“ستيف جوبز”.. طريق محفوف بالأشواك لصاحب التفاحة التي غيّرت العالم

 

 

منذ خلق الإنسان وجدت ثلاث تفاحات غيّرت مجرى التاريخ، الأولى خلقت مأساة البشرية حين قُدمت تفاحة مسمومة لأبي البشر آدم، فطُرد الإنسان من الجنة، أما الرواية الثانية فكانت تفاحة “إسحاق نيوتن” التي سقطت من شجرة يتظلل بها، فألهمته البحث في الجاذبية وقوانينها، والثالثة هي تفاحة “ستيف جوبز”.

وإذا كانت تفاحة حواء قد أخرجت الإنسان من الجنة، فقد أدخلت التفاحة المقضومة العلامة التي خلقها “ستيف جوبز” الإنسان مرة أخرى إلى جنة رقمية جعلت العالم أسعد، حتى أن الجميع أصبح يتسابق ليكون له نصيب من تلك الجنة وثمارها، يدسها في جيبه، أو يحملها بفخر في حقيبة صغيرة.

أصبحت التفاحة المقضومة شعار شركة “آبل” الأمريكية، وهي علامة يتفاخر العالم الحديث بها، في الوقت الذي قد يكون أكثر الناس لا يعلمون فيه أن تلك التفاحة المقضومة بكل ما حملته من إبداع؛ قد اعتصرت كل بهائها من آلام “ستيف جوبز” المرافقة له منذ ولادته، والذي فتح الباب لكل البشر أخيارا كانوا أم أشرارا، ليدخلوا جنته التي أسسها وخرج هو منها مثل نبي منبوذ، ليعود إليها وهو يستعد لمغادرة الحياة.

سرطان البنكرياس.. سر كتابة المذكرات الذي لم يعلن قط

في الواقع، كان الألم قرين “ستيف جوبز” الوفي الذي تبعه منذ طفولته إلى أن أنهكه السرطان، وطرحه صغيرا مهزوما رغم كل ما قدم للبشرية.

يروي “والتر إيزاكسون” مؤلف مذكرات “ستيف جوبز” إنه في العام 2004 اتصل به وطلب منه كتابة سيرته الذاتية، وكان “إيزاكسون” قد نشر كتابا عن حياة “بنجامين فرانكلين” حينها، وبدأ بكتابة سيرة “آلبرت آنشتاين”، وظن أنه من المبكر جدا أن يتبع سلسلة كتبه تلك كتابا آخر عن حياة “ستيف جوبز”، فرفض ذلك الطلب قائلا: لن أقوم بذلك الآن، لكن ربما بعد عقد أو اثنين أو بعد تقاعده.

في ذلك العام، لم يكن “ستيف جوبز” قد تجاوز التسع وأربعين عاما، لكن ما لم يعلمه “والتر إيزاكسون” أن صاحب التفاحة المقضومة كان قد استشعر نهايته بعد تشخيص مرضه بسرطان البنكرياس، وهو أحد الأسرار التي لم يبح بها “جوبز” حتى لا تسقط مملكته.

يقول “جوبز” في مذكراته: هناك الكثير من الأمور التي فعلتها ولا أفخر بها، مثل التخلي عن ابنتي عندما كنت في الثالثة والعشرين من العمر، والطريقة التي تعاملت بها مع الأمر، لكن لا توجد لدي أي أسرار أخشى ظهورها.

في العام 2009 بدأ “والتر إيزاكسون” -صاحب القلم الذي خطّ سيرة عباقرة كثر- في مقابلة “ستيف جوبز” ليدوّن حياته، وتعددت لقاءاته على مدى عامين بين الخصوم والأصدقاء والعائلة، ووصفت دار النشر “سايمون أند شوستر” (Simon & Schuster) “ستيف جوبز” بأنه شخص “تسوقه الشياطين وتقوده المتناقضات، فهو الذي يدفع ملايين الأشخاص لشراء منتوج الشركة، وفي المقابل يمكن أن يدفع من يحيطون به إلى اليأس”.

