عرب وعالم

وُصف بأنه واحد من سبعة علماء على مستوى العالم يعرفون أسرار الذرة في زمنه.. ماذا تعرف عن آينشتاين العرب علي مصطفى مُشرّفة؟

وُصف بأنه واحد من سبعة علماء على مستوى العالم يعرفون أسرار الذرة في زمنه، وتكريما له أنشأت حكومة المملكة المتحدة منحة تعليمية لدراسة الدكتوراة تحت اسم “منحة نيوتن/مشرفة للدكتوراه في المملكة المتحدة”.

ولد علي مصطفى مشرفة في 11 يوليو/تموز 1898 في حي المظلوم بمدينة دمياط الساحلية (شمال شرق مصر)، وكان الابن الأكبر لمصطفى مشرفة أحد وجهاء تلك المدينة وأثريائها.

يقدم فيلم “آينشتاين العرب.. علي مصطفى مشرفة” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية قصة حياة أول من كتب باللغة العربية عن التعريف بالذرة والقنبلة الذرية، ويتحدث عن تأثره بالحركة الوطنية المصرية، واهتمامه بتبسيط العلوم للقارئ العربي، وكذلك اهتماماته الأدبية والموسيقية.

يبدأ الفيلم بالحديث عن وفاة هذا العالم العربي في 15 يناير/كانون الثاني من عام 1950، ويطرح تساؤلات عنما إذا كانت وفاته المبكرة نسبيا -وهو في الـ51 من عمره- طبيعية أم أن هناك من تسبب بموته؟

اختلف الناس في نظرتهم إلى العالم مشرفة -كما يقول الدكتور عادل عطية أستاذ الرياضيات بجامعة القاهرة- فمنهم من يراه الرجل الموسوعي المثقف، وبعضهم يرى فيه ذاك الرجل العالمي، وآخرون يرون فيه مؤسس كلية العلوم، “أما أنا فأرى فيه إنسانا حيا وصادقا ووطنيا قدم علمه خدمة لمصر”.

بعد مولده بنحو تسع سنوات تأثرت تجارة والده بأزمة القطن التي هزّت الاقتصاد المصري في ذلك الحين، وخسر الوالد كل ثروته وأرضه وماله ومنزله، ثم توفي بعد ذلك بعام واحد، فعاش مشرفة الابن طفولة بائسة، وعمل بعد وفاة والده كي يعيل عائلته المكونة من أمه وأخته نفيسة وإخوته مصطفى وعطية وحسن، “كان شعوره بالمسؤولية صفة لازمته طيلة حياته”.

مشرفة النابغة

التحق علي بمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وانتقل بعدها للمدرسة السعيدية بالقاهرة ودرس بالمجان بسبب تفوقه، بعد ذلك دخل دار المعلمين العليا، ويقول مدير مركز الفيزياء النظرية الدكتور شعبان خليل إن دخوله دار المعلمين كان جنونيا لأنه كان قد حصل على المركز الثاني على مستوى مصر، بينما رأى أستاذ الرياضيات بكلية العلوم الدكتور هاني الحسيني أن دار المعلمين لعبت دورا مهما في حياة مشرفة.

تخرج فيها عام 1917، وكان لديه طموح أن يصبح عالما، وحصل على بعثة علمية وسافر إلى لندن، حيث التحق بكلية نوتنغهام، وتقول الدكتورة سلوى مشرفة إنه كتب مذكراته هناك وكانت تدل كتاباته على شخصية متدينة جدا.

في أثناء سفره وقعت ثورة 1919، وكتب مشرفة إلى صديقه محمود النقراشي أحد زعماء الثورة يخبره أنه يريد العودة إلى مصر للمشاركة في الثورة، وكان جواب النقراشي له “نحن نحتاج إليك عالما أكثر مما نحتاج إليك ثائرا، أكمل دراستك ويمكنك أن تخدم مصر في جامعات إنجلترا أكثر مما تخدمها في شوارع مصر”.

انتقل بعدها إلى كلية “كنغز كولج” وقد حصل على بكالوريوس العلوم بمرتبة الشرف، وحصل على دكتوراه فلسفة العلوم من جامعة لندن سنة 1923، كما حصل عام 1924 على الدكتوراه في العلوم من جامعة لندن، وهي أعلى درجة علمية في العالم، حيث لم يتمكن من الحصول عليها إلا 11 عالما في ذلك الوقت، وكان أول مصري يحصل على هذه الدرجة العلمية.

