الاستاد في فبراير (شباط) 2015، أي قبل وفاة زها بقرابة السنة، ليتحول الاستاد برحيلها إلى إرث مادي يضم العشرات من القطع الفنية المعمارية التي تركتها حديد في العالم العربي، وصرح عظيم يشهد على تميزها كواحدة من النساء الأكثر تأثيراً في تاريخ العمارة.
المصدر: اندبندنت عربية