“الشمس وعطارد”.. دراسة نجمين حيّرا العلم وشغلا العلماء
كانت الشمس حليفا وعدوا للإنسان في كل الأزمان، لم تخل من ذكرها المخطوطات الأدبية عند كل الشعوب، وصفوها بالزعيمة الملتهبة، وواهبة الحياة، وكانت الحضارات القديمة عند وقوع الكسوف تخشى أن لا تعود الشمس، لأن الاعتماد عليها كبير، وهي من ثوابت حياتنا، متحركة ونشطة.
ولا يفتأ البشر يبحثون عن المعرفة، فالإنسان مفطور على حب الاستطلاع، واستكشاف ما حوله، ولطالما كانت الشمس والنجوم وبقية الكواكب في دائرة اهتمام الإنسان منذ القدم، لكن دراستها كانت صعبة في الماضي، لأن بريقها شديد السطوع، يؤذي العينين ويحرق الألواح الفوتوغرافية، وهي تطلق إشعاعات ضارة إذا لم نتوخ الحذر.
والشمس مركز المجموعة الشمسية، وهي جرم شديد الحرارة، وتفوق حرارة غلافها الجوي سطحها، وحتى نرى الشمس وأعماقها وسطحها وغلافها الجوي لا بد من السفر عبر الفضاء. وهذا ما سنتعرف عليه من خلال هذا الفيلم بعنوان “الشمس وعطارد” ضمن سلسلة “أسرار المجموعة الشمسية” التي بثتها قناة الجزيرة الوثائقية.
الصينيون الأوائل.. بقع على سطح الشمس
كان علماء الصين أول من سجّل سلوك الشمس قبل 2800 عام، ولاحظوا أن بقعا سوداء تظهر على سطحها ثم تختفي. وبعد اختراع التلسكوب بدأ البشر كشف ألغاز هذا النجم، ففي صيف عام 1610 أقدم “توماس هاريوت” على التحديق في الشمس مباشرة عبر التلسكوب، فعل ذلك في الصباح بوجود ضباب خفيف، ورأى البقع السوداء على سطحها، وترك رسومات تظهر هذه البقع.
ويبقى غاليليو غاليلي أشهر راصد للشمس، فقد ترك رسومات عالية الدقة للبقع الشمسية، وهو الذي حدد موقع تشكل البقع واستطاع إثبات أن الشمس تدور حول نفسها بسرعات مختلفة وفقا لخطوط العرض. ورجّح غاليليو أن البقع السوداء هي سحب تتشكل في غلافها الجوي، وبعد 200 عام ظهرت أدلة على وجود رابط غامض غير مرئي بين الأرض والشمس.
وفي عام 1806 لاحظ المستكشف البروسي “ألكساندر فونهامبولت” أن ظهور الشفق القطبي بوضوح في بعض الليالي كان يقترن مع انحراف إبرة بوصلته عن اتجاهاتها الصحيحة، وعند اختفاء الشفق تعود إلى وضعها. وعلى مدى عام سجّل قراءات البوصلة كل نصف ساعة، من الليل حتى الصباح، فاكتشف العواصف المغناطيسية، وأن لأضواء الشمال والجنوب للشفق القطبي أثرا على مغناطيسية الأرض.
أول صورة للشمس.. عواصف مغناطيسية
مع استمرار دراسة ألغاز الشمس برز المزيد من الظواهر الغامضة. كان الإنجليزي ريتشارد كارينغتون شغوفا بمراقبة الشمس كل يوم، ورسم ما يظهر على سطحها، وفي عام 1859 لفت نظره نقطتان براقتان مشعّتان تظهران بين البقع السوداء ثم تخبوان. وفي ذات اليوم سجّل مرصد بالغ الحساسية المغناطيسية انحرافا مغناطيسيا غير مألوف، بعد ذلك بـ17.5 ساعة ظهر الشفق القطبي.
كان ذلك الظهور مدمرا، فقد توقفت شبكات التلغراف في الولايات المتحدة وبريطانيا والهند عن العمل، وصعق أحد العمال، وظهرت الحرائق في أكثر من مكان، ورأى الناس ذلك الشفق في كوبا واليابان، مع أنه لا يظهر إلا في المناطق القطبية. لقد قرن العلماء بين ما رآه كارينغتون وما حدث من الشفق القطبي ورأوا أن ذلك لا يمكن أن يكون مصادفة.