لم يكن ذلك التناقض جديدا على جوبز، فقد شبهه “غيرينو دي لوكا” مدير شركة لوجيتاك الأمريكية في مقال نشره موقع “بيلان” في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2011 بأنه مثل “هاري هوديني” الساحر الأمريكي العالمي الذي عُرف بأفضل حيله، وهي الهروب من صندوق مغلق مليء بالماء وهو مقيّد بالسلاسل الحديدية، ويقول “دي لوكا”: حين يقف أمامك “جوبز” يكون الأمر شبيها بوقوفك أمام “هوديني”، فأنت تعرف كل حيله وكل خطواته المليمترية، لكن حين يتحرر “هوديني” من سلاسله يحكمك تأثير ساحر، وهو الحال حين يقف “ستيف” ليتكلم أمام الجمهور. لم يكن “جوبز” اجتماعيا، بل كان رجلا حزينا وغاضبا، لكنه ظل في الوقت ذاته ساحرا قادرا على إغراء أي جمع.

من الواضح أن تشبيه “ستيف جوبز” بـ”هوديني الساحر المقيّد بالسلاسل” هو أكثر الأوصاف سحرا ودقة على الإطلاق، وهو الذي عاش مقيّدا بألم هجر عائلته له، فقاد رحلة خلوده وهو يجرّ سلاسل ماضيه مصحوبا بذلك الألم.

احتفظ “ستيف جوبز” بهوية أبويه سنوات طويلة، لكنه لم يستطع أن يدس ذلك السر إلى حين وفاته، فحين يقف “جوبز” بظله وبملامحه الحادة وأنفه الدقيق وعينيه المليئتين بألم وسخط واضح؛ يدرك المتمعن في صورته قصته، وأنه فعلا ابن متروك تبيّن أنه يحمل دماء رجل سوري عربي وأم أمريكية.

ولد “ستيف جوبز” في الرابع والعشرين من فبراير/شباط من العام 1955، حيث كان أبوه عبد الفتاح الجندلي سوريّا من مدينة حمص وينتمي لعائلة ثرية، أما أمه “جوان شيبل” فقد انحدرت من عائلة كاثوليكية محافظة ذات أصول ألمانية، وتقول واحدة من الروايات أنه بعد زيارة “شيبل” لحمص اكتشفت أنها حامل، ولم يكن الأبوان حينها قد تجاوزا 23 عاما.

كان أبو جوان على فراش الموت، وهددها بعدم الاعتراف بها ضمن عائلة شيبل إذا تزوجت عبد الفتاح الجندلي، فاحتفظت بسر حملها إلى حين إيجاد عائلة تتبنى طفلها

يذكر “ستيف جوبز” في مذكراته أن أمه بقيت تحت رعاية طبيب إلى حين وضعت طفلها، واشترطت أن تكون العائلة التي ستتبناه ذات مستوى تعليمي رفيع حتى يتمكن طفلها من الدراسة في المستقبل، وبالفعل عثرت على محام وزوجته، لكن الزوجين تراجعا بعد ولادة الطفل، بذريعة أنهما يرغبان بطفلة، فطرح ستيف للتبني دون اسم، واستقبلته عائلة ميكانيكي لم يتجاوز مستواه الدراسة الثانوية، وأعطى الزوجان “بول” و”كلارا” اسما لابنهما “ستيف بول جوبز”.

لم تكن “جوان” سعيدة بالعائلة المختارة، ورفضت توقيع وثائق التبني، لكن كان مقدرا على الطفل “ستيف” الذي لُفظ مرتين، الأولى من أبويه البيولوجيين، والثانية من عائلة المحامي أن يتخذ اسم “بول جوبز”. يقول ستيف جوبز في مذكراته متحدثا عن ألم هجره إنه في السادسة أو السابعة من عمره كان جالسا على العشب في حديقة منزله، وأخبر الفتاة التي تسكن في المنزل المقابل قصته، فسألته الفتاة هل يعني أن والديك الحقيقيين لم يرغبا في الاحتفاظ بك؟

ويضيف “جوبز”: أتذكر أن الأفكار عصفت بذهني، وأتذكر أنني عدوت إلى المنزل باكيا، وقال والداي عليك أن تفهم، ونظرا إلى عيني مباشرة قائلين، لقد رغبنا خصيصا في الحصول عليك.