مصر ومشرفة

كان عام 1923 حاسما في مصر –كما يقول الكاتب محمد السيد- إذ حصلت فيه البلاد على أول دستور لها، كما أن السلطان أحمد فؤاد تحول إلى ملك، وانتُخب فيها أول برلمان على أساس حزبي. “كان الحس الوطني عاليا، وهنا لا نستطيع الفصل بين مشرفة والمناخ العام لمصر”.

يقول أستاذ التاريخ عاصم الدسوقي إن المناخ الثقافي العام في مصر في عهد محمد علي شهد تطورا ملحوظا، إذ أرسل بعثات متخصصة بالهندسة والأشغال العسكرية والعلوم الهندسية وبعض البعثات في الإدارة العامة، كما أُنشئت الجامعة المصرية عام 1908 وكانت جامعة أهلية، وفي عام 1925 تأسست الجامعة الحكومية، وقد اشتغل مشرفة أستاذا مساعدا فيها رغم صغر سنه ورغم الاعتراضات على ذلك.

أصبح مشرفة عميدا لكلية العلوم، وساعد في تمصير الجامعة بعد أن كان معظم طاقم التدريس والإدارة من الأجانب، ويقول محمد السيد إن أهم منجزات مشرفة وهو عميد لكلية العلوم بجامعة القاهرة، أنه ربطها بكلية العلوم بجامعة لندن ووحّد الأسئلة، وكانت الامتحانات تصحّح في لندن، وأصبحت شهادة كلية العلوم بجامعة القاهرة تعادل مثيلتها بجامعة لندن.

وقد وضع قواعد واضحة وراقية حافظ فيها على استقلاليتها، وأعطى للمدرس حصانة، وألغى الاستثناءات بكل صورها، وحرص على مبدأ تكافؤ الفرص، وقد أصبحت سمعة كلية العلوم تضاهي مثيلاتها بالعالم، واستمر عميدا للكلية 15 عاما.

وهنا يقول الدكتور هاني الحسيني إن مشرفة قام بكل الأدوار التي تقوم بها وزارة التعليم العالي وهيئة البعثات، وكان كثير من أساتذة كلية العلوم وقتها يرقّون إلى درجة العالمية.

ويؤكد الدكتور شعبان خليل أن ذلك الجيل “هو الذي بنى مصر وقاوم الاحتلال والجهل والفقر”، وكان هدف ذلك الجيل من العلماء التطبيق والاستفادة من العلم في مشروع النهضة الذي هدف لإلغاء التبعية للغرب.

أما الدكتور عادل عطية فيقول: كان الهدف كيف نحقق نهضة علمية في مصر؟ وكيف نوفر كادرا تعليميا على مستوى يرقى إلى العالمية.

قام مشرفة بتأليف بعض الكتب المبسطة عن العلوم مثل كتاب مطالعات علمية، والذرة والقنبلة الذرية، وكتاب نحن والعلم.. كانت كتاباته تتحدث بشكل مبسط وواضح عن التفكير العلمي، وكان عليه جهد تأسيس المعاجم العلمية والتدريس في كلية العلوم، كما استطاع إقناع الإذاعة ببث أحاديث علمية تخاطب الجماهير العامة بشكل مبسط.
أصبح مشرفة عميدا لكلية العلوم، وساعد في تمصير الجامعة بعد أن كان معظم طاقم التدريس والإدارة من الأجانب

الفن والموسيقى.. بحوث ورعاية

كان مشرفة يربط كثيرا بين العلم والفنون والحياة الاجتماعية والقوانين التي تضعها الدولة كما يقول أستاذ الموسيقى بمعهد الكونسرفتوار بالقاهرة فوزي الشامي، وقد أنشأ لأول مرة أثناء وجوده عميدا لكلية العلوم كرسيا في علوم الموسيقى، كما صمم آلة بيانو شرقي أو عربي، لأنها كانت تضم بين المسافات الأصوات والمسافة الموسيقية التي كانت تعرف بـ”ثلاث أرباع التون”.

وقد قام ببحث في المقامات الموسيقية المصرية الحديثة بالاشتراك مع محمود مختار، وكان الهدف من هذا البحث قياس نسب الترددات للأصوات وقياس المسافات ما بينها لتحديد المقامات المصرية الحديثة بشكل مقنن حديث لأن المقامات تختلف من قطر عربي إلى آخر.

وشارك مشرفة في العام 1942 في تأسيس الجمعية المصرية لهواة الموسيقى، وكانت تلك خطوة جديدة في مجال الموسيقى، وهدفت إلى ترجمة الأغاني في الأوبرا من اللغات الأوروبية كالألمانية والفرنسية والإيطالية إلى اللغة العربية.