تطور علم الفلك كثيرا عند ظهور التصوير الفوتوغرافي في أواخر القرن الـ19، وأمكن التقاط أول صورة واضحة لسطح الشمس تظهر فيها البقع السوداء، فقد استخدم “جورج هيل” الهيليوغراف الطيفي لالتقاط صورة للشمس بمعدل توهج أقل مليون مرة من التوهج الحقيقي، وأثبت “هيل” وجود حقول مغناطيسية قوية في البقع الشمسية على سطح الشمس.
استخدمت تقنية أخرى في الكشف عن أسرار الشمس، وأدت إلى اكتشافات أكثر غموضا، هذه الأجواء الضبابية (الإكليل الشمسي الأبيض) التي نراها خلال الكسوف الكلي أشد حرارة من سطح الشمس، وهذا مخالف للمنطق وقوانين الفيزياء.
هنالك ما يتسبب بزيادة حرارة هذه المادة. وحتى ذلك الوقت كان العلماء يجهلون كيف تحتفظ الشمس بالغازات رغم حرارتها المنخفضة، فالحرارة تحفز سرعة الغازات، وإذا تعدت سرعةَ الإفلات فسوف تولّد رياحا تهبّ إلى خارج الشمس.
تنبؤ باركر.. دحض نظرية الفراغ المطلق
صاحب هذا التنبؤ هو عالم الفلك الأمريكي “يوجين باركر”، ففي عام 1958 كان الاعتقاد السائد أن الفضاء فراغ مصمت، وأن ضوء الشمس وحرارتها كانا يعبران الفضاء إلى الأرض، بينما جاذبية الشمس تحول دون وصول غازاتها إلينا. لكن باركر رأى غير ذلك، ومن خلال دراسته للرياضيات والفيزياء توقع أن يكون الغلاف الجوي للشمس ذا ضغط مرتفع، وهذا يدفع الغازات للضغط إلى الخارج.
أدى ذلك إلى نتيجة بالغة الأهمية، وهي أن الغاز يتدفق باتجاه المجموعة الشمسية، أي أن الشمس تتمدد في الفضاء، وأن الغلاف الجوي للشمس يتمدد بمعدل أسرع من الصوت. كانت الفكرة ثورية، أعد باركر ورقة بحثية وأرسلها إلى مجلة الفيزياء الفلكية لكنها رُفضت، ولم تؤخذ الفكرة على محمل الجد، وواجهت الرفض بصيغ مهذبة وغير مهذبة.
طلب باركر من محرر المجلة إعادة النظر في ورقته، فلم يجد المحرر أي خطأ رياضي في بحث باركر، ووافق على نشرها، “ولم يؤد نشر الورقة بحد ذاته إلى نتائج إيجابية، إذ لم يدعمها أحد ورأوا أنها تجانب الصواب”. وبعد 4 سنوات (1962) توجهت مركبة فضائية (مارينر2) إلى الزهرة، وهناك اكتشف العلماء أن الغاز يتدفق من الشمس إلى خارجها، أي أن الرياح الشمسية حقيقية.
كان اكتشافا مذهلا، وفجأة لم يعد الفضاء مجرد فراغ، بل مملوءا بالرياح الشمسية، وبسرعة لا تصدق، إنها تتدفق بسرعة 250-750 كم/ث، ولها تأثيرات واضحة على كوكبنا. وفي 2018 أطلقت ناسا “مسبار باركر الشمسي” وهي المركبة الوحيدة التي تحمل اسم عالم لا يزال على قيد الحياة.
الشفق القطبي.. ترجمة الرسائل الشمسية
تحمي الأرض نفسها من الهجوم الغاشم من الرياح الشمسية بواسطة حقلها المغناطيسي الثابت نسبيا، وتزداد قوة الحقل المغناطيسي وكثافته عندما يكون في اتجاه الشمس، وفي الجزء المظلم يمتد الحقل المغناطيسي ويتخذ شكل المذنّب، ويستطيع الذيل إعادة وصل نفسه مغناطيسيا، ليتسبب ذلك في تدفق الجزيئات إلى المناطق القطبية، مسببا الشفق القطبي.
قول نيكولا فوكس مديرة قسم الفيزياء الشمسية في ناسا “بدأت بإدراك تأثير الشمس على كوكبنا عندما رأيت الشفق القطبي في شمال السويد أثناء برد الشتاء القارس، فقد رأيت ستارة من الأضواء الخضراء والحمراء تشبه ستائر السينما وهي تتماوج مع الرياح، إنه ناتج مباشر لتأثير الرياح الشمسية على الحقل المغناطيسي الأرضي”.
