كعادتها لم تترك الدولة العثمانية بلدًا من البلدان التي كانت تحت إمرتها إلا وتركت فيها أثرًا خالدًا ومعلمًا شاهدًا على مآثر تلك الحضارة التي وضعت كل الدول المنضوية تحت لوائها على دروب التنمية والتطور، وتعاملت معها تعامل شركاء الحضارة والرقي عكس ما كانت عليه بقية الإمبراطوريات في ذلك الوقت.
ورغم مرور مئات السنين على أفول نجم الإمبراطورية العثمانية، فإن شواهدها ما زالت حاضرة، فارضة نفسها على خريطة الإنسانية العالمية، وبعيدًا عن التشويه الممنهج الذي تقوده بعض الكيانات، وأحيانًا دول بأكملها، تبقى مآثر تلك الحضارة هي الأكثر نفعًا للبشرية، كونها مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بحياة الشعوب والأمم.
وتعد مدينة السلط الأردنية (30 كيلومترًا من العاصمة عمان) أحد النماذج الخالدة على التاريخ العثماني في الأردن، تلك المدينة التي باتت على أبواب التاريخ بعد ترشيح 23 موقعًا أثريًا بها، يعود معظمهم للعهد العثماني، لإدراجهم ضمن قائمة التراث العالمي الجديدة التي تصدرها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، فماذا نعرف عن تلك المدينة الأثرية؟
موعد مع التاريخ
“أبيش (لا يوجد) أحلى من السلط”، تكشف تلك المقولة الأردنية الشهيرة حجم ومكانة مدينة السلط لدى الشعب الأردني وزائري المملكة من الخارج، إذ تحتل تلك البقعة الساحرة المتربعة على سفح مرتفعات البلقاء، وما يفوح من ثنايا أزقتها وحواريها وشوارعها القديمة من عبق التاريخ العتيق، مكانًا مقدسًا لدى عشاق الحضارة ومولعي الآثار النادرة.
يتميز أهلها بالكرم الجم، فلا يكاد يُترك زائر دون أن يُدعى لتناول الطعام، أو على الأقل احتساء كوب من الشراب في بيت من بيوت أهالي المدينة، بعد ذلك يتم اصطحابه في جولة سياحية داخل أزقتها وحواريها التي تبهر الأنظار وتأسر معها القلوب وتسلب العقول، كل هذا وسط ابتسامات لا تفارق محيا أهلها وتُنقل بالتبعية إلى زائريها.
المدينة، التي سميت على اسم القائد اليوناني الذي فتحها زمن الإسكندر المقدوني، تعد نموذجًا فريدًا للتعايش الثقافي بين أبناء الأديان المختلفة، إذ يتناغم الأذان الذي يُرفع من مآذن مساجدها الشاهقة، مع قرع أجراس الكنائس، فيما تلاصق مساكن المسلمين منازل المسيحين، وتخيم أجواء المحبة والإخاء على الحياة العامة داخل شوارعها، في سيمفونية عذبة الألحان عن التعايش والتشارك المجتمعي بين أبناء الوطن.
في 27 يونيو/حزيران 2021، كانت السلط على موعد مع التاريخ حين قررت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو الموافقة على إدراجها على قائمة التراث العالمي في خطوة بعثت البهجة والفرحة في نفوس سكانها وسكان المملكة برمتها، فيما كانت الآثار العثمانية على رأس تلك المعالم المقرر إدراجها على القائمة الأممية.
ضريح يوشع بن نون
تمتلك السلط خريطة دسمة من الآثار والمعالم التاريخية التي تعود لحضارات عدة، أبرزها حضورًا وأكثرها شهرةً، تلك التي تعود للحقبة العثمانية (1516 – 1918) في المقدمة منها مقام وضريح النبي” يُوشع بن نون”، وهو عبارة عن مسجد بداخله قبر يُنسب للنبي يوشع بن نون فتى النبي موسى.
الضريح يقع على بعد 25 كيلومترًا غرب العاصمة عمان، يطل على الأغوار وجبال الضفة الغربية ومدينة القدس العتيقة، ويعود بناؤه إلى بدايات الدولة العثمانية، وبلغ طوله أكثر من 6 أمتار، يتميز بطراز معماري فريد، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، لكنه تعرض بسبب عوامل المناخ والإهمال إلى التشققات، الأمر الذي دفع الحكومة الأردنية لتجديده مرة أخرى عام 2004 بتكلفة بلغت 580 ألف دينار أردني، وأُضيفت إليه مكتبة وكافتيريا وسكن للإمام.
وبالقرب من هذا الضريح بنيت كنيسة ملاصقة لأداء المسيحيين صلاتهم بداخلها، كترجمة لشعارات التسامح التي رفعتها الدولة العثمانية في ذلك الوقت، وهي الكنيسة المعروفة باسم “كنيسة القديس جورجيوس” التي بنيت عام 1682، وتحولت فيما بعد إلى مزار سياحي جاذب للأنظار، يستقبله السائحون من خارج المملكة، مسلمون ومسيحيون على حد سواء، لما تتميز به عمارة الكنيسة من إبداع وجمال.