يقول الدكتور محمود بيومي: كانت تلك خطوة ريادية في العالم، ولكن واجهه إشكال دولي وهو هل يحق لأحد نقل ترجمات للأغنية الأوبرالية إلى لغة أخرى، وهل سيكون للأغنية ذائقة فنية كالتي وضعها الملحن الأصلي للعمل؟
قام مشرفة بتأليف بعض الكتب المبسطة عن العلوم مثل كتاب مطالعات علمية، والذرة والقنبلة الذرية

مُشرَّفة.. إنجازات مُشرِّفة

يُجمع المتحدثون في الفيلم على أن مشرفة حقق إنجازات علمية كبيرة جدا ونجاحات متتالية وسريعة في وقت قصير، وكان عالما عالميا، لكن إنجازاته العلمية قلت في مقابل أدواره التي قام بها عند عودته لمصر، يقول الدكتور هاني الحسيني “إن مشرفة ضحى بمستقبله العلمي”.

ويختلف الدكتور عادل عطية مع هذا الرأي فيقول “على العكس تماما كان مشرفة ينشر بحوثه بشكل دوري كل سنة أو سنتين في المجلات العلمية، وكان آخر بحث قدمه عام 1949″، كما يرى أن “مشرفة خير من أنجبت مصر في مجال العلم”.

كان علي مشرفة على اتصال دائم ببحوثه العلمية، واستطاع أن يواصل بجهد بحوثه التي نشرها وأبهرت العالم، وقد نشرت في أرفع المجلات العلمية العالمية.

ومن تلك البحوث حركة الإلكترون كظاهرة موجبة، وميكانيكية الموجات، والمفهوم المزدوج للمادة والإشعاع، ولم يكن هذا إلا تمهيدا للبحث الذي نشره سنة 1932 بعنوان “هل يمكن اعتبار الإشعاع والمادة صورتين لحالة كونية واحدة؟”، وقد وصل عدد أبحاثه إلى 25.

ويرى محمد السيد أن الحديث عن مشرفه على أنه آينشتاين العرب كلام “لا يخلو من الصحة”، وعند وفاته نعاه آينشتاين وقال “لقد خسرنا عالما جليلا”.

ويقول الدكتور شعبان خليل “أعتقد أن أبحاث مشرفة كانت مهمة في ذلك الوقت ولكنها في الطريق الرئيسية، لكن ليست العلامة الفارقة التي نرجع لها اليوم، ولكننا نحترم ما قدم، ويرى أن الربط بينه وبين آينشتان كان فقط لأنه قدم أبحاثا في النسبية ودرس هذه المواد، وهو أمر بدهي لكل من يدرس الفيزياء”.

وقد شكك شعبان ببرقية التعزية من آينشتاين، وقال “هذا ليس ذنب مشرفة ولا عائلته ولكن هو من نَسْجِ خيالنا، وهي تشبه الأساطير التي نريد تصديقها”.

أما ما يتعلق بالقنبلة الذرية فإن الدكتور شعبان يرى أنه لم يكن لمشرفة أي علاقة بها، “ولم يكن له علاقة بمنهاتن ولا يوجد أي رابط حقيقي، لكن قد نسيء الفهم في طريقة تخليد رموزنا للأسف”.

ويقول الدكتور عادل عطية إنه بعد هيروشيما وناغازاكي بـستة أشهر أصدر كتاب الذرة والقنبلة الذرية، وكان رأيه أن الولايات المتحدة ضربت اليابان لأن الأخيرة ليس لديها قنابل، وكان يرى ضرورة وجود هذه القنابل كأداة للردع من أي اعتداء، ولكنه كان يرفض الحصول عليها لاستخدامها.
كان علي مشرفة على اتصال دائم ببحوثه العلمية، واستطاع أن يواصل بجهد بحوثه التي نشرها وأبهرت العالم

ارتبط اسم علي مشرفة بالذرة في أذهان المصريين، وقد كان أول من كتب شارحا القنبلة الذرية ومطالبا الحكومة بإنشاء معهد لبحوث عن الذرة، وداعيا لاستخدام الذرة بالطرق السلمية كتوليد الطاقة، لكن الدكتور بكلية العلوم أحمد عامر يقول إن هذه الأشياء فيها الكثير من المبالغة، لا سيما إذا عرفنا أن أسرار الذرة هي أسرار تقنية وليست أسرارا علمية.

أما مدير مركز الفيزياء النظرية البريطانية بالقاهرة الدكتور عمر الزنط فيقول “هل يمكن لأي شخص قدم بحثا أن يقدم مشروعا كمشروع منهاتن؟ “إن ما فعله مشرفة مجرد اقتراح ولا أظن أن إسرائيل قتلته”.

