تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.
هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.
الحلقة 46: محمد بن عثمان.. واضع المناهج ومُبدع البرامج الرّافعة بجامعة ابن يوسف أعلى المدارج
إذا كان المغرب هِبَة القرويين كما قيل، فإنّ مراكش هبة جامعة ابن يوسف، نظرا للتّرابط القائم بين تاريخ المدينة والجامع والجامعة منذ الماضي البعيد، ولما أسْدته من خدمات جُلى للمعرفة والعلوم والحضارة المغربية والإسلامية منذ وضَع دعائمها السلطان المرابطي علي بن يوسف سنة 1120 ميلادية، قاصدا مِن ذلك جعْل الجامع فضاء جامعا للعلماء وطلبة العلم الذين أضحوا يتوافدون على العاصمة المرابطية المزدهرة.
وما تعاقبت مِن دولة مِن دول المغرب الكبيرة إلا وأضْفت لَمْسَتَها على جامعة ابن يوسف، فاعتنى بها السلطان المرتضى الموحّدي، وزاد سلاطين بني مَرين في توسعة الجامعة اليوسفية وتطويرها، وتَممّ الأشراف السعديين جهود سابقيهم باستقدام خِيرة العلماء وأنبه الفقهاء، وصار الجامع والجامعة في العهد العَلوي “من مراكز العلم والثقافة، تُشَدّ إليه الرحال، وتَعُجّ رحابه بالعلماء وشيوخ العلم، يتنافسون على الإمامة والخطابة والتدريس به (..) واجتمع له مِن أعيان الكُتاب وفرسان البلاغة ما لم يتّفق اجتماعه في عصر من العصور”، وبَقي كذلك يتعاقب على إدارتهما أقطاب العلم في المغرب المعاصر إلى أنْ تَوَلّى مهمة الإشراف الإداري والعلمي على الجامعة العريقة والجامع العتيد مَن انتهت إليه المهارة والنباهة والمعارف والحنكة التدبيرية، العلامة الخدوم محمد بن عثمان المراكشي المسْفِيوي، الإدريسي نسبا، الأمازيغي أصلا ولسانا، لما له من اتصال بمنطقة إداوتان بسوس.
وُلد مترجمنا في مطالع القرن العشرين على غير اتفاق المؤرخين والباحثين على تاريخ محدد لولادته، بحومة المواسين العتيق بالمدينة القديمة لمراكش، وبين أزقة المدينة ترعرع، ومن كتاتيبها القرآنية نَهل حتى استوى حافظا لكتاب الله مُتْقِنًا لعلوم العربية، متزوّدا بالمعارف الضرورية.
في شبابه انتقل إلى جامع ابن يوسف الأثير، فتعلّق بعلمائه وحلقات دروسهم، وشغُف بالأدب والنثر وعلوم الآلة، كما انخرط في حالة من التقدير والتجلّة للفضاء الحضاري والصرح العلمي الذي انتمى إليه، فأحَبَّـهُ محبّة هيّأه القدر – لاحقا – لتخليد هذ الشعور والإكبار لجامعة ابن يوسف في مرجع قيِّم نفيس تداوله القراء جيلا بعد جيل.
بعد التخرج من ابن يوسف، التحق الشباب محمد مباشرةً بمدينة الرباط سنة 1925، متتلمذا على الشيخ أبي شعيب الدكالي الفقه والحديث، وعلى العلامة المدني الحسني العلوم الشرعية والأدبية، وعلى يد شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي السلفية الوطنية والنصوص المترجمة، وعلى يد علماء آخرين في الرباط التي قضى فيها ثلاث سنوات. وخلال ذلك المقام؛ حضر ندواتٍ ومجالس علم ومسامرات مع نخبة العلماء ومثقّفي شباب مرحلة الحماية.
كان شغفه بدراسة العلوم يكاد يربط فيه الليل بالنهار، لذا ما إنْ أنهى دراسته في الرباط حتى شَدّ الرحال إلى مصر، فنزل بالقاهرة عند أخيه الذي كان موظَّفا في السفارة الفرنسية هناك، ودرس على يد بعض العلماء، ثم زار مكة والمدينة، وعاد إلى بلده متزوّدا بثقافة الشرق وحبّ الشِّعر والأدب ودراية بمناهج التعليم في منطقتي الحجاز وأرض الكنانة.
بعد عودته للمغرب فضّل الاستقرار بالحي الذي شهِد ولادته، حي المواسين الشهير، في درب عزّوز، ليكون على مَقرُبة من مسجد الشُّرفاء، الذي سيُزاول فيه أوّل وظائفه العلمية والدينية، مُدَرّسًا لسنوات، فحُمِدت مسيرته، وشُكِرت دُروسه من لدن تلامذته، وانتقل إثْر ذلك إلى جامع ابن يوسف، لتكون منه الانطلاقة الوثّابة الناجحة في مسار العلّامة محمد بن عثمان.
