هل الفضاء فراغ مصمت؟ تعرف على أسرار الضغط والحرارة والجليد في المجموعة الشمسية

في 14 ديسمبر من عام 1972 خطا آخر خطواته على سطح القمر قبل أن يعود بمركبته إلى الأرض، وقبلها بآلاف السنين قلّب الإنسان بصرَه في السماء، يعدّ النجوم ويرصد الكواكب، ويدور حيث دارت النيازك. تتوق نفسه شغفا للاقتراب من هذه العوالم السحيقة في البُعد، ويتحرق قلبه شوقا لمعانقة البدر التمام. فاستكشاف الفضاء جزء من سعي الناس لمعرفة موقعهم في هذا الكون.

كثيرا ما نتساءل: لماذا ظهر كوكب الأرض الصغير قرب هذا النجم المثالي؟ ألا تتكرر هذه الحكاية في أجواء الكون الأخرى؟

في هذه الحلقة من سلسلة “أسرار المجموعة الشمسية” التي بثتها الجزيرة الوثائقية، سنتعرف على أسباب هذا البحث وكيفيته، وإذا أثبتنا وجود حياة خارج الأرض فسيكون ذلك أعظم اكتشاف علمي على الإطلاق.

فالمجموعة الشمسية كبيرة جدا وقديمة، وعمرها 4.5 مليارات عام على الأقل، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، وبفضل الأدوات التي صممناها، حصلنا على صور عالية الدقة للكواكب الكبرى وأقمارها الكثيرة وللكويكبات والمذنبات.. من سطح الشمس إلى المرتفعات المتجمدة في بلوتو وما وراءه، صور شاهدة على مهارة الرجال والنساء الذين يبحثون عن إجابات للتساؤلات الكبرى.

الشمس.. كرة الغاز العظمى التي تصنع أيامنا

الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وهي جرم شديد الحرارة، هذه الكرة الغازية المشتعلة، لا بد من الذهاب إليها كي نرى سطح الشمس وأعماقها وغلافها الجوي، ففي 2018 أطلق المسبار الشمسي “باركر”، وهي المهمة التي طال انتظارها مدة 60 عاما، حيث سنزور البيئة الأشد قسوة في مجموعتنا الشمسية ونخترق أجواء الشمس، في مهمة جريئة تهدف إلى اكتشاف أسرار أقرب النجوم إلينا.

فالبشر يشتركون في السعي للمعرفة، ولا يكفّون عن طرح الأسئلة، وهكذا كانت الشمس أول ما أثار تساؤلاتهم، ورأوا فيها حليفا لهم أو عدوا أحيانا، على مدار السنين.

والشمس من الثوابت في حياتنا، فهي تشرق كل صباح وتغرب كل مساء، وعندما ننظر إليها نعرف أنها ليست ثابتة بتاتا، بل تتغير باستمرار، وهي نجم شديد النشاط، وقصتها هي قصة المجموعة الشمسية، وما زلنا نسعى لمعرفة كنهها.

الرياح الشمسية.. غازات تخالف المنطق وقوانين الفيزياء

هذه الأجواء الضبابية التي نراها عند كسوف الشمس الكلي، الهالة الشمسية التي نراها أشد حرارة من الشمس، وهذا مخالف للمنطق وقوانين الفيزياء، فالابتعاد عن جسم ساخن يصبح أبرد لكن شيئا ما يتسبب في زيادة حرارة هذه المادة. ولا نزال نجهل كيف تحتفظ الشمس بالغازات رغم حرارتها المنخفضة، تحفز الحرارة السرعةَ، وإذا تعدت سرعةَ الإفلات فسوف تولد رياحا تهب إلى خارج الشمس.

صاحب هذا التنبؤ هو عالم الفلك الأمريكي “يوجين باركر”، ففي عام 1958 كان الظن السائد أن الفضاء فراغ مصمت، وأن ضوء الشمس وحرارتها كانا يعبران الفضاء إلى الأرض، بينما جاذبية الشمس تحول دون وصول غازاتها إلينا، لكن “باركر” رأى غير ذلك، ومن خلال دراسته للرياضيات والفيزياء توقع أن يكون الغلاف الجوي للشمس ذا ضغط مرتفع، وهذا يدفع الغازات للضغط إلى الخارج.

أدى ذلك إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي أن الغاز يتدفق باتجاه المجموعة الشمسية، أي أن الشمس تتمدد في الفضاء، وأن الغلاف الجوي للشمس يتمدد بمعدل أسرع من الصوت، كانت الفكرة ثورية، أعد “باركر” ورقة بحثية وأرسلها إلى مجلة الفيزياء الفلكية لكنها رفضت، ولم تؤخذ الفكرة على محمل الجد، وواجهت الرفض بصيغ مهذبة وغير مهذبة.