أما ابنته سلوى فتقول إن الشيء الوحيد الذي أخبر والدي والدتي به أنه اكتشف شيئا سيُتوّجه طيلة حياته.

يرى عادل عطية أن موته مسموما أمر مرجح، ويجب ربطه مع وفاة العالمة في الذرة سميرة موسى.

مشرفة والملك فاروق.. علاقة متوترة

كان مشرفة مقتنعا بالحضارة الغربية بمعنى المشاركة في نظام الحكم من قبل المواطنين، وكان الملك وأعوانه لا يحبون مشرفة لأنه رجل مستقيم، وكانت العلاقة بينه وبين الملك فاروق متوترة.

وبالرغم من أن الملك منحه لقب الباشوية سنة 1946 فإن مشرفة كان منتقدا للألقاب التي يمنحها الملك، ولا يعتد إلا بدرجاته العلمية، مما أثار حفيظة الملك ومنع تعيينه مديرا لجامعة القاهرة، بل وعين عميد كلية الطب إبراهيم شوقي عام 1947 مما ترك أثرا في نفس مشرفة، كما حُرم من وكالة الجامعة ومُنع من السفر لجامعة برنستون بأمريكا عندما دُعي للتدريس.

ويقول الدكتور محمد السيد “بدأت المشكلة بينه وبين الملك عندما منح درجة الباشوية”، ويقول عادل عطية “عندما مرض المدير كان مشرفة الوكيل، وكان الملك سعود في زيارة إلى مصر وكان سيزور الجامعة، فمنح الملك علي مشرفة لقب الباشوية حتى يليق باستقبال الملك”.

ويتابع أن مشرفة كان وقتها في رحلة للأقصر، وعند عودته وهو ينزل القطار استقبله أخوه وقال له: مبروك يا باشا، لكن مشرفة كان يعتز بعلمه ولقبه كدكتور لأنه حصل عليه بمجهوده.

وطُلب منه الذهاب إلى قصر عابدين وفقا للبروتوكول ليكتب كتاب شكر للملك، لكنه لم يذهب وفقا لحديث ابنته سلوى، وبعد ذلك دخل مع الملك في سلسلة من المضايقات.

ومنع من الجوائز العلمية وضاقت الحياة عليه، فقرر السفر وقد تلقى دعوة عمل من جامعة برنستون، لكن الملك وقف له بالمرصاد، ومع إصراره على السفر سمح له لكن منع عنه المال.

سافر إلى لندن وساءت حالته الصحيه هناك، ثم غادرها إلى سويسرا من أجل العلاج، وطلبت زوجته من مكرم باشا عبيد -وكان صديقه- المساعدة، في هذه الأثناء وُلدت ابنته سلوى فعاد إلى مصر، وهنا تقول سلوى إنه قال لوالدتها إنه لن يستطيع تربيتها “لأنه لم يبق أمامه سوى ثلاث سنوات”.
أحدثت وفاته صدمة كبيرة في أوساط الأكاديميين والعامة

شهيد العلم والجامعة

مساء الأحد 14 يناير/كانون الثاني عام 1950 وقبل افتتاح البرلمان بيوم واحد، كان تشكيل الحكومة الجديدة قد أُعلن ومن بين أعضائها الدكتور طه حسين، وطلب مشرفة من زوجته الاتصال بطه حسين ليهنئه، وقال ممازحا “هل ستترك العلم يا طه لتكون وزيرا”؟ واعتذر عن عدم قدرته على الحضور لمرضه.

وعن هذه المكالمة يقول طه حسين “كان صوته أشبه الأشياء بصوت المتحدث عندما يتحرك القطار، يتحدث من النافذة فيستمع إليه الواقفون، وكان حديثه يتناقص شيئا فشيئا”.

تقول ابنته إنه توفي في سريره “وكنت موجودة بالصدفة، وكان لا يقبل أن يقترب منه أحد سواي لشعوره بالتقصير معي، قدمت له الشاي، ارتشف رشفة واحدة ثم توفي مباشرة”.

توفي علي مشرفة تاركا زوجته “دولة حسن باشا” وثلاثة أبناء هم مصطفى وكان عمره 14 عاما وناديا وكان عمرها 10 وسلوى وعمرها 3.

أحدثت وفاته صدمة كبيرة في أوساط الأكاديميين والعامة، وكان الأكثر تأثرا بالوفاة طلبة الجامعة الذين دعوا لجنازة صامتة وأطلقوا عليه لقب “شهيد العلم والجامعة”، ليكون ذلك أدل لقب على مسيرة عالم أفنى حياته في خدمة العلم والتأسيس للبحث العلمي في بلده مصر.

المصادر : مواقع الكترونية عربية – الجزيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى