هي حاليا واحدة من الرياضات المدرجة ضمن قائمة “فنون الحرب”، لكنها في الأصل نشأت في حضن رهبان صينيين قبل نحو 1500 عام. هذا الارتباط المثير في نشأة رياضة قتالية بمؤسسة دينية هي المعبد البوذي، تنطوي على قصص تجمع بين الأسطوري الذي لم يؤكد علميا، وبين الثابت والمؤكد تاريخيا.
تقفي آثار هذه الرياضة القتالية يحتم الانطلاق من ديانة المعبد الذي يحتضنها. فقد انطلقت البوذية من سؤال من أين يأتي العذاب والألم؟ ومن ثم انطلقت محاولة اكتشاف طريق علاجه، وهو ما يحمل البوذيين على محاولة تخطي الموت ليتحرروا من قيود الحياة وتجنب تبعات الولادة من جديد لتحمل عذابات الحياة من جديد.
وتشكلت حول بوذا جماعة رهبانية أولى عرفت باسم “السانغا”، أي أولئك الذين تركوا حياتهم العادية ليتبعوا الحقائق النبيلة ويتمرنون لتحسين جوهرهم، وقد ساعد نهج الوسطية والجمع بين الحياة المادية والرقي الروحي على الانتشار الواسع للبوذية في الهند وشرق آسيا.
تقتصر فترة الرهبنة في البوذية لدى عموم الناس على فترة قصيرة تمتد لبضعة أيام، ويختار البعض القيام بها بعد وفاة الوالدين مثلا، حيث ينقطع عن الحياة المادية تكريما لهم، لكن الرهبنة تظل تمرينا دائما بالنسبة للبوذيين، في محاولة لفهم النفس وفهم الآخرين.
ويعيش الرهبان والمبتدئون في أديرة تسمى “الواتس”، وغالبا ما يلتحق الشبان بالأديرة طلبا للعلم أو بحكم التقاليد، وتتوفّر الأديرة على مدارس تخرّج أفواجا من الطلاب سنويا، بعد تلقيهم إلى جانب الدراسات العامة، مبادئ الضبط الجسدي والروحي من الرهبان.
قد يلجأ من لا يرغبون في دخول الدير إلى طرق خاصة لبلوغ الصفاء الروحي نفسه الذي تحققه البوذية، كمرحلة نحو هدف الاستنارة، وقد تكون من بين هذه الطرق أساليب مفاجئة، مثل بعض الرياضات وفنون القتال، كالملاكمة التايلاندية المعروفة باسم “مو أي تاي”، فهده الرياضة تعتمد مبادئ التأمل والتركيز لبلوغ الصفاء والانضباط.
يعتبر التركيز أساسيا في الفنون القتالية، وفي البوذية يعرف بالتأمل في نقطة محددة تساعد ممارسها على رصد ما يدور في فكره والهروب من التشويش الذي يسبب له العذاب، ورغم أن البوذية تقوم على نبذ العنف، فإنها تعتقد بأن تمارين التركيز الرياضي تساعد في أن يصبح المرء بوذيا أفضل، فبالسيطرة على المشاعر السلبية يمكن العثور على السلام الروحي.
وفي فيلم لـ”الجزيرة الوثائقية” بعنوان “المجتمعات الدينية – البوذيون”، يتعرّف المشاهد على الأبعاد غير الدينية للبوذية، إذ لا يقتصر الأمر على التعبّد، بل يمتدّ ليشمل أنشطة فنية وثقافية ورياضية متعددة يمارسها معتنقو البوذية لتحقيق الغايات الدينية لحاملي هذا المعتقد.
مرحلة تخطي الغذاب في الحيوات
يؤمن البوذيون بأن الكون مسكون بالعذاب، لأن الإنسان عادة ما يصعب عليه التخلي عن الماديات، ومن ثم تأتي مشاعر وأحاسيس متعددة مثل الرغبة والرهبة والخوف لتحرّك الفعل البشري، وبالتالي تعمل البوذية على محاولة فهم هذا العذاب الذي يأتي ويرحل من تلقاء نفسه.
ورغم تركيزها الكبير على النواحي السلبية في الحياة، فإن البوذية تهتم أيضا بالجوانب الإيجابية ولحظات السعادة التي لا تكتمل فيها تجارب الإنسان، فالسعادة الحقيقية -حسب مدير مركز ثقافي بوذي تحدّث إلى “الجزيرة الوثائقية”- تنبع من الداخل، مما يتطلّب التمرين لتحسينها والتمكن منها، وذلك يمرّ أولا عبر مقاومة الانسياق لإغراء الماديات والعثور على المستوى الوسط بين المادي والروحي، بين الجسد والعقل.
تمثل الاستنارة الهدف الأعلى للبوذيين، فالمعنى الأول لبوذا هو “المستنير”، لكن الوصول إلى الاستنارة يتطلب إدراك السبيل الوسط، فخلافا لغالبية الأديان لا ترتكز البوذية على علاقة مباشرة بين الله والإنسان، بل على التطور الروحاني الذاتي الهادف إلى فهم حقيقة الحياة وطبيعتها، وبوذا نفسه أصر على اختبار تعاليمه وعدم قبولها لمجرد إكرامه.
الأمير الهندي “سيدارتا شيكوموني”.. نشأت الديانة البوذية
ترتكز البوذية على تعاليم “سيدارتا شيكوموني”، وهو أمير هندي من أصل هندوسي، ولد في العام 560 قبل الميلاد، أي منذ أكثر من 2500 عام، في مدينة لومبيني الواقعة حاليا في النيبال، حيث كان والده ملكا على قبيلة “شاكيا”.
عاش “كوتاما” في قصر والده حياة البذخ والترف وكانت والدته قبل ولادته قد رأت في منامها أنها سترزق بولد سيصبح ملكا أو قديسا جوالا، ولشدة خوف والده مما قد يحصل بسبب ذلك، أبقاه في القصر ومنعه من أي اتصال بالحياة خارجه.
سرعان ما شعر “كوتاما” بالضيق من هذه الحياة، فأقنع سائق عربته الملكية بأخذه في نزهة خارج القصر، وهي النزهة التي غيرت حياته إلى الأبد. فقد التقى ولأول مرة في حياته رجلا تكوّم ظهره تحت ثقل السنين، كما رأى رجلا مريضا وجثة محمولة إلى المحرقة، وراح يسأل سائق عربته عن معاني ما يرى، وكانت الأجوبة تتضمن ما في الحياة من عذابات.
أكثر ما أثر في نفس “كوتاما” هو اكتشافه مشهد الرجل المنقطع عن الحياة المادية والمتفرغ للروحانيات. لقد فهم أن لغز الوجود والقدر لا يحل بمجرد إتمام الواجبات الاجتماعية، وقرر نهج أسلوب “السادو” أو الرجل المتفرغ للعبادة، وبدأ حياة الزهد والتجوال، وعاش ستة أعوام من الزهد المتطرف، ليقتنع بأن ذلك ليس حلا للخلاص من عذابات الأرض، فتخلى عن نكران الذات واعتمد السبيل الوسط، وذلك من خلال التمرن على الحكمة، وتمرين النفسية للتعايش مع الواقع، وتدريب العقل ليصبح مسالما.
ويشدد “الدالاي لاما”، أحد أبرز رموز البوذية في الوقت الحاضر، على أن عدم العنف هو الطبيعة الأصلية للإنسان، لأنه ينبع من الحب والاحترام، وهو ما يجعل المرء يستوعب أن من يسيء إليه هو من عائلته الإنسانية، لهذ ينبغي حل أي مشكلة في هذا المناخ العائلي.
حياة الرهبان.. 15قرنا من التدريب في المعابد
يعود تاريخ الفنون القتالية في معابد الشاولين إلى حوالي 1500 عام مضت حين زار راهب هندي يدعى “بودي دراما”، معبد الشاولين ولاحظ أن الرهبان يفتقدون إلى اللياقة البدنية، فاخترع بعض الحركات التي ترفع من لياقتهم وتحافظ على صحة الرهبان وتزرع فيهم الرهبة حتى يتمكنوا من التأمل لساعات طويلة والدفاع عن أنفسهم عند الحاجة.
تطوّر هذا الفن القتالي تدريجيا ليدخل عليه استخدام الأسلحة، وأصبح لرهبان الشاولين برنامج يومي موزع بين التعبد والتأمل وممارسة الرياضات القتالية، إلى جانب الأشغال اليومية من تنظيف وطهو وزراعة وحراسة المنطقة التي يوجد بها المعبد.
يبدأ يوم رهبان الشاولين في وقت مبكر، أي حوالي الساعة الخامسة صباحا، حيث يبدؤون برنامجهم بجلسة “التشيكونغ” الخاصة بالتأمل لشحن الطاقة، ويدوم ذلك لنحو ربع ساعة. بعدها وخلال قرابة ساعة تمتد من الخامسة والنصف إلى السادسة والنصف، يقوم الرهبان بتدريبات رياضة الكونغ فو، موزعة بين تدريبات إحماء وتدريبات مهارات قتالية أساسية. بعد ساعة التدريب الرياضي يأتي دور ساعة من العبادات البوذية، ثم يتناولون وجبة الإفطار في حوالي الساعة الثامنة صباحا، قبل أن ينخرطوا في أعمالهم اليومية الخاصة بنظافة وترتيب المعبد.