طلب “باركر” من محرر المجلة إعادة النظر في ورقته، فلم يجد المحرر أي خطأ رياضي في بحثه، ووافق على نشرها، لكن لم يؤد نشر الورقة بحد ذاته إلى نتائج إيجابية، فلم يدعمها أحد ورأوا أنها تجانب الصواب، وبعد 4 سنوات (1962) توجهت مركبة فضائية “مارينر2” إلى كوكب الزهرة، وهناك اكتشف العلماء أن الغاز يتدفق من الشمس إلى خارجها، أي أن الرياح الشمسية حقيقية.

كان اكتشافا مذهلا، وفجأة لم يعد الفضاء مجرد فراغ، بل هو مملوء بالرياح الشمسية، وسرعتها لا تصدق، (250-750 كم/ث) ولها تأثيرات واضحة على كوكبنا. وفي 2018 أطلقت ناسا “مسبار باركر الشمسي”، وهي المركبة الوحيدة التي تحمل اسم عالِمٍ على قيد الحياة.

عطارد.. بقع الجليد في أشد الكواكب حرارة

عطارد هو أقرب الكواكب إلى الشمس وهو عالم من الغرائب، وقد وجد المستكشفون شيئا لم يتوقعه الكثيرون، في 2004 كان مسبار “ماسنجر” في طريقه إلى عطارد لاستكشاف سطحه الذي لم نشاهده، وكان الهاجس الرئيسي أن المركبة تدور حول الكوكب بأكمله خلال بضع عشرات من الدقائق، حيث تبلغ الحرارة في النهار 450 درجة، ولكنها تنخفض ليلا إلى 180 تحت الصفر.

اتخذ المسبار مداره حول عطارد بعد 7 سنوات من إطلاقه، وكان مصمما لدراسة أصغر الكواكب باستخدام مجموعة من الأدوات الحساسة، وقد حقق “ماسنجر” الهدف العلمي من إرساله، وقدّم صورة عالية الدقة لكامل سطح عطارد، وقد شكّلت البقع اللامعة الصغيرة على سطحه لغزا محيرا.

وضع أحد العلماء خارطة لعطارد تتضمن كل تلك البقع، كل واحدة من تلك البقع واقعة ضمن حفرة واقعة في الظلّ. إنها بقع جليدية في واحد من أشد الكواكب حرارة، كيف وصل هناك؟ كان يعتقد أن الأرض مهد الحياة، وأن الكيمياء العضوية موجودة فيها فقط، أما الآن فيقوم العلماء بدراسة دور الماء في جميع أنحاء المجموعة

كوكب الزهرة.. انتصار علمي على أجنحة الحرب

كان لاستكشاف الفضاء جانب مظلم، فالصراع بين أمريكا والسوفيات على الفضاء كان ترجمة مباشرة لسباق التسلح المحتدم بينهما، وكان مؤشرا على التطور التكنولوجي لدى هذه القوى، والصواريخ التي تنقل المركبات الفضائية كانت مصنوعةً لتدمير المدن.

وقد مهدت الحرب الباردة لأكثر المهمات الفضائية طموحا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وأهمها “فينيرا-9″، المركبة الروسية التي أرسلت أول صورة من كوكب الزهرة، ففي 20 أكتوبر/تشرين أول 1975 اقترب المسبار والمركبة من كوكب الزهرة وانفصلا، وبدأ المسبار مناورة لتخفيف سرعته للدخول في حقل جاذبية الكوكب في مدار إهليلجي.

بينما اقتربت المركبة من الجانب الآخر للزهرة، وبدأت بالتقاط الصور وإرسالها إلى المسبار ليرسلها إلى الأرض، لم تكن “فينيرا-9” أول مركبة تسقط فوق الزهرة، لكنها الأولى التي أرسلت صورا، وكان ذلك نصرا حقيقيا لاستكشاف الفضاء.

رحلات المريخ.. تغطية أدق التفاصيل على جار الأرض

لطالما كان استكشاف المريخ على رأس الأولويات، ففي 2004 هبطت العربتان “سبيريت” و”أوبرتشونيتي” على سطح الكوكب الأحمر، تحتوي فوهة “غوسيف” على قناة تصريف تمتد لآلاف الكيلومترات عبر التلال القديمة، وتبدو كما لو أنها تغذي بحيرة داخل الفوهة، وفي هذا الموقع صخور رسوبية تدلنا على طبيعة البيئة السائدة هناك.

