تدين البشرية -بعد بعثة النبي الكريم محمد ﷺ- بالفضل العظيم لامرأتين ساهمتا في حفظ الرسالة النبوية على الوجه الذي تمّت به؛ إذ كان لإحداهما فضل رعاية الرسول الكريم وتهيئة الأسباب المعينة له على تبليغ رسالته، وكان للأخرى شرف حفظ هذه الرسالة ونقلها إلى أجيال الأمة المتعاقبة، حتى قال عنها الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: “لا أعلم في أمة محمد ﷺ -بل ولا في النساء مُطْلقا- امرأةً أعلمَ منها”!!
وبين هاتين الشخصيتين العظيمتين دارت رحى الإسلام وسارت ركابه في شتى مناكب الأرض؛ فقد كانت خديجة بنت خُوَيْلد (ت 3 ق.هـ/619م) -رضي الله عنها- السند الذي يأوي إليه النبي ﷺ فظلت تثبّته وتنصره، ولم ينسَ لها ذلك العطاء على مدى السنين فكان لا يفتأ يعدّ فضائلها عليه، ويقول: “آمنتْ بي إذ كَفَر بي الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حَرَمني الناس” (رواه أحمد في المسند). أما عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- فكانت العين الراصدة ليوميات صاحب الدعوة ﷺ والتلميذة النجيبة الأولى في مدرسة النبوة.
نشأة فريدة
بعد وفاة خديجة -رضي الله عنها- ألحّ على النبي الكريم سؤال الزواج مجددا؛ فقد تركت له عيالا يحتاجون إلى رعاية، فوقع اختياره على سوْدة بنت زَمْعة (ت 54هـ/675م) -رضي الله عنها- وكانت امرأة ثيّبا تحسن تدبير البيت والعناية بالأبناء، وكانت مع ذلك امرأة حلوة الفكاهة “تضحكه (أي النبي ﷺ) الأحيان بالشيء”؛ كما يقول الإمام الذهبي في ‘السِّير‘. فبقي معها النبي ﷺ ثلاث سنوات متفرغًا لأمور الدعوة والترتيب للهجرة استعدادًا لبداية جديدة في مسيرة رسالته.
ولما استقر المقام بالنبي عليه السلام في المدينة؛ وجد شخصية عبقرية بالقرب منه ذات خصائص نوعيّة تمكنها من حفظ ميراث النبوة، ومستعدة كل الاستعداد لتلقي العلم ونقل مروياته من بعد وفاته ﷺ؛ ولم تكن هذه الشخصية سوى الفتاة النابغة في بيت صاحبه ورفيقه في الهجرة أبي بكر الصدّيق (ت 13هـ/635م)؛ إنها ابنته عائشة التي كان الإمام التابعي الشَّعبي (ت 103هـ/722م) عندما يذكرها يتعجب من دقة فقهها وسعة علمها، ثم يقول: “ما ظنكم بأدب النبوة”؟!
نشأت عائشة -رضي الله عنها- في بيت خُلْوٍ من الجاهلية، تعمّه المودة والرحمة والحماسة للدين الجديد؛ فقد تزوج أبوها أبو بكر التيْمي القرشي أمَّها أم رُومَان الكِنانيّة (ت 6هـ/628م) التي جاءت إلى مكة من ديار قومها في السَّراة (= منطقة جنوب مكة) مع زوجها عبد الله بن الحارث، الذي حالف أبا بكر ثم لم يلبث أن توفيَ عنها؛ فبادر حليفه رجل قريشٍ النبيل إلى الزواج من هذه السيدة الغريبة التي لم يعد في مكة لها نصير، وعاملها بمقتضى المروءة والعطف فأسلمت وحسن إسلامها، وكانت عائشة ثمرة هذه الأسرة الطيبة.
نمت عائشة في بيت يذود عن الرسالة وصاحبها ﷺ، وفي ذلك تقول: “لم أعقل أبويَّ قَطُّ إلا وهما يدينان الدين”؛ (رواه البخاري في صحيح). فشهرة أبيها أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- وبلائه في خدمة الإسلام كشُهرة الإسلام نفسه.
أما أمُّها أمُّ رُومَان الكِنانيّة فقد ودّعها النبي الكريم ﷺ يوم دفنها بيديه الشرفيتين -سنة 6هـ/628م- وهو يقول: “اللهم إنه لم يَخْفَ عليك ما لَقيتْ أم رومان فيك وفي رسولك”؛ وفق ما أورده الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘الإصابة في تمييز الصحابة ‘.
