للحجاج بن يوسف الثقفي مكانة متميزة بين أعلام الإسلام، ويندر أن تقرأ كتابًا في التاريخ أو الأدب ليس فيه ذكر للحجاج الذي خرج من سواد الناس إلى الصدارة بين الرجال وصانعي التاريخ بمواهبه الفذة في القيادة والإدارة
عدّ كثير من المؤرخين الحجاج صورة مجسمة للظل..م، ومثالاً بالغًا للطغي..ان، وأصبح ذكر اسمه يستدعي في الحال معاني الظ..لم
وضاعت أعمال الحجاج الجليلة بين ركام الروايات التي تروي مفاسده وتعطشه للد..ماء، وإسرافه في انتهاكها
وأضافت بعض الأدبيات التاريخية إلى حياته ما لم يحدث حتى صار شخصية أسطورية بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع، وقليل من المؤرخين من أنصف الحجاج، ورد له ما يستحق من تقدير
وإذا كان الجانب المظلم قد طغى على صورة الحجاج، فإننا سنحاول إبراز الجانب الآخر المشرق في حياته، والمؤثر في تاريخ المسلمين؛ حتى تستبين شخصية الحجاج بحلوها ومرها، وخيرها وشرها
المولد والنشأة
ولد الحجاج بن يوسف الثقفي في الطائف في 661م، ونشأ بين أسرة كريمة من بيوت ثقيف، وكان أبوه رجلًا تقيًّا على جانب من العلم والفضل
وقضى معظم حياته في الطائف، يعلِّم أبناءها القرآن الكريم دون أن يتخذ ذلك حرفة، أو يأخذ عليه أجرًا
حفظ الحجاج القرآن على يد أبيه ثم تردد على حلقات أئمة العلم من الصحابة والتابعين، مثل عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك، وسعيد بن المسيب
اشتغل وهو في بداية حياته بتعليم الصبيان، شأنه في ذلك شأن أبيه
وكان لنشأة الحجاج في الطائف أثر بالغ في فصاحته، حيث كان على اتصال بقبيلة هذيل أفصح العرب، فشب خطيبًا، حتى قال عنه أبو عمرو بن العلاء، ما رأيت أفصح من الحسن البصري، ومن الحجاج، وتشهد خطبه بمقدرة فائقة في البلاغة والبيان
الحجاج الثقفي وابن الزبير
لفت الحجاج أنظار الخليفة عبد الملك بن مروان، ورأى فيه شدة وحزمًا وقدرة وكفاءة، وكان في حاجة إليه؛ حتى ينهي الصراع الدائر بينه وبين عبد الله بن الزبير الذي كان قد أعلن نفسه خليفة بعد وفاة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان
ودان له بالولاء معظم أنحاء العالم الإسلامي، ولم يبق سوى الأردن التي ظلت على ولائها للأمويين، وبايعت مروان بن الحكم بالخلافة، فنجح في استعادة مصر من قبضة ابن الزبير، ثم توفي تاركًا لابنه عبد الملك استكمال المهمة، فانتزع العراق، ولم يبق في يد عبد الله بن الزبير سوى الحجاز؛ فجهز عبد الملك حملة بقيادة الحجاج؛ للقضاء على دولته تمامًا
حاصر الحجاج مكة المشرفة، وضيّق الخناق على ابن الزبير المحتمي بالبيت، وكان أصحابه قد تفرقوا عنه وخذلوه، ولم يبق سوى قلة صابرة، لم تغنِ عنه شيئًا
ولم تستطع الدفاع عن المدينة المقدسة التي يضربها الحجاج بالمنجنيق دون مراعاة لحرمتها وقداستها؛ حتى تهدمت بعض أجزاء من الكعبة
وانتهى القتال باست..شه..اد ابن الزبير والقضاء على دولته، وعودة الوح..دة للأ..مة الإسلام..ية التي أصبحت في ذلك العام تدين بالطاعة لخليفة واحد، وهو عبد الملك بن مروان
وكان من أثر هذا الظفر أن أسند الخليفة إلى الحجاج ولاية الحجاز مكافأة له على نجاحه، وكانت تضم مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليه اليمن واليمامة فكان عند حسن ظن الخل..يفة
وأظهر حزمًا وعزمًا في إدارته؛ حتى تحسنت أحوال الحجاز، فأعاد بناء الكعبة، وبنى مسجد ابن سلمة بالمدينة المنورة، وحفر الآبار، وشيد السدود
الحجاج في العراق
بعد أن أمضى الحجاج زهاء عامين واليًا على الحجاز نقله الخليفة واليًا على العراق بعد وفاة أخيه بشر بن مروان، وكانت الأمور في العراق بالغة الفوضى والاضطراب، تحتاج إلى من يعيد الأمن والاستقرار، ويسوس الناس على الجادة بعد أن تقاعسوا عن الخروج
وركنوا إلى الدعة والسكون، واشتدت معارضت..هم للدولة، وازداد خطر الخو..ارج، وقويت شكوتهم بعد أن عجز الولاة عن كبح جماحهم.
ولبى الحجاج أمر الخلي..فة وأسرع إلى الكوفة، وفي أول لقاء معهم خطب في المسجد خطبة عاصفة أنذر فيها وتوعد المخالفين والخارجين على سلطان الخل..يفة والمتكاسلين عن الخروج لق..تال الخ..وارج الأزارقة
وخطبة الحجاج هذه مشهورة متداولة في كتب التاريخ، ومما جاء فيها، يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤ..ساً قد أينعت وحان قط..افها وإني لصاحبها، وإن أمير المؤ..منين نثر كِنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرّها عودًا، وأصلب..ها مكْسِرًا فرماكم بي، لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلالة
وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلّب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلّف بعد أخذ عطائه ثلاثة أيام إلا ضربت عن.ق..ه
وأتبع الحجاج القول بالفعل، ونفذ وعيده ب..قت.ل واحد ممن تقاعسوا عن الخروج للقت..ال، فلما رأى الناس ذلك تسارعوا نحو قائدهم المه..لب لمحاربة الخو..ارج الأزارقة، ولما اطمأن الحجاج إلى استقرار الأوضاع في الكوفة، ذهب إلى البصرة تسبقه شهرته في الحزم
وأخذ الناس بالش..دة والصرامة وخطب فيهم خطبة منذرة زلزلت قلوبهم، وحذرهم من التخلف عن الخروج مع المهلب قائلاً لهم، إني أنذر ثم لا أنظر، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أعفو
ولم يكتف الحجاج بحشد الج..يوش مع المهلب بل خرج في أهل البصرة والكوفة إلى رشتقباذ ليشد من أزر قائده المهلب ويساعده إن احتاج الأمر إلى مساعدة، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان
إذ حدثت حركة تم..رد في صفوف الجي..ش، وتزعم الث..ورة رجل يدعى ابن الجارود بعد أن أعلن الحجاج عزمه على إنقاص المحاربين من أهل العراق 100 درهم، ولكن الحجاج تمكن من إخماد الفتنة والقضاء على ابن الجارود وأصحابه.
وما كاد الحجاج يقضي على فتنة الخو..ارج حتى شبت ث..ورة عارمة دامت ثلاث سنوات زعزعت استق..رار الدولة، وكادت تعصف بها، وكان يقودها عبد الرحمن بن الأشعث أحد رجالات الحجاج الذي أرسله على رأس حم..لة جرارة لإخضا..ع الأجزاء الشرقية من الدو..لة، وبخاصة سجستان
وكان الحجاج يتابع سير حملات قادته يوفر لها ما تحتاجه من مؤن وإمدادات، ولم يبخل على قادتها بالنصح والإرشاد؛ حتى حققت هذه النتائج العظيمة، ووصلت رايات الإس..لام إلى حدود الصين والهند.
إصلاحات الحجاج بن يوسف
وفي الفترة التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، ولم تشغله الفترة الأولى من ولايته عن القيام بها، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها
فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإهراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها
وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين
ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكانًا مناسبًا، وشرع في بنائها سنة 83هـ/ 702م، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقرًّا لحكمه.
وكان الحجاج يدقق في اختيار ولاته وعماله، ويختارهم من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس، وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي، والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق.
ويذكر التاريخ للحجاج أنه ساعد في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وضبط معيارها، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث؛ وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة.
نقط المصحف
ومن أجلِّ الأعمال التي تنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ فقام نصر بن عاصم بهذه المهمة العظيمة، ونُسب إليه تجزئة القرآن
ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار
الحجاج الثقفي في التاريخ
اختلف المؤرخون القدماء والمحدثون في شخصية الحجاج بن يوسف بين مدح وذم، وتأييد لسياسته ومعارضة لها، ولكن الحكم عليه دون دراسة عصره المشحون بالفتن والقلاقل ولجوء خصوم الدولة إلى السيف في التعبير عن معارضتهم لسياسته أمر محفوف بالمزالق، ويؤدي إلى نتيجة غير موضوعية بعيدة عن الأمانة والنزاهة
ولا يختلف أحد في أنه اتبع أسلوبًا حازمًا مبالغًا فيه، وأسرف في قتل الخارجين على الدولة، وهو الأمر الذي أدانه عليه أكثر المؤرخين، ولكن هذه السياسة هي التي أدت إلى استقرار الأمن في مناطق الفتن والقلاقل التي عجز الولاة من قبله عن التعامل معها
ويقف ابن كثير في مقدمة المؤرخين القدماء الذين حاولوا إنصاف الحجاج؛ فيقول، إن أعظم ما نُقِم على الحجاج وصح من أفعاله سف..ك الد..ماء، وكفى به عقوبة عند الله، وقد كان حريصًا على الجهاد وفتح البلاد
وكانت فيه سماحة إعطاء المال لأهل القرآن؛ فكان يعطي على القرآن كثيرًا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا 300 درهم
وقد وضعت دراسات تاريخية حديثه عن الحجاج، وبعضها كان أطروحات علمية حاولت إنصاف الحجاج وتقديم صورته الحقيقية التي طمس معالمها وملامحها ركام الروايات التاريخية الكثيرة، وتوفي الحجاج بمدينة واسط في يونيو 714م
مواقع إلكترونية – موقع إسلام