يقول “والتر إيزاكسون” كاتب سيرة “جوبز”: إن كلمات مثل المهجور والمختار والمميّز أصبحت فيما بعد جزءا من شخصية جوبز، والطريقة التي ينظر بها لنفسه.

يجزم المحيطون بـ”ستيف جوبز” بأن تخلي عبد الفتاح الجندلي و”جوان شيبل” عن ابنهما حتى قبل أن يعطياه اسما، ترك الرجل يتخبط في ألم دائم، إذ يقول “ديل يوكام” (وهو أحد زملائه الذين عملوا معه مدة طويلة) في شهادته: إن رغبة “ستيف جوبز” في التحكم التام في أي أمر يقوم به ينشأ عن شخصيته وحقيقة أن والديه قد تخليا عنه بعد مولده، فهو يرغب في التحكم ببيئته، ويرى المنتوج امتدادا لذاته.

وقد أسرّ “جوبز” لصديقه “غريغ كالهون” عن ذلك الألم، إذ يقول “كالهون”: لقد تحدّث “ستيف” معي كثيرا عن ترك والديه له، وعن الألم الذي سببه ذلك. لقد جعله ذلك الأمر مستقلا، فقد عاش بطريقة مختلفة، وهذا بسبب أنه يحيا في عالم مختلف عن الذي ولد فيه.

ووصفت “كريسان برينان” أم طفلته التي تخلى عنها بدوره قبل أن يعترف بها لاحقا؛ أن حقيقة تعرض “ستيف جوبز” للتبني تركته حطاما، وأن هذا ما يفسر بعضا من سلوكه ومن يُترك، يَترُك.

يعلم كل من حول “ستيف جوبز” أنه رجل مجروح وقاس وغاضب أيضا، حتى صاحب المطعم في وادي السيلكون الذي كان يعمل لصالح شركة “آبل”، إذ يقول: إن “جوبز” كان رجلا غير سعيد، ولم يحب العالم كما هو، كان غاضبا لكنه كان عبقريا، فهو مصنوع من طراز “إيديسون” أو “فورد”، وبدلا من سؤال المستهلك عما يتوقعه، تمكن من إعطائه ما يريد دون أن يعرف ذلك، لقد شكل عالمنا اليومي، نحن مدينون له بشاشات الحاسوب والفأرة والهواتف الذكية الملونة، لقد أنشأ “ستيف جوبز” إمبراطورية تتجاوز نفسه.

يرفض ستيف جوبز الاعتراف بأن ألمه من هجر والديه له وهو رضيع لم يتجاوز ساعات من العمر رافق مسار مجده، بل يصف ذلك بأنه هراء وأمر سخيف، ويقول في مذكراته: إن معرفتي بأنني متبنى جعلني أكثر استقلالية، لكنني لم أشعر أبدا أنني مهجور، لقد شعرت دائما بأنني مميّز.

ويغضب “جوبز” عند الإشارة إلى “بول” و”كلارا” بأنهما والداه بالتبني، ويصفهما بأنهما والداه بنسبة ألف بالمئة، في المقابل كان يتحدث عن والديه الحقيقيين بقسوة، خاصة أنه يعلم أن لديه أختا تدعى منى لم يتخل عنها والداه مثلما فعلا مع “ستيف”، رغم أن علاقته بها أصبحت قوية جدا، ويختزل “جوبز” علاقته بهما بالقول: لقد كان مجرد الحيوان المنوي والبويضة اللذين نتجت منهما، هذه ليست قسوة، إنها الحقيقة، مجرد مسألة بيولوجية وليس أكثر من ذلك.