تكوين أدبي
تولى أبوها تعليمها؛ إذ لم يكن منشغلا بما انشغل به أبناء الأسر القريشية الكبرى من بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم، فتفرّغ لتجارته وإصلاح أهل بيته. فأخذت عنه عائشة علوم قومها من فصاحة وشعر، ومعرفة بأيام العرب، وعلم بالأنساب وكان أبو بكر “أنسبَ قريش لقريش”؛ كما يقول ابن هشام الحمْيري (ت 218هـ/833م) في ‘السيرة النبوية‘.
وبلغت في كل تلك الفنون الغاية؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله كثيرا ما يقول لي: يا عائشة! ما فعلت أبياتك؟ فأقول: وأيّ أبياتي تريد يا رسول الله، فإنها كثيرة” (رواه الطبراني في ‘المعجم الصغير‘).
وروى ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ‘زاد المعاد‘- أن الإمام أبا الزِّناد المدني (ت 130هـ/749م) قال: “ما رأيتُ أروى للشعر من عروة (بن الزبير المتوفى 94هـ/714م)؛ فقيل له (= عروة): ما أرْواك [للشعر] يا أبا عبد الله! فقال: ما روايتي في رواية عائشة [وكانت خالته]؟! ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدتْ فيه شعراً”!!
ويكفي لبيان مهارتها في مرويات الشعر ونقده أنها كانت حَكَماً للشعراء الشباب من أبناء الصحابة في مشاعراتهم؛ فقد أورد شيخ المفسرين والمؤرخين الطبري (ت 310هـ/922م) -في ‘تهذيب الآثار‘- أن عروة بن الزبير ومروان بن الحَكَم (ت 65هـ/685م) تَناشَدا في بيتها مرةً الأشعارَ وكانت تسمتع إليهما من وراء حجاب، وفي نهاية منافستهما حكمت لمروان بمقتضى الموهبة الشعرية على ابن أختها عروة الذي خاطبته قائلة: “إن لمروان في الشعر إرْثاً ليس لكَ”!!
وقد كان عروة بن الزبير ثمرة من ثمرات خالته عائشة ومن تلاميذها النجباء، وبلغ من علمه أن كبار الصحابة كانوا يسألونه عن أمور دينهم، وهو القائل: “ما ماتت عائشة حتى تركتها قبل ذلك بثلاث سنين”؛ حسب الإمام المزي (ت 742هـ/1341م) في ‘تهذيب الكمال‘. ويروي الذهبي -في السِّير- عن هشام بن عروة (ت 145هـ/763م) هذا قوله: “ما رأيت أحدا من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة، ولا بحلال ولا حرام، ولا شعر ولا بحديث العرب ولا النسب؛ من عائشة”.
مؤهلات فطرية
امتلكت عائشة استعدادين اثنين جعلاها وعاءً للعلم النبوي، أما الأول فاستعداد فطريّ لسرعة الحفظ وحسن الفهم وجودة التعبير عن نفسها؛ فليس من المبالغة وصفها بأنها كانت تملك ذاكرة صمغيّة يلصق بها كل شيء، ولذا كانت تحفظ الحديث لأول مرة كما حصل في حكايتها لموقعة الجمل سنة 36هـ/657م، وروايتها للأشعار التي كان يرتجز بها بنو ضبّة الذين كانوا يحمون هودجها والموت يطوف بها!
وكان من سرعة فهمها عن الرسول ﷺ وحسن بيانها ما رواه البخاري (ت 256هـ/870م) عنها: “أنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النبيَّ ﷺ عن غُسْلِهَا مِنَ المَحِيضِ، فأمَرَهَا كيفَ تَغْتَسِلُ، قالَ: خُذِي فِرْصَةً (= قطعة صوف أو قطن) مِن مَسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بهَا قالَتْ: كيفَ أتَطَهَّرُ؟ قالَ: تَطَهَّرِي بهَا، قالَتْ: كيفَ؟ قالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، فَاجْتَبَذْتُهَا إلَيَّ فَقُلتُ: تَتَبَّعِي بهَا أثَرَ الدَّمِ”. فحصل لها المعنى الذي يقصده النبي ﷺ، ولم يمنعها الحياء الذي صرف النبيَّ ﷺ عن التصريح بالمعنى؛ فالتقطته عائشة وأدته على أكمل وجه.
وقد كان تلميذها الأول عروة يعجب من موسوعيتها، ويستغرب من إحاطتها بعلوم شتّى ولا سيما الطب؛ فقد روى الإمام أحمد (ت 241هـ/855م) -في ‘المسند‘- أن عروة قال لها مرة: “يا أمتاه! لا أعجب من فهمك [لأني] أقول: زوجة رسول الله ﷺ وبنت أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس [لأني] أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عُرَيّة (= تصغير عروة) إن رسول الله ﷺ كان يسقم عند عمره أو في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات (= الوصفات الطبية التقليدية) وكنت أعالجها له؛ فمن ثـَمَّ” علمتُ الطب.
وقولها “فمن ثـَمَّ” هو غاية ما نريد الاحتجاج عليه؛ فكأنها تقول ليس بيني وبين إتقان صنعة سوى أن أجربها مرة واحدة. وتؤيد هذا رواية أخرى أوردها الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘: “عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أعلم بالطب من عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا خالة، ممن تعلمت الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه”.
أما الاستعداد الثاني فهو قدرتها على توجيه وتطويع طباعها الشخصية من غيرة وحدّة وجرأة من أجل القيام برسالتها. فقد كانت عائشة من أشد النساء غيرة، وهذا أمر مفهوم لكونها وحيدة أمها المدللة، إذ لم تشركها فتاة أخرى في عائلتها وجاءت بين صبييْن. ولما صارت عند النبي ﷺ كانت هي المقدَّمة دائمًا. فمفهوم المنافسة مفهوم واردٌ عليها لم تعالجه في بداياتها، ومن ثمَّ كانت شديدة الغيرة.
وقد حملتها تلك الغيرة على تلطيخ وجه سودة التي كانت عائشة تقدّرها، وتمنت أن تكون مثلها فقالت مرة: “ما رأيتُ امرأة أحب إليّ أن أكون في مِسْلاخِها (= أكون نسخة منها) من سودة بنت زمعة” (رواه مسلم في صحيحه). وكذلك كسرها طبقا لإحدى أمهات المؤمنين أهدت فيه طعاما إلى النبي ﷺ وأصحابه وهم في بيت عائشة، فقال ﷺ: “غارتْ أمُّكم” (رواه البخاري). ومن ذلك أيضا غيرتها من كُـنَى صواحبها؛ ففي ‘سنن أبي داود‘ أنها قالت: “يا رسول الله، كل صواحبي لهنّ كنى! قال: فاكتني بابنك عبد الله”؛ يقصد ابن أختها أسماء: عبد الله بن الزبير، فكانت عائشة تكنى بـ”أم عبد الله”.
استثمار للمواهب
لكن الغيرة التي كانت لا تدانيها غيرة في نفس عائشة هي غيرتها من خديجة عليها السلام، رغم أنها لم تدرك حياتها؛ ويلخص ذلك هذا الحديث الذي أخبرت به عائشة ذات يوم فقالت حسب رواية الإمامين أحمد والطبراني (ت 360هـ/971م): “كان رسول الله ﷺ لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيُحسن الثناء عليها؛ فذكرها يوما من الأيام فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً أبْدَلَكَ اللهُ خيرًا منها؟!”، وقصدتْ بذلك البديل نفسها.
كانت عائشة تعرف أنها لن تغلب على قلب النبي ﷺ وتنافس خديجة بالشعور العاطفيّ الصِّرف، لمعرفتها أن تعلقه عليه السلام بخديجة تعلقُ محبةٍ وإعجاب، ومن ثمَّ صارت تسعى لتحصيل المناقب المستوجبة للإعجاب، فأقبلت على التعلّم والتزوّد من نبع النبوّة، حتى تشعر زوجها عليه السلام بأنه مع تقدّم خديجة عليها في توفير العون والرعاية للنبي ﷺ في تأدية الرسالة، فإنها قادرة على لحاقها بحفظ رسالته من بعده وإيصال تعاليمها إلى الناس.
أما حدتها وجرأتها فما أشبه البنت بأبيها؛ فما بالك بحدة يخافها مثل عمر الفاروق (ت 23هـ/645م): “كنت أراعي حدة أجدها في أبي بكر”. وهذه الحدة هي التي حملت عائشة -حين أمرتها أمها بالقيام إلى النبي ﷺ وشكره بعد بشارته لها بنزول الوحي ببراءتها من تهمة أصحاب الإفك لها- على أن تقول بكل حدة: “والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله”! (صحيح البخاري).
لم يكن أحد يستطيع التصدي لها ساعة حدتها أو يقدر على إسكاتها؛ ففي الصحيحين أن زوجات النبي ﷺ أرسلن ابنته فاطمة (ت 11هـ/633م) ثم زوجته زينب يسألنه أن يعاملهن معاملته لعائشة، فلم تلبث زينب أن وقعت في عائشة واستطالت عليها، وعائشة تنظر إلى النبي ﷺ فلما رأته لا يكره أن تدافع عن نفسها، ردّت عليها بقوة حتى أسكتتها. تقول عائشة: “فلما وقعتُ بها لم أنشبها (= أمهلها) حتى أنحيت عليها”، فتبسم النبي ﷺ وقال: “إنها ابنة أبي بكر”!! إعجابا بـ”كمال فهمها وحسن نظرها”؛ كما يقول الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) في ‘شرح مسلم‘.