وينفذ المرصد الشمسي المداري عددا من التجارب المعقدة من تصميم علماء ناسا، كانت سلسلة من ثمانية أجزاء بدأ إطلاقها مطلع الستينيات وصولا إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وشكلت فرصة لدراسة نشاط الشمس، وإحدى الآلات تتيح النظر إلى الشمس باستخدام الكسوف الاصطناعي، وذلك بوضع قرص يحجب قرص الشمس، ومراقبة غلافها الجوي.
اكتشاف جديد.. الانبعاثات الكتلية الإكليلية
في عام 1971 كان هنالك استكشاف جديد، فقد لوحظ وجود بقع على تلك الصور، إنها الانبعاثات الكتلية الإكليلية، حيث تنبعث كمية هائلة من الغاز تقدر بمليونيْ طن في مسارات دقيقة تبتعد عن الشمس بسرعة كبيرة باتجاه الكواكب.
قدّم المختبر الفضائي “سكاي لاب” مشاهدات أولية للانبعاثات الكتلية الإكليلية، وحمل بعثة بشرية إلى الفضاء، قامت بتشغيل التلسكوبات الشمسية، وتجسد نجاحهم في تسجيل عدد من الانبعاثات تنطلق بسرعة هائلة تتجاوز 3000 كم/ث، وتتمتع بزخم هائل، اكتشافات تعبّر عن عظمة هذا النجم وجماله، وضآلة البشر أمامه.
أمكن بهذا فهم حدث كارينغتون عام 1859، وتفسير لغز المواد المشحونة على الأرض، وقد تكرر هذا الحدث في 2012 وكاد أن يصيب الأرض.
دراسة عطارد.. ضمانة لحماية الأرض من الرياح الشمسية
مع تزايد اعتمادنا على التكنولوجيا نصبح أكثر هشاشة أمام الطقس الفضائي، ويبقى الأمر نظريا حتى تنقطع الكهرباء عن مدننا لأسابيع. لم يحدث أن واجهنا مثل حدث كارينغتون في حياتنا المعاصرة، وإن حدث فستكون العواقب وخيمة وقاتلة والخسائر بالتريليونات، ويقضي على شبكات الطاقة وأنظمة تحديد المواقع وتلف الأقمار الصناعية وتغير اتجاهاتها.
من أجل هذا فإن العلماء حريصون على دراسة عطارد (كوكب المتناقضات)، فهو يتعرض لحدث كارينغتون يوميا، وهو قريب من الشمس ويتأثر بها، وإذا تمكنا من دراسة خصائصه فيمكن إسقاط ذلك على الأرض.
أطلقت مركبة مارينر10 في 1973، لتلتقي مع عطارد في مداره حول الشمس حتى دخلت في جاذبيته هربا من جابية الشمس الطاغية. وفي دراسته وجدوا حوله حقلا مغناطيسيا ذا ذيلٍ يشبه الذي للأرض. وقد تم التقاط صور غطت 44% من سطح الكوكب، ولكن ليست الصورة الكلية، حتى أطلقت المركبة التالية؛ مسبار ماسنجر، سنة 2004 لدراسة سطح عطارد.
مسبار ماسنجر.. جليد على سطح عطارد
كان يجب التفكير في تكنولوجيا جديدة تتلاءم مع تلك البيئة القاسية، والهاجس الأكبر أن المركبة ستدور حول الكوكب كاملا في بضع عشرات من الدقائق، حيث درجة حرارته في النهار +450، وتهبط في الليل إلى -180 درجة، وهذا بحد ذاته تحدّ كبير لنوعية الأجهزة التي تلائم هذا التباين الكبير.
قضى ماسنجر 4 سنوات في الدوران حول عطارد بين 2011 و2015، والتقط 200 ألف صورة لسطح الكوكب، وحقق الهدف العلمي من إرساله، وقدم صورا عالية الدقة لكامل سطح الكوكب، وشكلت البقع اللامعة لغزا محيرا، وتم رسم خارطة للكوكب تتضمن كل تلك البقع، كانت فيما يبدو كتلا جليدية، فمن أين جاء الماء إلى أكثر الكواكب حرارة؟ إنه شكل آخر من أشكال كوكب التناقضات هذا.
أنهت ناسا رحلة ماسنجر بتركه يرتطم بسطح عطارد، لدراسة أثر ارتطام جسم خارجي بسطح هذا الكوكب، وقد أحدث فعلا حفرةً هائلة تم تحديد موقعها تماما، وتم مشاركتها مع وكالة الفضاء الأوروبية التي انطلقت مع مهمة “بيبي كولومبو” سنة 2018 لاستكمال دراسة عطارد.