يتميّز رهبان الشاولين بلياقة بدنية عالية ومهارات قتالية كبيرة، إضافة إلى القوة العضلية ومهارات في القيام بحركات تشبه الجمباز وتقنيات خاصة في التنفس والتأمل، ويتحدث المختصون في هذا الفن القتالي عن 72 مهارة أساسية، منها 32 مهارة ليونة جسدية و36 مهارة صلابة وقوة، وهو ما يجعل رهبان الشاولين على قدر كبير من القوة القتالية.
معبد الشاولين.. نشأت الراهب “المقاتل الأول”
تحكي بعض الكتب المرجعية في رياضة الكونغ فو، أن رجل الدين البوذي الذي قدم من الهند إلى الصين خلال السنوات التسع التي قضاها في التأمل والتفكير، كان بين فترات خشوعه يقوم بحركات تطورت تدريجيا لتصبح قواعد لهذه الرياضة.
كما تقول هذه المصادر إن تلاميذ هذا الراهب كانوا يستلهمون بعض حركاتهم من حركات الحيوانات، خلال تدربهم على الرياضة. وتحدد المصادر الفترة التي تمثل العصر الذهبي للكونغ فو في فترة الألف سنة الواقعة بين عامي 618 و1644 للميلاد. وسطع نجم هذا النوع من القتال عام 621 ميلادية، حين تمكن 13 مقاتلا من معبر شاولين، من حماية حكم أمير صيني عندما هاجمه أمير آخر.
كما تروي بعض المصادر حكاية 30 من مقاتلي معبد شاولين الصيني ذهبوا منتصف القرن 16 إلى السواحل الصينية، حيث تولوا مهمة محاربة القراصنة اليابانيين. كما تذهب بعض الروايات التي هي أقرب إلى الأساطير إلى أن خمسة رهبان مقاتلين تمكنوا من الفرار في القرن الـ17، حين تعرضت معابدهم للهجوم، ونشروا الرياضة في أنحاء متفرقة من الصين، مما تولد عنه رياضة الكاراتيه.
لكن المؤكد هو أن معبد شاولين تعرض سنة 1928 لعملية حرق شاملة على يد قائد حرب انتقم منه لكونه ساند خصمه، وهو الحرق المقصود الذي أتى على مكتبة المعبد التي كانت تحفظ تعاليم الرياضة البوذية. كما تعرض معبد شاولين إلى الهجوم في الستينيات على يد الجيش الأحمر لـ”ماوتسي تونغ”، أو ما يعرف بالثورة الثقافية التي دامت عشر سنوات، وأجبر الرهبان على أكل اللحوم وشرب الخمور، وهو ما تحرمه عليهم تعاليم المعبد.
تدريب “شاولين”.. مرحلة تنشئة الأطفال على القتال
تعني كلمة “شاولين” في اللغة الصينية “الغابة الشابة”. وقد جرى إحياء مركز التدريب الخاص بمعبد شاولين مباشرة بعد قيام الثورة الشعبية الكبرى عام 1977، ويلتحق به مئات المتدربين سنويا، ليلقنوا خليطا من البوذية والكونغ فو على يد رهبان مقاتلين.
في المعابد التي تستقبل الأطفال في سن الخامسة، يعود المقاتلون الناشئون على نظام صارم من الانضباط، يجمع بين التعاليم الدينية البوذية والتدريب الرياضي الدائم. القيم الموحدة التي تطبع حياة هؤلاء الأطفال داخل المعبد، يوجزها القائمون عليه في رباعية “العدل والاستقامة والتعاطف والمحبة”.
وفي قصاصة لها حول رياضة المعبد البوذي “شاولين”، فسّرت وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) كيف أن المعبد الموجود بمقاطعة “خنان” وسط الصين، قرر في السنوات الأخيرة إحياء هذا التقليد الرياضي القديم، من خلال ترميم بعض المباني القديمة، وتأسيس جمعية لمعلمي الكونغ فو من رهبان المعبد، والعودة إلى الأساليب القديمة لتدريس فسفة “الزن” التي يعتبرها البعض أصلا للديانة البوذية، وذلك لبعث تقليد قديم من جديد، وإحداث نشاط سياحي وثقافي يجذب السياح الأجانب.
فترة الصراعات الأسرية. فن القتال القادم من الهند
قال أحد معلمي المدرسة الرياضية البوذية، وهو المعلم “شي” للوكالة الصينية إن هذه الرياضة ظهرت في وقت كانت فيه الصين تشهد اقتتالا بين الممالك، ويسميه المؤرخون عهد الأسر الجنوبية والشمالية.
وفي خضم تلك الأحداث هاجر عدد من البوذيين الهنود إلى الصين، بحثا منهم عن أصول هذه الديانة وسعيا إلى تحقيق السلم الداخلي بعيدا عن حروب المتصارعين، ونظرا لذلك الإقبال الكبير على البوذية، فقد أمر أباطرة ذلك الزمان ببناء عدد كبير من المعابد التي سوف تتحوّل إلى مراكز للتدريب على القتال، رغبة من معلمي البوذية في حمايتها من الهجمات، والحفاظ على صحة ولياقة الرهبان والمبتدئين.
اهتدت ثقافة رهبان تلك العهود الغابرة، إلى خليط من الفنون القتالية التي تجمع بين الملاكمة والمصارعة وتقنيات إخضاع الخصم والدفاع عن النفس ضد ضرباته، علاوة على تقنيات خاصة في خلع المفاصل وطعن أماكن محددة من جسد الخصم، مع تدريب ذاتي في التركيز الشديد والتنفس العميق. وظلت تلك التعاليم الرياضية تلقّن بشكل شفوي، وتورّث من جيل إلى آخر، وهو ما أعاد العالم اكتشافه في العقود الأخيرة، حيث تتحدث الإحصاءات عن قرابة 10 آلاف شخص تدربوا على رياضة الكونغ فو بمعبد شاولين خلال العقدين الماضيين فقط.
سيد الكونغ فو الأول “جيت لي”.. أقتحام هوليود
لكن نجم شاولين سطع من جديد سنة 1982، حين لعب أحد أساتذته، وهو جيت لي، دور البطولة في فيلم “معبد شاولين” الذي يحكي أسطورة فن القتال المحلي. “لي” سوف يشتهر أكثر في بداية التسعينيات، حين التحق بهوليود وشارك في فيلم “ذات مرة في الصين”، ليحمل بعد ذلك لقب “ملك الكونغ فو” وتكتسب هذه الرياضة شهرة واسعة.
فقد ظل الرهبان البوذيون ممنوعين من ممارسة أي نشاط قتالي طيلة قرون، إلى أن جرى إحياء تلك العادات تدريجيا في العقود الماضية. وعلى غرار الصين شهدت بعض المعابد البوذية في دولة أخرى عودة مكثفة إلى الكونغ فو، من بينها دير للرهبان يدعى “دروكبا” في النيبال، وقد أطلق أول دفعة من رهبان الكونغ فو عام 2016، ويشترط تعلمهم للقتال بأنواعه.
لم تعد ظاهرة الرهبان المقاتلين في السنوات الاخيرة حكرا على الرجال كما كان الأمر في السابق، بل بات مسموحا للإناث أيضا بالجمع بين التكوين الديني وفنون القتال، وهو ما منح هذه الرياضة بعدا جديدا، حيث تحوّلت في الأعوام الأخيرة إلى فن قتالي أشبه بالعروض البهلوانية والحركات الاستعراضية، أكثر منه قتالا بين متنافسين.
آخر الرهبان المقاتلين.. آلية التدرّب على الكونغ فو
لم يعد الأمر يقتصر على مركز واحد، بل تأسس عدد كبير منها، ويبلغ معدل سنوات الدراسة قبل التخرج حوالي أربع سنوات، حيث يعود أغلب الخريجين إلى حقولهم وأعمالهم المعتادة، بينما يحترف البعض الآخر تدريس الكونغ فو. أما الذين يواصلون تدريباتهم في مستوياتها العليا، فإنهم يتحولون إلى حراس شخصيين لبعض الأغنياء ولدى بعض الشركات المختصة في الحراسة والأمن.
“جسم لا يشعر بالألم، وذهن متوقّد”. هكذا يلخّص بعض خبراء الكونغ فو الغاية من هذه الرياضة، فالمقاتل المحترف الذي يمضي أكثر من 15 عاما من التدريب، يبلغ درجة من التحكم في جسده حيث لا يشعر بالألم، عبر تقنية لامتصاص الطاقة وتحويلها نحو اتجاه آخر، مما يجنّب المقاتل أي شعور بالألم. وبعد فترة معينة من التدريب، يكون الراهب المقاتل مطالبا بالاختيار بين ثلاثة أصناف من فنون القتال، إما الملاكمة أو القتال المعتمد على الأسلحة أو المصارعة.
لم يستعد المعبد نشاطه إلا عام 1979، ولم يعثر وقتها إلا على 11 راهبا مقاتلا ما زالوا على قيد الحياة، لكنهم تولوا مهمة إحياء هذه الرياضة، رغم معاناتهم من الصورة السلبية التي خلفتها الثورة الثقافية عنهم.
المصدر: الجزيرة