لقد حوّلت عائشة هذه الطباع في شخصيتها إلى جرأة في تبليغ العلم، فكانت روافدَ رئيسية لملكتها النقديّة وخلافها مع الصحابة في مسائل العلم. كما أنها مكنتها من رواية خصوصيات حياة النبي ﷺ معها، دون أن يمنعها الخجل من تأدية تلك المعاني التي قد يتردد غيرها في التعبير عنها. ولذلك نجدها تحكي عن تقبيل النبي ﷺ لها ومصِّه للسانها؛ فقد جاء في ‘سنن أبي داود‘ (ت 275هـ/888م): “كَانَ [النبي ﷺ] إِذَا قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ مَصَّ لِسَانَهَا”.
وكانت تقصد نفسها في هذا الحديث؛ حسبما يقوله العلماء ومنهم الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) الذي يقوله في ‘الطب النبوي‘: “كان رسول الله ﷺ يلاعب أهله ويقبلها، وروى أبو داود في سننه: أنه ﷺ كان يقبل عائشة ويمص لسانها”. وكذلك حديثها عن مسابقات النبي ﷺ لها فكانت في البداية تسبقه لخفة جسمها، وفيه قالت: “حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني” (مسند أحمد وسنن أبي داود).
أفق واسع
وما دمنا ذكرنا بعض صفات عائشة الشخصية؛ فينبغي أن نشير إلى معنى فريد فيها وهو استقامتها الإنسانية، ونعني بذلك حسن إدارتها لشعورها وعاطفتها تجاه الآخرين، ومعرفة أين ينبغي أن تتوقف العاطفة ويبدأ العقل.
ولا أوضح دليلا على ذلك من علاقتها بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي كان في نفسها منه شيء، بسبب موقفه منها حين استشاره النبي ﷺ في حادثة الإفك سنة 5هـ/627م فأشار عليه بطلاقها، فصارت بعد ذلك لا تحبّذ ذكر اسمه صراحة.
ومع ذلك فحين يتعلق الأمر بمسألة في الدين، فإنها تحيل عليه لمعرفتها بعلمه وكمال ديانته؛ فعن شريح بن هانئ المذحجي (ت 78هـ/698م) قال: “سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: ائْتِ علياًّ فإنه أعلم بذلك مني” (صحيح مسلم).
ولم تنس لشاعر الرسول ﷺ حسان بن ثابت الأنصاري (ت 54هـ/675م) -رضي الله عنه- خوضه في حادثة الإفك، حتى بعد اعتذاره لها ومدحه إياها؛ ومع ذلك فلم تكن تتحرج من ذكر مآثره ودفاعه عن النبي ﷺ. ولما سبّه ابن أختها عروة بن الزبير في حضرتها قالت له: “لا تسبّه فإنه كان ينافح عن رسول الله” (صحيح البخاري).
ومن نماذج استقامتها الإنسانية وتحكّمها في عاطفتها: ما سبق ذكره من حُكمها المنصف لصالح مروان بن الحَكَم بمقتضى موهبته الشعرية على منافسه ابن أختها عروة. وهكذا كان الإنصاف سلوكًا للسيدة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ومنهجا لا تحيد عنه.
وقد كان من كمال عقلها معرفتها للناس أقدارَهم، وأن لها رأيا دقيقا في مراتب الرجال؛ فقد روى أبو شجاع الديلميّ (ت 509هـ/1115م) -في ‘مسند الفردوس‘- قولها: “زينوا مجالسكم بذكر عمر” بن الخطاب.
وقالت فيما رواه أبو يعلى الموصلي (ت 307هـ/919م) في مسنده: “ثلاثة من الأنصار كلهم من بني عبد الأشهل لم يكن أحد يعتدّ عليهم فضلا بعد رسول الله ﷺ: سعد بن معاذ (ت 5هـ/627م)، وأُسَيْد بن حُضَيْر (ت 20هـ/642م)، وعبّاد بن بشر (ت 11هـ/633م)”. ورغم كثرة خلافها العلمي مع أبي هريرة (ت 59هـ/680م) فإنها كانت تحفظ له مكانته العلمية وفضله، حتى إنها أوصت بأن يصلي عليها عند وفاتها.
عفوية لافتة
ومن المعاني التي نجدها في سيرة هذه المثقفة الموسوعية والعالمة الجليلة بُعدُها عن التصنع في السَّمت الذي ظهر لاحقا في الأوساط العلمية الإسلامية، من تكلّفٍ لاصطناع شخصية رصينة للعالِم أو العالمة تخالف ما طُبع عليه من طبائع بشريّة.