بدأ تَدريسه في جامع ابن يوسف بإقراء صحيح البخاري وشرحِ دروس في المنطق، وشرح مختصر خليل، فانتفع به طلبة العلم، وتوطّدت صِلاته مُذّاك بالعلماء المتميّزين والأدباء المراكشيين، فجَمعته صداقة امتدَّت لسنوات مع الشيخ العلّامة محمد المختار السوسي (توفي سنة 1963) واللغوي الكبير عبد الجليل بلقزيز (توفي سنة 1967) والعلامة عبد الله بن العباس الجراري (توفي سنة 1983) الذي سبق وزامَله في الرباط زمن التحصيل العلمي، والأستاذ أحمد بن الفاضل وغيرهم.
بالانتقال إلى الجامعة اليوسفية ستتجلّى في الرجل مَلامح “العبقرية والنبوغ” بتعبير ابن عمه القاضي العلامة أبو بكر المسفيوي، عند قيامه بمهامه كمدرس، وبدوره كصديق لخيرة علماء الجامعة، وبتميزه في الانفتاح على مصادر ومراجع لم يَكن لطلبة العلم علم بها وقتذاك، حتى حلّاه الشاعر عبد القادر حسن العاصمي (توفي سنة 1996) بقوله في “ديوان أحلام الفجر”، ص: 12:
محمدٌ نجلُ عثمان وكعبتنا ** فالابن خيرُ نجيبٍ نجلُ خيرِ أبِ
محمد قمتَ تُعلي الشّعبَ منفردا ** في ذمة المجد كم لاقيت مِن نصبِ
وكان مشهودا له بالأدب والسّعة في العلم والاقتدار العملي والإداري، مَرِحًا مُـحِبّا للنّكتة، وبيته لا يكاد يخلو من جلسات السّمر الفكري والأدبي.
تتالت الأعوام على السيد ابن عثمان وهو في حيوية منقطعة النظير، علميا ومهنيا، إلا أنْ تَـمّت ترقيته بتعيينه رئيسا لجامعة ابن يوسف ومديراً لمجلسها العلمي، فابتدأت مرحلة جديدة في مسار الرجل، متميزة بتميزه وأسلوبه، لما كان عليه من “حيوية ونشاط نادِرين” بتعبير العلامة الجراري في “التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين”، ص: 170، ولما كان يُكِنّـه للجامعة من مَعَزّة وتقدير، إلى درجة عزمه على أنْ لا تَبقى تحت وصاية القرويين وإمرة رؤسائها.
لم تكن مهمة تطوير وتجويد عمل المؤسسة العلمية العريقة بالأمر الهين، في سياق مغرب الحماية، الذي كانت الذهنية العلمية فيه ما تزال تقليدانية في بعض النواحي، ونظرة العلماء إلى القرويين باعتبارها القلعة العلمية العتيدة والقائدة لقطار التعليم والتربية والتكوين والوطنية والتنخيب، في الوقت الذي كان رئيس الجامع اليوسفي يَعتبره “مهبط وحي الأفكار، وملتقى أهل المعرفة الأخيار”، ومِن هنا؛ نشوب المعركة الضارية بين السيد ابن عثمان ومسؤولي القرويين وبعض الأشخاص في الحكومة المغربية وحتى داخل القصر، كان رهان الأطراف فيها؛ إبقاء جامعة ابن يوسف تحت إمْرة ووصاية القرويين، وعدم تمكينها من الطّور النهائي أو شهادة التخرج، وكان رهان الرئيس المتوثب الطّموح، تحقيق الاستقلال المواردي والإداري للجامعة اليوسفية.
ولأنّ السيد ابن عثمان “ذكِي، جالَ وعرفَ كيف يؤدّي مسؤوليته”، حسب عبارة المختار السوسي، في “الإلغيات”، الجزء الثالث، ص: 102 فقد انْبَرى يُري خصومَه وداعميه مقدراته الفائقة على حُسن تدبير المؤسّسة داخليا، وتحقيق إشعاعها خارجيا، واستجلاب العلماء المتنوعي الاختصاصات والتكوين، في نفس الوقت الذي كان يَعكف فيه على قراءة تاريخ الجامعة اليوسفية وتسويد أوراق عنها، سيجعلها في كتابٍ لاحقا، فأحدَثَ في الجامعة اليوسفية “أساليب جديدة في مناهجها ونظام تسييرها”، /انظر: “علماء جامعة ابن يوسف في القرن العشرين”، ص: 204.
ولئن كان قد شُرع في تقديم مقترحات تطوير نظام التدريس بالجامعة اليوسفية منذ سنة 1936؛ إلا أنّ العلّامة محمد بن عثمان يعود إليه الفضل بكونه أول رئيسٍ طَالَب بإحداث القسم النهائي أو التخرج إلى نظام التعليم بجامعة ابن يوسف، واستمات في سبيل ذلك، وحضر عددا لا يُستهان به من اللقاءت، واعتكف يُطالع تجارب مقارنة في التعليم، وسعى جاهدا إلى التخفيف عن طلبة ابن يوسف ما كانوا يُعانونه مِن شَدِّ الرّحال إلى القرويين لنيْل شهادة العالمية والتّخرج، وما يَعنيه ذلك في مغرب الحماية مِن صعوبات ومشاق وتبذير أرزاق أهاليهم.
وبَعد جهاد جهيد، وعمل متواصل مُقنِع؛ صَدر ظهير ملكي بتاريخ فاتح دجنبر 1938 يقضي بجعل جامعة ابن يوسف ذاتية التسيير، معتمِدة نظاما جديدا يَضمّ: الابتدائي؛ وفيه ثلاث مستويات، والثانوي؛ وفيه ست مستويات، ثم النهائي؛ وفيه ثلاث مستويات.
ومرّت أعوام قضت بتجريب هذا النظام، أدارها العلامة ابن عثمان بما يَلزم من الحكمة والإتقان والوطنية، حتى أهلّت سنة 1946 فكان تخرُّجُ أوّل فوج حاصِل على شهادة العالمية من ابن يوسف، كما كان يحصل أمثالهم على شهادة العالمية من القرويين. وظلّت الأفواج تتخرج سنويا، إلى أن كانت سنة 1958 حيث اعتمدت طريقة أخرى في التخرج من النهائي، تقضي بذهاب طلبة الجامعة اليوسفية إلى مدينة الرباط للمشاركة في امتحان نيل شهادة العالمية، تحت إشراف نخبة من علماء ابن يوسف والقرويين.
لم تنقطع دينامية الرئيس ابن عثمان بمجرّد انطلاق العمل بالمناهج والبرامج الجديدة، ونيْل شرف التخرج من الجامعة اليوسفية مباشَرة؛ حيثُ نَشِطَ في مجال تحبيس الكتُب على مكتبة ابن يوسف، فكان لا يهدأ في البحث عن المحسنين والمتبرّعين، وفي فهرست الخزانة وتبويبها وتقريب المصادر والمخطوطات من الطلبة. وبادر بشراء مطبعة دفع فيها من حُرّ مالِه 10 ألف فرنك، ثم شرع في البحث عن شريك لتطوير المطبعة التي أتى بها من عاصمة لبنان، وجعْلها رهن إشارة موظّفي وعلماء وطلبة مدرسة ابن يوسف. وحرص على تقديم تقارير سنوية عن تطوّر الجامعة وحصيلة أعمالها وعلمائها وخريجيها في اللقاءات السنوية بحضور السيد رئيس جامعة القرويين مع السلطان محمد الخامس رحمه الله.
وبُرورًا بواجب مسقط الرأس عليه؛ طمح في أن تكون لمراكش مجلة أو جريدة تَصدر منها على غرار مدن تطوان وسبتة وطنجة وفاس والدار البيضاء، إلا أنّ هذا الحلم لم يتحقّق على أرض الواقع. فانبرى يستعمل قلمه في تسويد المؤلفات لفائدة الأجيال، مخلّفا لنا بَعض المحاولات في الشِّعر، وكتاب بعنوان “الرسالة التفسيرية”، وآخر بعنوان “كوكب المدلج الساري في حدائق رجال البخاري”، إضافة إلى “الرحلة الحجازية”. كما عنِيَ بتحقيق المخطوطات، وأخرجَ لنا مخطوط “المنتقى المقصور في مآثر ودولة أبي العباس المنصور”.
لقد أدّى السيد محمد المسفيوي واجباته تجاه الجامعة وأخلَص فيها، وخَلقت له من الحزازات والمشاكل بقدر ما نوهّت بجهوده أعلام وأقلام، وكان شديد الفخر بمظاهر النهضة العلمية للجامعة اليوسفية طوال أطوار التاريخ، خلّدها في كتاب نفيس عنوانه “الجامعة اليوسفية في تسعمائة سنة” طبَعه أوَل مرة سنة 1937. واستعاد الجامع اليوسفي تحت قيادة ابن عثمان إشراقه باعتباره مِن أعظم مراكز الثقافة الدينية والإشعاع الروحي والعلمي في العالم الإسلامي.
وبعد مسيرة ملؤها التفاني والإخلاص وإعمال التفكير فيما يلزم من الابتكار والتطوير؛ تُوفي العلّامة ابن عثمان سنة 1945 في حفل عشاء أقامه على شرف نخبة من العلماء والسادة الفقهاء “ورجال الحكومة بمراكش”، “فأصابته سكتة قلبية وهو في وَسَطهم”، على حد تعبير “إتحاف الـمُطالِع..” ص: 501. رحمه الله وخلّد في الصالحات ذكره وأعماله.
المصادر: مواقع إلكترونية عربية