يحكى في القصص الشعبية العراقية أن تاجرا حجازيا قدم إلى الكوفة لبيع الخُمر النسائية، فباعها كلها ما عدا ذوات اللون الأسود منها، إذ أعرضت بنات الرافدين عن شرائها. كان ذلك في عهد الدولة الأموية وعلى الأرجح في ثمانينيات القرن الهجري الأول.
لم يرضَ التاجر الحجازي بمغادرة سوق الكوفة قبل بيع بضاعته، وعندها فكر في حيلة لإقناع النساء بشراء الخمار الأسود.
ويومها كان الشاعر مسكين الدارمي قد اعتزل الشعر ومجالس الغناء واللهو واختلى في زاوية بأحد المساجد يرجو رحمة ربه.
و”مسكين الدارمي” كنية ربيعة بن عامر، وهو شاعر من بني تميم كان محظيا عند أمراء بني أمية وخصوصا معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، وعاصر أيام عبد الملك بن مروان.
وعندما طلب منه التاجر الحجازي أن يساعده في إنقاذ بضاعته من الكساد رفض التفاعل معه، ولكنه رقّ له حين أكد له أنه سيعجز عن إعالة أسرته إذا لم يتمكن من بيع الخُمر السود.
دعاية ناجحة
حين طلب التاجر من مسكين الدارمي أن يساعده في التسويق لخُمره، أنشد الدارمي أبياتا تصوّر ناسكا اعتكف في المسجد واعتزل الدنيا، ولكن سيدة ترتدي خمارا أسود أغوته وفتكت بمشاعره فهام في حبها قائلا:
قل للمليحة بالخمار الأسود.. ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه.. حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه.. لا تقتليه بحق دين محمد
وعلى الفور، شاع في أحياء الكوفة أن مسكين الدارمي ترك الزهد والنسك بعد أن رأى امرأة ترتدي خمارا أسود، فأقبلت النسوة على شراء بضاعة التاجر الحجازي اعتقادا منهن بقدرتها على سلب ألباب الرجال.
وفي فيلم قصير ضمن سلسلة “حكاية أغنية”، تعود الجزيرة الوثائقية إلى أسواق ومقاهي العراق لتتلمس آثار التاجر الحجازي ومسكين الدارمي، وتتحدث للشعراء والفنانين والناس العاديين عن هذه الأغنية التي تعود لأكثر من 1300 عام.
يبدأ الفيلم بمشاهد من حيوية الأسواق والشوارع وصور من محلات العباءات والخُمر والشالات النسوية، فيما يتمايل رواد المقهى طربا عندما يغني أحد الشباب:
قل للمليحة بالخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
مشاهد وحكايات
وفي المقهى رجال في الستينيات والسبعينيات من أعمارهم، يتحدثون عن قصة هذه الأغنية في المخيال العراقي والفنانين الذين غنوها والشعراء الذين حاكوها وعارضوها.
كما يتضمن الفيلم مشهدا تمثيليا لمحاكاة القصة التي صورها الدارمي في أبياته، حيث تظهر امرأة في زينتها وكحلها ترتدي خمارا أسود قرب أحد المساجد.
وفي حديثه بالوثائقي يقول الناقد الموسيقي مجيد السامرائي إن أبيات المليحة والخمار الأسود تمثل أول دعاية تسويقية في التاريخ الإسلامي وتُغنّى في المقامات الشرقية مثل الحجاز والصبا والنوى.
ويلاحظ السامرائي أن هذه الأغنية تفاعلية، وتقتضي الأخذ والعطاء بين الجمهور، وأفضل من يقوم بهذا التفاعل هو الفنان السوري صباح فخري الذي يظهر التأثر بالطرق الصوفية من قبيل المولوية والقادرية، لكن الفنان العراقي الراحل ناظم الغزالي هو الآخر كان قادرا على هذا الأداء.
وإلى اليوم ما زال لهذه الأغنية سحرها وبريقها في العراق وفي دول عربية عديدة، وحتى الفرق الشبابية التي تؤديها في حفلاتها الموسيقية.
المصادر : مواقع الكترونية عربية – الجزيرة