ولذا كانت عائشة –وهي التي يفزع إليها الصحابة لمعرفة أمور دينهم- لا تتحرج من أن تتحدث عن طبيعة المرأة فيها؛ فتقول فيما رواه الذهبي في ‘السير‘: “أتاني رسول الله ﷺ في غير يومي يطلب مني ضَجْعاً، فدقّ فسمعتُ الدق، ثم خرجتُ ففتحتُ له، فقال: ما كنت تسمعين الدق؟ قلت: بلى، ولكنني أحببت أن يعلم النساء أنك أتيتني في غير يومي”!!
مع نشأتها الإسلامية منذ طفولتها كانت عائشة منفتحة اجتماعيًا على أهل الديانات الأخرى؛ فقد صحبت نساء اليهود فكنّ يدخلن عليها ويحدثنها، وربما داويْنها ورقيْنها، ولكن متى اتصل كلامهن باعتقاد أو دين تحركت حاستها النقدية.
فقد روى الإمام مالك (ت 179هـ/795م) -في ‘الموطأ‘- أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي وعندها يهودية ترقيها، فقال أبو بكر: “ارقيها بكتاب الله”. وروى مسلم (ت 261هـ/875م) في صحيحه: “عن عائشة رضي الله عنه: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، قَالَتْ: فَكَذَّبْتُهُمَا…”.
وروى البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘شُعَب الإيمان‘- عن عروة عن عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله: “ردي علي البيتين اللذين قالهما اليهودي؛ قالت: قلت: قال فلان اليهودي:
ارفع ضعيفـَك لا يُحِر بكَ ضعفُه ** يوماً فتُدركك العواقب قد نــَـمَى
يجزيك أو يثني عليك وإن مَن ** أثنى عليك بما فعلتَ فقد جَــــــزَى”.
مَلَكات علمية
ولننظر الآن في ملامح شخصيتها العلميّة وقدرتها الاجتهاديّة في فهم نصوص الشرعية، والأنماط الفقهيّة التي تميّزت بها في صناعة الفتوى. قال ابن القيِّم -في ‘إعلام الموقعين‘- مبينا مكانتها بين كبار المفتين من الصحابة: “والذين حُفِظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيِّف وثلاثون نفْسًا ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعةً: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود (ت 32هـ/654م)، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت (ت 45هـ/666م)، وعبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م)، وعبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م)”.
وروى الترمذي (ت 279هـ/892م) -في سننه- عن أبي موسى الأشعري (ت 42هـ/663م) أنه قال: “ما أشكل علينا -أصحابَ محمد ﷺ- حديثٌ قطّ فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما”. وطبقا لإحصائية قدمها لنا الإمام الذهبي في ‘السير‘؛ فإن مجموع ما روته عائشة من أحاديث النبي ﷺ “يبلغ ألفين ومئتين وعشرة أحاديث، اتفق لها البخاري ومسلم على مئة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين”.
وقد خالفت عائشةُ -رضي الله عنها- كبارَ الصحابة واستدركت عليهم في إحدى وستين مسألة؛ كان حظ أبي هريرة منها ثلاثة عشر حديثًا، ثم عبد الله بن عمر في عشر مسائل، ثم يأتي بعدهما عمر بن الخطاب وابن عباس بثماني مسائل لكل منهما، وتتوزع بقية المسائل على غيرهم من الصحابة.
وقد أحصت هذه المسائل مع أحاديثها الباحثة فاطمة قشوري في كتابها: ‘عائشة في كتب الحديث والطبقات‘. كما ألّف العلماء من قبلُ في هذه الاستدراكات؛ فصنّف فيها أبو منصور البغدادي التاجر (ت 489هـ/1096م) كتابا لم يصلنا، ووضع الإمام الزركشي (ت 794هـ/1392م) كتابه المعنون بـ‘الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة‘.
كانت عائشة واعية بكونها مخزن الهدْي النبوي، ومدركة للحاجة الماسّة إليها لكونها إمامة عالمات النساء، ولأن كثيرًا من مسائل الفقه النسائية تخفى على أصحاب الفتوى من علماء رجال الصحابة. ولذلك نجدها تبادر لنقد عبد الله بن عمرو بن العاص في فتواه التي تبعد عن التخصص، وتغيب عنه فيها تفاصيل تتعلق بالمشقة التي ستعاني منها النساء إن أخذن بها؛ فتصدت عائشة لتخطئته ونقض فتواه مشيرة إلى المشقة المترتبة عليها.
فقد روى مسلم –في صحيحه- عن عائشة أنه بلغها أن “عبد الله بن عمْرو (بن العاص 65هـ/685م) يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن، فقالت: يا عجبا لابن عمرو هذا! وهو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن؛ أفلا أمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟! لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد، فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات”.
تعقيب وتصحيح
كما كان لها منهجية في صناعة الفتوى تميل إلى البحث عن تعليل الأحكام ومعرفة مقاصدها، وقد اتسم منهجها الفقهي بمراعاة حال المرأة والانتصاف لها في الأمور التي تخفى على الرجل فلا يستطيع الاطلاع عليها، أو لا يتمكن من مراعاتها
لخصوصيتها الأنثوية.