كان ذلك الوصف القاسي يخفي ألم “جوبز” الذي حاول إخفاءه عن مؤلف سيرته الذاتية وعن الملايين من محبيه، فهو راعي “آبل”؛ الجنة الإلكترونية التي بناها لجميع البشر، فكان بمثابة “المختار المميّز” الذي مشى على طريق من الشوك ليسعد الآخرين.

من الملهم حقا أن يعلم محبو “ستيف جوبز” أن مجده الذي صنعه لم يكن وليد جامعات أمريكا الراقية منها أو حتى المتوسطة، بل العكس، فقد قادته عائلته التي تبنته بعفوية نحو مجده، أو ربما هي الأقدار التي هيأته ليكون “نبي التكنولوجيا”، فقد عاش “ستيف جوبز” في حي متواضع في لوس ألتوس كاليفورنيا الذي يعج بالمهندسين، وذلك قبل أن تحيط به استثمارات عسكرية ضخمة، وبدا أن تلك الرقعة كانت المدرسة الحقيقية التي صنعت “ستيف”، وهيأته للابتكار.

حين عرضت ابنها للتبني، لم تحظ “جوان شيبل” بالعائلة التي أراداتها لابنها، بل العكس، فقد تربى “ستيف” الطفل في حضن أب مهوس بالميكانيكا، وأم تعمل في مجال المحاسبات، فلم يكن أي منهما خريج إحدى الجامعات العريقة، وخشيت “جوان” على مستقبل الطفل الصغير الذي قد لا يحظى باهتمام كاف يقوده إلى مدارج الجامعة، وكانت الأم محقة بعض الشيء، لأن “بول جوبز” وقف يوما مواجها “ستيف” الطفل، وقال له “ستيف لقد أصبحت هذه طاولة العمل الخاصة بك الآن”، مشيرا إلى طاولة في مرآب المنزل، فقد كان “بول” محبا للميكانيكا والأعمال اليدوية، وهو شيء يفخر به “ستيف جوبز”، فيستحضر في مذكراته “الحِس التصميمي الجيد” لأبيه الذي شارك طفله في بناء سور الحديقة.

يقول “والتر إيزاكسون”: بعد خمسين عاما لا يزال السور محيطا بالحديقتين الجانبية والخلفية لمنزل ماونتن فيو، وعندما كان “جوبز” يريني هذا السور، ربّت على ألواحه مستعيدا ذكرى الدرس الذي غرسه فيه والده الذي كان يقول له إنه من المهم أن تصنع خلفيات الخزائن والأسوار جيدا، حتى ولو كانت مخفية وغير ظاهرة.

لقد تعلم “ستيف” الطفل الدرس، واهتم ببناء التفاصيل بمثالية كبرى، حتى تلك التفاصيل المخفية التي لا يمكن رؤيتها أو ملاحظتها.

أحاطت بإقامة عائلة “ستيف جوبز” شركات عملاقة، وبدا أن الحي وما جاوره يعجّ بقصص النجاح، لعل أهمها قصة “ديفيد باكارد” و”بيل هيوليت” الذي حوّل مرآب منزله إلى ورشة تقاسمها مع “باكارد”، واحتضنت أول اختراع لهما، وهو مولد الذبذبات الصوتية، ثم تأسيس شركة “هوليويت باكارد” التي تعرف باختصار باسم “إتش بي”، وهي أهم الشركات المنتجة للإلكترونيات.

وحين بلغ “ستيف جوبز” 10 سنوات من عمره، كانت شركة “إتش بي” قد أصبحت شركة عملاقة، ثم تتالت على الحي أو ما يعرف بالوادي تأسيس شركات أخرى متخصصة في الإلكترونيات، ولم يمر العام 1971 حتى أصبح ذلك الحي معروفا باسم “سيليكون الولايات المتحدة الأمريكية”.

ويقول ستيف جوبز في مذكراته “لقد نشأت متأثرا بتاريخ مكان ولادتي، مما جعلني أرغب في أن أكون جزءا منه”، حينها لم يتجاوز جوبز سن الستة عشر عاما.

الجزيرة الوثائقية

Exit mobile version