جوادين عربيين و”كنوز ذهبية” و كميات من اللؤلؤ الثمين.. ما قصة “سلطانة” أول سفينة عربية تصل نيويورك محملة بالهدايا قبل 200 عام؟

لم يكن السفير العُماني أحمد بن النعمان الكعبي يعرف أن الرئيس الأمريكي هو مجرد موظف مدني لا يتقبّل الهدايا الثمينة، وكان عليه أن يبحث في هذا المضمار قبل أن يشرع في رحلته البحرية من مسقط إلى نيويورك حاملا هدايا السلطان سعيد على متن سفينته، وهي عبارة عن جوادين عربيين وسبيكة من الذهب الخالص وسيف مرصع بالذهب، وعدد كبيرا من الأحجار الكريمة وحبّات اللؤلؤ وما إلى ذلك.

تُرى ما الذي سيحدث، هل يرفضها الرئيس الأمريكي، أم أنّ الإدارة الأمريكية ستجترح قرارا خاصا بقبول هذه الهدايا والتعامل معها بطريقة تنسجم مع الأعراف والتقاليد الديمقراطية التي لا يُثري فيها المسؤول الأمريكي بسبب المنصب الذي يتقلّده؟

ربما تكون “الهدايا الثمينة” هي مفاجأة هذا الفيلم الوثائقي، ولولاها لخلت القصة من أي بُعد درامي وتحولت إلى حكاية مسطّحة لا معنى لها.

تتمحور فكرة الفيلم على وصول “سلطانة”، وهي أول سفينة عُمانية عربية تعانق ميناء نيويورك في 13 أبريل/نيسان سنة 1840 في عهد السلطان العُماني سعيد بن سلطان (1807- 1856م)، وقد كان الهدف من هذه الرحلة هو تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين عُمان والولايات المتحدة الأمريكية، وتسليم هدايا السلطان الثمينة إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “مارتن فان بيورين”، وبيع البضائع التجارية التي أخذوها على متن سفينتهم، ثم العودة إلى زنجبار بعد رحلة طويلة وشاقة لا تخلو من الصعوبات والتحديات.

تقول التوطئة السردية والبصرية التي استهلّ بها الزدجالي فيلمه الوثائقي القصير أشياء كثيرة، من بينها “اللهمّ أخرجنا من هذا الضيق إلى أوسع الطريق”، في إشارة واضحة إلى الأخطار الجدية التي تهدد الرُكّاب على متن السفينة.

كما يطل حاجب السلطان الخاص من رجاله إيقاظ سليمان من نومه قائلا: هيّا، أيقظوا سليمان حالا ونادوا عليه، إذا لم يكن هنا الآن فمتى يكون؟

سلطانة

يزوِّدنا المخرج ببعض المعلومات عن السفينة “سُلطانة” التي تُعد رمزا للسيد سعيد، وهو سلطان عُمان وزنجبار، فقد بنيت على الطراز الأوروبي في حوض مازَغون بمدينة بومباي في الهند عام 1833، ثم أضيفت إليها بعض اللمسات والرتوش العربية في ميناء مسقط، ووصفت أشرعتها بأنها تحتضن الريح مُوجهة إياها إلى حيث تريد.

تُبحر سلطانة من ميناء مسقط لتحمل الهدايا والبضائع للاتجار بها في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعدها تنطلق لترسو في زنجبار لتحمل بعض الهدايا الثمينة إلى الرئيس الأمريكي الثامن “مارتن فان بيورين”.

لمع نجم “سُلطانة” حينما تمكنت من إنقاذ سفينة پيكوك التي جنحت عند جزيرة “مصَيرة” وكادت أن تغرق، غير أن السلطان سعيد أمر بإرسال السفينة سُلطانة لإنقاذ پيكوك وسحبها إلى مسقط في رحلة محفوفة بالخطر، وكانت هذه أولى ثمار المعاهدة التجارية بين الطرفين.