وصلتنا الصور بسرعة، ولما وصلنا هناك لم نجد إلا المواد البركانية، كان هذا محبطا، فلم تكن توقعاتنا صحيحة، فقد كانت فوهة “غوسيف” سهلا من البازلت تكوّن من تدفق الحمم.

أما “أوبرتشنيتي” فحكايتها مختلفة، فقد استقرت في فوهة النسر، وفي تلك الحفرة أمكنت قراءة تاريخ الكوكب، فهناك الصخور الرسوبية التي تشكلت بسبب جريان الماء، وهو كنز معرفي ثمين، حيث الأجسام الشبيهة بالخرز في التربة، وبواسطة كاميرات الأشعة تحت الحمراء جرى تصوير الحديد والأوكسجين والهيماتايت، وهو أحد معادن الأرض، ويتشكل من جريان الماء، وينتشر في كل مكان.

وقد كان مخططا أن تعمل العربتان مدة 90 يوما، لكنهما استمرتا أكثر، وقدمتا فوق ما هو متوقع، ومضت سنوات على المهمة قبل أن تفقد “سبيريت” إحدى عجلاتها وتعلق في فوهة رملية وتنتهي رحلتها، بينما استمرت “أوبرتشنيتي” تتحرك بنشاط مثل نجم ساطع.

وفي 2012 جاءت عربة جديدة، وهي “كوريوسيتي” التي كانت مجهزة بحفّار، ومحملة بمختبر كامل على ظهرها، وعند الحفر وجد الكربون والهيدروجين والأوكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت.. كل مكونات الحياة متوفرة على المريخ.

قضت “أوبرتشنيتي” 15 عاما على المريخ غطت خلالها بأدق التفاصيل 45 كم، وهو رقم غير مسبوق. وفي يونيو/حزيران 2018 كانت عاصفة رملية تهب من بعيد، فحجبت الشمس وانقطع الضوء عن الألواح الشمسية، وباءت بضعة شهور من المحاولات بالفشل، وفي 2019 خرجت العربة “أبورتشونيتي” من الخدمة.

“روزيتا”.. مركبة لدراسة سفراء الفضاء العميق

المذنبات هي بقايا الحطام في المجموعة الشمسية، وهي لا تصنف ضمن الكواكب، لكنها تحتفظ بالمواد التي تشكل اللبنات الأساسية في كل ما نحس به. ولكي نتعرف على المذنبات، يجب أن نلتقي بها، وأن نحلق بمحاذاتها، ومن هنا جاءت فكرة الهبوط على سطحها لجمع العينات، وكانت خطوة جريئة.

ومن أجل ذلك أطلقت مركبة “روزيتا” (حجر رشيد) في مارس/ آذار 2004 في مهمة طموحة للغاية، لقد كانت مغامرة جريئة، فالمدار الذي يتخذه المذنب تختلف طاقته عن مدار الأرض.

استفاد العلماء من جاذبية الكواكب في دفع المركبة إلى مسارات مختلفة، ثم عادت إلى مدارها الأرضي، لتنطلق مسرعة مرة أخرى، ولكنها ابتعدت كثيرا عن الشمس، ولأن الإنارة انخفضت كثيرا على الألواح الشمسية، فلم يمكنْ تشغيل معظم معدات المركبة، وصدر القرار بإطفاء إشارة الراديو، وبهذا انقطع الاتصال مع المركبة كليا.

وهي منذ سبع سنوات تسبح في الفضاء على بعد ملايين الكيلومترات، وقضى العلماء سنتين ونصف بعد ذلك دون النجاح في أي اتصال، ثم تحدد موعد نهائي لإعادة الاتصال بالمركبة في العشرين من يناير/كانون ثاني 2014، وتسمّر العلماء والباحثون ومديرو الرحلة في أماكنهم في غرفة التحكم لاستقبال الإشارة الجديدة.

كانت من أشد اللحظات توترا وعاطفية، ثم وصل نداؤها على شكل نقرة صوتية، لقد كانت لحظة فارقة طوال الرحلة مع “روزيتا” التي استمرت عشر سنوات، وأصبح بالإمكان الآن مواصلة الرحلة إلى المذنب “شوريموف-غيراسيمنكا” (67P).