صرح الشهداء الأتراك
المعالم الأثرية ليست شرطًا أن تكون بنايات ذات عمارة مميزة أو كيانات لها حيثية اجتماعية أو مكانة دينية، فربما تكون رفات جنود ضحوا بحياتهم دفاعًا عن الأرض والعرض والمال، فاستحقوا أن يخلدهم التاريخ كما استحقوا كذلك أن تتحول مقابرهم إلى مزارات يستلهم منها الزائرون معاني التضحية والإقدام والشجاعة والحماس.
في قلب مدينة السلط يقع صرح الشهداء الأتراك، ذلك الصرح الذي يخلد ذكرى جنود كتائب المشاة 145 و191 من فيلق الجيش الرابع العثماني التي كانت تدافع عن المدينة أمام الاحتلال البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى، الذين قضوا حتفهم نتيجة عمليات التطهير والقتل الجماعي التي ارتكبتها القوات البريطانية في الحرب.
وجرى العثور على رفات هؤلاء الجنود عام 1973 داخل أحد الكهوف، ووثقت صور لهم، لينطلق العمل من أجل بناء صرح لهم يضم رفاتهم ويخلد شجاعتهم، كان ذلك في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1989، وتم تشييده رسميًا عام 1994، في عهد ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال ورئيس الجمهورية التركية الأسبق سليمان ديميريل.
أعيد تجديد الصرح مرة ثانية في 28 يونيو/حزيران العام 2004، من جانب العقيد الركن إبراهيم يلماز، وجرى افتتاحه مجددًا في 14 أغسطس/آب من العام نفسه، بعدما تم تطويره ليضم متحفًا للصور، يوثق بطولات الجيش العثماني وعملياته في المنطقة، بجانب احتوائه على نموذج للبزّات العسكرية التي كان يرتديها الضباط والجنود في ذلك الوقت.
الصرح يتبع وزارة الدفاع التركية التي تمتلك الأرض المقام عليها، وتشرف عليه الملحقية العسكرية بالسفارة التركية في عمان، وتحول بمرور الوقت إلى مزار للسياح العرب والأتراك، حيث يجدون عقب دخولهم جدارية كُتبت عليها أسماء الشهداء، لتبقى شهادة موثقة على الدور الذي قاموا به دفاعًا عن المدينة الأردنية وأهلها.
قرية ومسجد ضانا
على أحد المنحدرات المطلة على وادي عربة وجمال محمية ضانا الطبيعية، تقع واحدة من أكثر المناطق السياحية والأثرية جمالًا في الأردن، وهي قرية “ضانا”، تلك البقعة الساحرة التي تزين قلب محافظة الطفيلة (جنوب غرب العاصمة عمان)، التي تعد القرية التراثية الأولى من نوعها عالميًا.
تحتوي القرية على العديد من المواقع الأثرية التي بنيت معظمها في عهد العثمانيين، وهو ما توثقة تصاميم بناياتهم التي تأخذ في أغلبها السمت العثماني، وأبرزها المسجد المسمى على اسمها “مسجد ضانا” الذي بني خلال عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1842- 1918)، ليمثل شهادة في الحاضر على عبق التاريخ.
المسجد يتمتع بالعمارة العثمانية في جدرانه والكتابات التي تزينها، وفي هذا الإطار يقول مدير السياحة البيئة في محمية ضانا، التي تديرها الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، رائد حسن علي: “المسجد تأسس مع تأسيس قرية ضانا، ويعود للفترة العثمانية، وعمر القرية 500 سنة، وبنيت على آثار بيزنطية ونبطية ورومانية”، مضيفًا في حديثه لـ”الأناضول” “البناء في القرية على الطراز العثماني، من خلال استخدام الحجر من المنطقة والأركس والعقود في الغرف، وقد تم إعادة تأهيل المسجد مع تأسيس المحمية من جانب الجمعية الملكية لحماية الطبيعة عام 1990”.
أما الدليل البيئي بالقرية، سالم الخوالدة، فيعتبر أن القرية من أجمل المناطق الموجودة في العالم، وأنها ضاربة بجذورها في عمق التاريخ، لافتًا إلى أن هناك العديد من الشواهد التي تؤكد أن مسجد ضانا يعود للعهد العثماني منها الهلال الموجود على مأذنة المسجد ولا يزال حتى اليوم، وتابع “تلك البصمة التاريخية، التي تعود إلى العهد العثماني، لم يتخل عنها التاريخ منذ الزمن القديم”.
المسجد والضريح والكنيسة وغيرهم من المعالم الأثرية في الأردن وفق خبراء وأثريين شهادة موثقة بحق الدولة العثمانية وعنايتها بالبناء والتطوير في الدول التي كانت تسيطر عليها، حجر وبشر، إذ كانت قبلة الدعوة الإسلامية والجهاد والعلم والتنمية في آن واحد، فقلما يوجد بلد في الشرق الأوسط أو المنطقة العربية لا يوجد به مسجد أو مدرسة أو مستشفى أو تكية تعود للحقبة العثمانية.
نون بوست