ومن ذلك ما تقدم من نقدها لفتوى عبد الله بن عمرو في نقض ضفائر المرأة في الغسل، وفتواها بعدم اشتراط مرافقة المَحْرَم للمرأة في السفر لأنها فهمت أن الحديث الوارد في المحرم مرتبط بتحقق الأمن وطلب سلامة المرأة، وليس لإعاقة حركة المرأة في السفر؛ فقد روى ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) -في ‘المُصَنَّف‘- قال: “ذُكر عند عائشة [أن] المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، فقالت عائشة: «ليس كل النساء تجد مَحْرَماً»”.
وقريب من هذه المسألة مذهبها في عدّة المرأة المتوفى عنها زوجها؛ فحين نجد أن كثيرًا من الصحابة ذهبوا إلى وجوب اعتدادها في بيت زوجها، كانت عائشة تفتي بأنه “يجوز للمرأة المتوفى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت”؛ كما في ‘مصنف ابن أبي شيبة‘. واستدلت لفتواها بعدم تخصيص القرآن مكانا لقضاء عدتها رغم تخصيصه لوقتها.
وخالفت عائشة بعض الصحابة في فهمهم الحرفيّ لحديث لعْن النامصات والمغيّرات لخلق الله، بحيث منعوا أن تزيل المرأة أي شعر ينبت في جسمها ووجهها. وكانت ترى -بذوقها النسائي- أن هذا ليس داخلا في تغيير الخِلقة ولا في خداع الخاطبين، وإنما هو مسألة نظافة شخصيّة، وقضية جماليّة فُطرت عليها النساء.
ولذا كانت تقول لمن جاءت تستفتيها عن هذا: “أميطي عنك الأذى وتصنّعي لزوجك” (رواه عبد الرزاق في ‘المصنف‘). وفي صحيحيْ البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عمر أن رسول الله قال: “لأن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحاً ودماً خير من أن يمتلئ شِعْراً”! فقالت عائشة: “لم يحفظ [أبو هريرة]! إنما قال: من أن يمتلئ شِعراً هُجِيتُ به”.
كانت عائشة غواصةً على المعاني وفهم الأحاديث في سياقاتها، ولذلك نجدها تشير إلى أن الهجرة كان معنًى زمنيا مرتبطا باضطهاد المسملين؛ فقد روى عبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ/826م) -في ‘المصنّف‘- أنها سُئلت: متى الهجرة؟ فقالت: “لا هجرة بعد الفتح، إنما كانت الهجرة قبل الفتح حين يهاجر الرجل بدينه إلى رسول الله، وأما حين كان الفتح فحيث ما شاء الرجل عَبَدَ اللهَ لا يضيع”.
ولما أكثر الناسُ الكلام في مسألة الغسل قبل الذهاب إلى صلاة الجمعة؛ أشارت إلى سياق الحديث قائلة: “كان أصحاب رسول الله ﷺ عمالَ أنفسهم، وكان يكون لهم أرواح (= روائح)، فقيل لهم: «لو اغتسلتم»” (صحيح البخاري). في إشارة إلى أنه كان توجيها للعمال الذين يأتون إلى الصلاة من أماكن عملهم وقد تغيّرت رائحة أجسامهم وثيابهم، حتى لا يؤذوا المصلين بها.
ضوابط منهجية
كانت عائشة واعية بتراتبيّة الأدلة في قوتها، فالقطعيّ مقدّم على الظنّي وعليه فإن القرآن يُقدّم ولا يتقدّمه شيء، ومتى تعارضت الرواية الحديثيّة مع النص القرآني أخّرت الأخذ بالحديث، لاحتمال ورود الخطأ على الراوي واستحالة وروده في القرآن.
فعن عروة بن الزبير قال: بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: “وَلَدُ الزنا شرُّ الثلاثة”؛ فقالت: يرحم الله أبا هريرة! أساء سمعاً فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل من المنافقين يؤذي رسول الله ﷺ، فقال: من يعذرني من فلان؟ قيل يا رسول الله، إنه -مع ما به- ولدُ زنا، فقال رسول الله ﷺ: “هو شرُّ الثلاثة”، والله عز وجل يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة فاطر/ الآية: 18] (أخرجه الطحاوي في ‘مُشكِل الآثار‘ والحاكم في ‘المُستدرَك‘).
تميزت عائشة بعقلية نقديّة وأسست مدرسة في النظر في متون الأحاديث ونقدها، وهي مدرسة مالت شمسها للغروب بعد وفاة الإمام الدارقطني (ت 385هـ/996م)؛ فقد أصبح المحدثون لا يهتمون غالبا بمتون الأحاديث ونقدها اهتمامَهم بالسند، فمتى صح السند عندهم أجازوا الحديث واعتمدوه. بيد أن عائشة كانت تتخذ منهجيّة صارمة في قبول متن الحديث، من أسسها عدم معارضته للقرآن الكريم، وألا يعارض حديثا تحفظه هي. وسنمثّل لكل ذلك بمثال:
أ- معارضة القرآن: خرّج البخاريُّ في صحيحه من رواية ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْه”؛ فردت عائشة الحديث ونفت أن يكون هذا نصه، وَقَالَتْ: “حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}”.
ومن ذلك أيضا حديث إسماع الموتى الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك، وخلاصته أن النبي كلّم يوم بدر أربعة وعشرين رجلاً من قتلى صناديد قريش، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ويقول: “أيَسُرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله ما تُكلِّم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال رسول الله ﷺ: “والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”.
قال قتادة السَّدوسي (ت 118هـ/737م): “أحياهم الله حتى أسمعَهم قولَه توبيخاً وتصغيراً” لشأنهم! ولكن عائشة ردّت هذا الحديث لتعارضه عندها مع القرآن الكريم مستدلّة بقول الله عز وجل: {إنك لا تسمع الموتى} [سورة النمل/ الآية: 81]، وقوله تعالى: {وما أنت بمسمعٍ مَنْ في القبور} [سورة فاطر/ الآية: 22].
ب- معارضة الحديث لروايتها: ومثاله حديث التشاؤم بالنساء؛ فقد جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر: “إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس”. فردته عائشة بما رواه الطحاوي (ت 321هـ/933م) -في ‘مُشْكِل الآثار‘- عن أبي حسان قال: دخل رجلان من بني عامر على عائشة فأخبراها أن أبا هريرة يحدث عن النبي ﷺ أنه قال: الطيرة في المرأة والدار والفرس، فغضبت وطارت شُقَّةٌ منها في السماء وشُقَّةٌ في الأرض (= مبالغة في الغضب) فقالت: والذي نزّل القرآنَ على محمد ما قاله رسول الله قَطّ، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك”. فأخبرت عائشة -معتمدة على ما تعلمه من النبي ﷺ- بأن ذلك القول كان منه حكاية عن أهل الجاهلية، لا أنه عنده كذلك.
وسمعت أيضا بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما براويات متعددة، ومنها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ”؛ فأنكرت عائشة هذه الرواية وقالت: “شبهتمونا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيت النبي ﷺ يصلي وأنا على السرير بينه وبين القِبلة مضطجعة”. فردت الحديث لمتنه الذي رأت أن فيه إساءة للنساء، واحتجت بما كان يفعله النبي ﷺ وهو في بيتها مما يناقض متن الحديث.
نشاط عام
كانت عائشة رضي عنها بعد وفاة النبي ﷺ بمثابة مستشارة عُليا لشؤون الفتوى في مجتمع المدينة، وخاصة منها ما يتعلق بالمسائل الزوجية؛ فقد رجع إليها الصحابة غير مرة في هذه المسائل، ومن ذلك ما ذكره أصحاب السنن من أن الصحابة اختلفوا -وهم بحضرة عمر بن الخطاب- في مسألة ما يوجب الغُسل على الزوجين، فقال عمر قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فاقترح عليه عليٌ أن يبعث لأزواج النبي ليسألهن عن ذلك، فأرسل إلى عائشة فقالت: “إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغُسل”.
ثم ولي عثمان بن عفان (ت 35هـ/676م) السلطة فطالت مدته وكبُر سنه، واعتراه ما يعتري كبارَ السن من السأم والضجر وكراهة المراجعة. وولّى أناسًا لم يرضَ عنهم أهلُ الأمصار فكانوا يراجعونه فيهم وفي عزلهم. وكانوا ربما وسّطوا عائشة لتتولى نصيحته في ذلك؛ فقد روى الطبري -في تاريخه- عن عائشة قولها: “كان الناس يتجَنَّوْن على عثمان ويُزْرُون (= ينتقدون) على عماله، ويأتوننا بالمدينة يستشيروننا فيما يخبروننا عنهم”.
فكانت عائشة ترى أن يقوم الخليفة عثمان بإنصاف الناس من ولاته؛ فأرسلت إليه –كما يروي الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘- لما جاء أهل مصر يشكون عبد الله بن أبي سرح (ت 59هـ/680م) تقول: “تقدّم إليك أصحاب محمد رسول الله ﷺ وسألوك عزل هذا الرجل فأبيت إلا واحدة، فهذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم من عاملك”. وكان عثمان -كما تقدم معنا- قد سئم هذه المراجعات، ولم يسمح له عمره بأن يكون سريع التجاوب مع المتغيرات في الحكم، “وليس في الأرض عملٌ أكدُّ لأهله من سياسة العوَامّ”؛ كما قال الجاحظ (ت 255هـ/869م) في كتابه ‘الحيوان‘.
فاستاء خلقٌ كثير من تلك الحال كان من جملتهم عائشة، وربما حداها نزوعها إلى الحق وإقامة العدل -وما تعودته في ذلك من الخليفتين السابقيْن لعثمان- أن تجهر بالإنكار عليه مع عدم تحمسها لبقائه في الخلافة؛ فابن كثير يروي –في ‘البداية والنهاية‘- أنها حين خاطبها مروان بن الحكم قائلًا: “يا أم المؤمنين لو قمتِ فأصلحتِ بين هذا الرجل وبين الناس، قالت: لقد فرغتُ من جهازي وإني أريد الحج”؛ في إشارة إلى يأسها من إصلاح الوضع.
ونحن لا نطمأن إلى كثيرٍ مما رُوي بشأن تلك الفتنة، فقد كثر فيها اللغط وانقسم الناس إلى فريقين قلّ فيهم المنصفون، ووضع كل قومٍ من الأخبار والروايات ما يؤيد رأيهم ويرجّح مذهبهم. بيد أن الباحث المتأمل في سيرة عائشة لن تقنعه الروايات التي تحوّل التاريخ أحجيَةً مبهمةً لا سبيل إلى الهداية فيها، فزعْم من زعَم أن عائشة كانت تحرّض على قتل الخليفة عثمان يناقضه خروجها للمطالبة بدمه، ومن برّأها من انتقاد سياساته يردّ عليه تصدُّرُها -دون جميع نساء الصحابة- لمطاردة قتلته.
إرث غني
والرأي الذي يطمئن إليه الباحث والمفتش في الروايات -على التضارب الشديد الواقع فيها- ينتهي إلى أن عائشة لم ترضَ قطّ بقتل عثمان، بل ولم تكن لتدعو إليه من الأصل. وإنما كان موقفها موقف الناقد المعارض سلميا، فلما وقعت الواقعة وقُتل عثمان ظلمًا سارع شعور التأثّم إليها، ظانةً -لغلبة الورع عليها- أنها قد تكون بنقدها لعثمان جرّأت عليه قاتليه، فرأت أن تبادر بالمطالبة بالقصاص من قتلته.
ولذلك فقصة مسيرها إلى البصرة -وما تلاه من قتال معسكرها ومعسكر الخليفة عليٍّ في واقعة الجمل- قصة انفعالٍ وتأثّم، ولا يمكن أن تكون قصة تخطيطٍ ورويّة، فقد ردّت عائشة كلّ نصيحة وردَتها بعدم المسير، ومنها نصيحة أم المؤمنين أم سلمة (ت 63هـ/684م) وعبد الله بن عمر، ولم تكن تجد جوابًا على نصيحة الناصحين سوى الاستسلام للشعور بالذنبِ المتوهَّم؛ فكان ما كان.
ويؤيد هذا الذي ذهبنا إليه قولها عن مسيرها إلى البصرة: “رأيٌ رأيته حين قُـتل عثمان بن عفان، إنا نقمنا عليه ضربه بالسوط، ومواضع من الحِمَى حماها، وإمرة سعيد الوليد، فعدوتم عليه فاستحللتم منه الثلاثَ الحُرُمَ: حرمة البلد، وحرمة الخليفة وحرمة الشهر الحرام”.
وقد ندمت عائشة على هذا الانفعال الذي ذهب بها إلى ميدان القتال، لِما تبيّن لها من مخالفته لبعض النصوص التي حجبها عن تأملها شعورُها بالتأثّم وقوة الانفعال العاطفي. فكانت “إذا قرأت: {وَقَرْنَ في بيوتِكُنّ} [سورة الأحزاب/ الآية: 33] بَكَتْ حتى تبلَّ خِمارَها”؛ كما يروي الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) في ‘تاريخ بغداد‘ والذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘.
لقد شهدت حياة أمنا عائشة -رضي الله عنها- نشاطا حافلا بالعلم والعمل وخدمة الأمة، وخلّفت لأبنائها المسلمين تركة غنية من مناهج النظر في مصادر التشريع وصياغة الفتوى والتعامل مع النصوص، ومارست قبل 1400 عام ما بات دعاة التجديد اليوم يدعون إليه نظريا من “نقد المتون”، والخروج مما يسمُّونه “الوصاية الذكورية” في قراءة النصوص التشريعية، وتغليب النظرة المقاصدية في صناعة الفتوى؛ ولكن انصرافهم عن النظر في تراثهم المراد تجديده حجبهم عن معرفة فضائله!!
المصدر : الجزيرة