ومن أهم النتائج التي أنجزها ماسنجر عن عطارد هو أن كتلة الشمس في تناقص. نحن نعلم من دراسة النجوم الأخرى أن الشمس ستتحول إلى عملاق أحمر يتضخم سطحه ليصل مدار الأرض، هناك ستنتهي كافة أشكال الحياة على الأرض، إنه لأمر مدهش أن ندرس نجمنا من خلال الكواكب حوله.
مرصد سوهو.. دراسة الانبعاثات الإكليلية
في 1995 تم إطلاق مرصد “سوهو”، كانت رحلة بالغة الأهمية لأنها حملت مجموعة تلسكوبات مخصصة لدراسة الشمس داخليا وخارجيا، وقدمت أقرب مشاهدات للشمس حتى الآن، وأظهرت أن الشمس عامرة بالحقول المغناطيسية، وتم التركيز على الانبعاثات الكتلية الإكليلية، حيث تم تصوير الآلاف منها، وتعرفنا من خلاله على العلاقة بين الشمس والأرض.
ساهم سوهو في فهم العمليات الداخلية في الشمس، وذلك من خلال إرسال موجات فوق صوتية باتجاه جوف الشمس ودراسة الموجات المرتدة وفك شيفرتها، وتمتد مهمة سوهو حتى العام الجاري 2022، ويعتبر نظام إنذار مبكر يراقب نشاط الشمس من حيث العواصف المغناطيسية والانبعاثات الإكليلية.
مسبار جنيسيس.. دراسة الرياح الشمسية
في 2001 تم إطلاق مسبار جنيسيس، ويهدف إلى قياس الرياح الشمسية وطبقات الشمس المختلفة، ويأمل العلماء أن يحصلوا على قطعة من الشمس لدراستها في المختبرات الأرضية.
وصلت المركبة إلى نقطة تساوت فيها جاذبية الأرض مع جاذبية الشمس، ومكثت هناك 850 يوما، تجمع عينات من الرياح الشمسية، أي الجزيئات المشحونة من الشمس، ثم عادت إلى الأرض وهبطت في صحراء أوريغون، كان يفترض أن تفتح المظلات لهبوط سلس على الأرض، لكن هذا لم يحدث، وارتطمت جنيسيس بالأرض وتحطمت إلى شظايا صغيرة.
أصيب العلماء والمراقبون بخيبة أمل شديدة، ولكنهم استطاعوا أن يجمعوا تلك الشظايا، ودرسوها في المختبرات بعناية، لقد حصلوا على كل ما يريدون، ولكن على شكل أجزاء، لم تكن القصة كاملة، لكنها كانت مفيدة؛ قاسوا تركيبة الشمس وتركيبة الرياح الشمسية والانبعاثات الضخمة، والتركيب النظائري للشمس.
مسبار باركر.. أقرب جسم أرضي للشمس
ستكون الخطوة القادمة مسبارا يعانق النجم ذاته، يصل إلى ما لم يصل إليه أي جسم آخر أطلق من الأرض. سيكون اسم المسبار “باركر” تيمنا باسم العالم “يوجين باركر” الذي كتب تلك الورقة العلمية عن الشمس في 1958، والتي رفض الباحثون نشرها في حينه، وبعد سنوات ثبت أن ما قاله كان صحيحا. وستكون أول مرة يطلق فيها اسم عالم ما زال حيا على مهمة من مهمات ناسا.
كان اكتشاف الرياح الشمسية أمرا رائعا، وكان باركر هو رائد هذا الميدان الخطير، ودُشّن به فرع جديد ومهم من العلوم هو علم الفيزياء الشمسية. فالملهَمون من أمثال باركر هم الذين يدفعون العلم قدما، وهم الذين يرون الأجزاء الدقيقة من المشكلة، والتي ستغير المشهد العامّ كليا.
في منتصف ديسمبر 2021، أنجز مسبار باركر تحليقا تاريخيا لامس به سطح الشمس من على مسافة 6.5 ملايين كم فقط، وكان العلماء في موقع جيد يسمح برؤية المسبار من الأرض، وتنزيل كافة البيانات، وهكذا أمكن مشاهدة بعض الصور المدهشة، تبدو كالألغاز التي ستأخذ وقتا طويلا لحلها واستكشاف المعلومات التي فيها.
إنها مهمة مدهشة، وستكون منارة للأجيال القادمة من العلماء والباحثين لاستكمال استكشاف الكون من حولنا.
المصدر: الجزيرة