ثمة إشارة إلى توسّع الإمبراطورية العُمانية آنذاك وامتدادها من ميناء بندر عباس على ضفاف الخليج العربي إلى ميناء زنجبار على الساحل الشرقي لأفريقيا، بالإضافة إلى بعض الجزر الواقعة في الخليج العربي والمحيط الهندي.

أمّا أملاك السلطان الشاسعة فقد امتدت من بلوشستان حتى زنجبار لتصل إلى ديلجادو في موزمبيق، وصولا إلى مملكة أوغندا، وتمتد غربا حتى أعالي الكونغو (زائير حاليا).

إبحار السفينة

من أجل تنشيط التجارة مع الولايات المتحدة الأمريكية قرر السلطان إرسال السفينة سُلطانة إلى العالم الجديد بعد أن اختار سكرتيره الخاص أحمد بن نعمان الكعبي المبعوث الذي يمثّله في تلك المهمة الرسمية.

انطلقت السفينة سلطانة في 23 ديسمبر/تشرين الثاني سنة 1839 بعد أن شُحنت ببضائع كثيرة، ثم اتجهت إلى زنجبار لتأخذ مزيدا من البضائع. وفي أوائل فبراير/شباط من سنة 1840 غادرت زنجبار لتعبر المحيط الأطلسي متجهة إلى العالَم الجديد

يُحيطنا المخرج علما بما يحدث على متن السفينة سلطانة في رحلتها الطويلة، حيث يستغرق البعض منهم في النوم ساعات طوالا في النهار، أو أداء الصلوات النوافل والتسبيح، وفي الليل كان البعض الآخر منهم يلهو كل بطريقته الخاصة، فالأفريقيون كانوا يتسلون بالرقص العنيف على ضربات الطبول القوية، وكان العرب أو الهنود ينشدون أغاني شجية من بلادهم، وكان البعض الآخر يسردون القصص البطولية التي ترتقي إلى درجة الخيال الشبيه بأساطير الشرق.

وجوه عربية غريبة على رصيف نيويورك

كان “وليام سليمان” قائد السفينة الإنجليزي المخضرم يجلس على الدفّة متطلعا إلى الأفق البعيد، يمعن النظر في النجوم، ويتأمل في الليل الساحر. تصعد على ظهر السفينة في مسقط سيدتان إنجليزيتان وهما السيدة “روبرت نورث” زوجة تاجر إنجليزي في مسقط، ووصيفتها “شارلوت ثومبسون”، وبينهم جميعا يقف أحمد بن النعمان منتصبا بكامل أناقته اللافتة للانتباه.

تتوقف السفينة في ميناء “سانت هيلينا” للتزود بالمؤن التي نفدت خلال الرحلة الطويلة، ثم تواصل رحلتها من جديد صوب هدفها الرئيسي نيويورك.

في الأسفار تظهر معادن الرجال، فربّان السفينة الإنجليزي “وليم سليمان” الثمل دائما أوشك على أن يودي بحياة الجميع في وقت العاصفة، لكن الضابط محمد بن جمعة هو الذي تدارك الموقف وأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح، فنال استحسان سفير السلطان وسكرتيره الخاص.

حينما وصلت السفينة بأمان؛ اندفع كثير من أبناء نيويورك إلى رصيف الميناء ليلقوا نظرة على السفينة العربية وطاقمها غير المألوف بالنسبة لهم، وصارت هذه السفينة مادة جديدة للإثارة الصحفية، فالعرب يفتلون شواربهم، ويستغربون من نظرات التعجب التي تبدو على وجوه الأمريكيين الذين طالبوا الحكومة بتقديم كل التسهيلات اللازمة لهذه البعثة التي أرسلها الحاكم العربي لتعزيز التجارة مع العالم الجديد.

قطار هارلم ومعالم نيويورك وضواحيها

لعل أجمل ما في هذا الفيلم الوثائقي هو مفارقة الهدايا التي جلبها السكرتير إلى الرئيس الأمريكي “فان بيورين”، وطلبوا منه أن يتفضل بقبولها، غير أنّ السيد “رانشو” العميد البحري سارع إلى إبلاغ هيئة نواب الحاكم بأمر الهدايا، مما وضعهم في دائرة الإحراج.

يتضمن برنامج الاستقبال تكريم أحمد بن نعمان الكعبي والضابطين اللذين كانا يرافقانه، حيث شاهدوا معالم مدينة نيويورك وضواحيها، وركبوا في قطار هارلم

ثم تُوجت الجولة بعشاء رسمي في قاعة مجلس المدينة، إلى أن انتهى بهم المطاف ضيوفا عند العميد البحري “رانشو” بعد أن أمر بإصلاح سفينتهم إصلاحا شاملا، وذك كرد للجميل الذي قدّمه السيد سعيد بن سلطان للسفينة پيكوك في مسقط.

أحمد بن النعمان

لا ينبغي للفيلم الوثائقي أن يخطأ في التوثيق، لكن ما لفت انتباهي حقا قول المخرج للضيف العربي أحمد بن النعمان بأنّ الرسام “مونيه” يريد أن يخلّدك في عمل فني، ويبدو من الصورة المرفقة التي جلبها من الأرشيف بأنه يعني الفنان الفرنسي “كلود مونيه”.

وهذا خطأ كبير لأن الفنان الذي رسم السفير العُماني أحمد بن النعمان هو الفنان الأمريكي “إدوارد لودلو موني” الذي رسم له هذا البورتريه الشهير، وقد اقتُني من قبل مجلس مدينة نيويورك بمبلغ 500 دولار بعد مغادرة السفينة بأيام قلائل، ولا أدري كيف يقع مخرج الفيلم والباحث الذي ساعده في عملية البحث والتقصي على تثبيث هذه المعلومة.

لم يكن الجانب الوحيد هو تعزيز العلاقات على الرغم من أهميتها، لكن الجانب التجاري كان مهما هو الآخر، فقد بيعت البضائع بطريقة سريعة ومرضية.

وجدير بالذكر أن “كلود مونيه” قد وُلد في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1840 في باريس، وتوفي في 5 ديسمبر/ 1926م في جيفرني، وأن رحلة السفينة سلطانة قد انطلقت في 23 ديسمبر/ سنة 1839م، ووصلت إلى نيويورك في 13 أبريل/نيسان سنة 1840، فكيف يكون “كلود مونيه” رسّام هذه اللوحة وهو لم يجتز شهره السابع بعد؟

الرئيس لا يمكنه قبول الهدايا القيّمة

بما أن الجانب التجاري ليس شغل السكرتير الشاغل، وإنما كان همّه الأساسي هو إيصال الرسالتين من السلطان سعيد بن سلطان إلى الرئيس الأمريكي “مارتن فان بيورين” التين تعبِّر إحداهما عن مشاعر الود والصداقة للرئيس وللشعب الأمريكي.

أما الرسالة الثانية فهي تتعلق بالهدايا المرسَلة من السلطان سعيد بن سلطان التي وصلت إلى المعنيين واشتملت هذه الهدايا على فرسَي سباق نجديّين، وسيف مرصّع بالذهب وعقد لؤلؤ، وحبتّي لؤلؤ كبيرتين بحجم الكُمثرى، و120 قطعة من الأحجار الكريمة الملونة، وسبيكة من الذهب الخالص، وسجادة حريرية فارسية، إضافة إلى ست عباءات كشميرية.

لكن كيف ستحل هذه المشكلة، فقد سلم سكرتير الدولة خطابا للسلطان سعيد بن سلطان من الرئيس الأمريكي مفاده: لقد كان من دواعي سروري أن يقوم بين عُمان والولايات المتحدة الأمريكية ما نوده دائما من صلات مفيدة في مجالات متعددة.

وورد في الخطاب أيضا: إنّ الرئيس -باعتباره موظفا مدنيا- لا يمكنه قبول الهدايا القيّمة، وأعرب عن تمنياته الطيبة بالصحة والسعادة لجلالة السلطان والسعادة والاستقرار لشعبه.

بيع الهدايا الثمينة في المزاد العلني

في 14 مايو/أيار قام أحمد بن النعمان بإعداد خطاب لسكرتير الدولة “فورست”، يذكِّر فيه أن السلطان سعيد لم يكن يعرف الصعاب المتعلقة بقبول الهدايا، وأنه يشعر بأنه سيكون قد نفذّ أوامر السيد سعيد إذا ما اعتُبرت هذه الهدايا مُقدّمة لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وطلب من الرئيس أن يتخذ اللازم بصدد قبولها على هذا النحو، لأنه لا يستطيع أن يعيد الهدايا.

أحال الرئيس المراسلات إلى الكونغرس مُقترحا إصدار تشريع خاص بذلك، وقد أخذ الردّ والجذب في الكونغرس وقتا طويلا بين مؤيد ومعارض، وفي 8 يوليو/تموز صدر قرار يسمح لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية باستلام الهدايا وإيداع حصيلة بيعها بالمزاد العلني في خزانة الدولة.

قائد السفينة السلطانية في رحلة الشرق

انتهت الرحلة وحان وقت الرحيل، وبدأ أحمد بن النعمان في البحث عن قبطان أمريكي ليقود السفينة أثناء العودة، ووقع الاختيار على القبطان “ساندوث درنكر” الذي يبلغ من العمر 32 عاما، ورغم سنّه الصغير فإن سجله كان عامرا بعدد من الرحلات البحرية الموّفقة.

وكان العرض سخيا للقبطان “درنكر” الذي كان متزوجا لتوّه، ويحتاج إلى مزيد من الأموال لإعالة أسرته، فقَبِل العرض. وفي 9 آغسطس/آب انطلقت سلطانة من ميناء نيويورك مارة بالقرب من السفينة التجارية الضخمة گريت ويسترن مفخرة الأسطول الأمريكي، فأطلقت سلطانة ثلاث صافرات لملكة البحر، وردّت گريت ويسترن على التحية بمثلها.

وصلت السفينة إلى زنجبار في 8 ديسمبر/كانون الأول، ولم تتوقف خلال الرحلة إلا مرة واحدة في مدينة كيب تاون، لكن قبل وصولها أصيب الضابط المحبوب محمد جمعة بأزمة قلبية وسقط في الماء، ومات غريقا في البحر، وقد انتهت مسيرة سلطانة بعد رحلات متعددة قامت بها حتى عام 1855، حيث غرقت عند عودتها من الهند على مرمى النظر من الجزيرة الخضراء بمبا، ولم يكن بالإمكان إنقاذها، فغرقت وأصبحت أثرا بعد عين.

 

عصارة ثلاثين عاما من الصناعة السينمائية

يروي المخرج خالد الزدجالي في فيلم “سلطانة” قصة أول سفينة عُمانية عربية تُبحر إلى ميناء نيويورك والصعاب التي واجهتها في رحلتي الذهاب والإياب، والهدايا الثمينة التي قدّمها السلطان سعيد للرئيس الأمريكي “مارتن فان بيورين” الذي لم يقبل استلامها إلاّ بعد أن أصدر الكونغرس قرارا بقبول الهدايا الثمينة، شرط أن تُباع في مزاد علني وتوضع الأموال في خزينة الدولة

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المخرج خالد الزدجالي قد أنجز عددا من الأفلام الروائية، نذكر منها “البوم” (2006) و”أصيل” (2012) و”زيّانة” (2019).

وأخرج فيلمين تلفزيونيين هما “العرس” (1990) و”المناطحة” (1993)، إضافة إلى فيلم وثائقي بعنوان “اليمن من الدمار إلى الإعمار” (1995)، كما ألّف عدة مسرحيات ومسلسلات تلفزيونية، ونال عددا من الجوائز والتكريمات في مهرجانات محلية وعربية ودولية.

المصادر : مواقع الكترونية عربية – الجزيرة الوثائقية

Exit mobile version