وقد زارت “روزيتا” هذا السفير القادم من أعماق من المجموعة الشمسية بعمر 4.5 مليارات سنة، وطوله 4 كم، وشكله مثل البطة الإسفنجية، وفي أسفله سهل ترابي، أما أعلاه فصخور، ومن فوق عنقه ترى واديا بطول كيلومتر واحد، وجرفين صخريين مرتفعين بينهما هوّة سحيقة، وهناك تنوّع كبير في تضاريس سطح المذنّب، وقد أهبطت عليه مسبارا اسمه “فيليه”، وفي سبتمبر 2016 انتحرت المركبة لتنهي مهمتها العلمية النادرة.

“غاليليو”.. حرارة المشتري الشديدة تؤدي إلى تبخر المسبار

المشتري أكبر الكواكب وأكثرها هيبة، وهو الأشد تشويقا وجمالا، وفي 1995 وصلت إليه المركبة “غاليليو” حاملة مسبارا عليه درع حماية حراري، وقد أطلق المسبار في يوليو/تموز 1995، ولم يكن بالإمكان التحكم في حركته لعدم احتوائه على محركات، وبعد خمسة أشهر وصل المسبار إلى المشتري في ديسمبر/كانون أول 1995، ولم يكن يحمل كاميرات، ولكن مجسات ومستشعرات.

بلغت سرعة الهبوط 209 آلاف كيلومتر/ساعة، ووصلت حرارة الدرع إلى ثلاثة أضعاف حرارة سطح الشمس، وعندما دخل المسبار الغلاف الجوي للمشتري كان العلماء يتوقعون ثلاث طبقات هي الأمونيا، ثم سُحُب من الأمونيا والكبريت، ثم بخار الماء، ولكن الواقع أن الجو كان جافا وحارا في مكان سقوط المسبار، وهذا يعني أن ما كانوا يرونه من الأرض كان مكانا مغايرا.

على ارتفاع 260 كم من السطح كان الضغط الجوي يعادل 23 ضعفا لضغط الغلاف الجوي الأرضي، وقد تعطلت مستشعرات المسبار عن إرسال أي إشارة إلى الأرض، وبفعل الحرارة الشديدة تبخرت أجزاؤه.

ولك أن تتخيل أنه عندما يبلغ الارتفاع 10% من نصف القطر يصبح الضغط مليون ضعف لضغط الغلاف الجوي، وفي مركز المشتري تصل الحرارة إلى أربعة أضعاف حرارة سطح الشمس، والضغط إلى خمسين مليون ضعف لضغط الغلاف الجوي.

إنسيلادوس.. ينابيع الماء الفوارة على قمر زحل الغامض

إطلاق المركبة هو الجزء الأهم والأخطر في المهمات الفضائية، فبعد 15 عاما من التصميم والدراسات والبناء، تندفع كل هذه التكنولوجيا بواسطة صاروخ يتسارع في الفضاء بسرعة مخيفة، حتى ينقل جهودك إلى حيث زحل، فاستكشاف هذا الكوكب الغامض ينطوي على مجازفات كثيرة.

كانت أجواء الكوكب زاخرة بالأوكسجين، وكان أكثرها تركيزا في مدار قمر “إنسيلادوس”، وهو قمر صغير بقطر 500 كم فقط. كان هذا القمر على مخطط الرحلة ولم يكن أولوية، إلا أنه لفت نظرنا بوجود غلاف جوي حوله، مما يعني أن له جاذبية، كان الغلاف حول قطبه الجنوبي، أما عند خط الاستواء فلا شيء. وكانت هنالك ينابيع ماء فوارة في قطبه الجليدي الجنوبي، إضافة إلى الغازات الحيوية الأخرى.

بلوتو.. لمعان المسطح المائي على أطراف المجموعة الشمسية

عند الأطراف البعيدة للمجموعة الشمسية يوجد عالم لم نستكشفه إلا مؤخرا، إنه “بلوتو”، فبينما كانوا يصورونه بكاميرات “مركبة نيوهورايزن”، شاهد العلماء على سطحه شيئا لامعا، كان شيئا يشبه القلب، ويبلغ طوله 1600 كم، ويتكون من النيتروجين المتجمد، ويبدو أنه قائم على مسطح مائي. الماء هو رمز الحياة، وحيثما وجد زادت فرصة أن تكون هنالك حياة.

وما زال استكشاف نظامنا الشمسي في بدايته، وبفضله تعرفنا على ثراء وتنوع وغرابة هذا النظام، ولعل أهم نتيجة توصلنا إليها هي كم هو مميز ونفيس كوكبنا الأرضي، وصدق الله العظيم إذ يقول: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).

المصادر: مواقع إلكترونية – الجزيرة الوثائقية

Exit mobile version