أبو العلاء المعري هو شاعر وفيلسوف وأديب من العصر العباسي، أقبل على العلوم والمعارف يشق طريقه منذ طفولته، ورحل بين المدن يلتقي بالعلماء والأدباء، ويقرأ كتب التراث، ويطَّلع على آداب الشعوب وحضارات الأمم، فكانت رحلاته وأسفاره بين طرابلس الشاميَّة وبغداد والمدن الأخرى
نسبه ومولده
أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعرِّي، الشاعر المشهور، صاحب التصانيف المشهورة، أحد شعراء العصر العباسي والذي نال شهرة تجاوزت الآفاق وبلغت الحد
وذلك لشعره الوفير وأدبه الغزير وبلاغته وفصاحته وحسن بيانه، وما دار حوله من جدل كبير ولغط عظيم، ولا ريب أن كل ذلك نابع من تميزه ونبوغ فكره وتفرُّد معانيه ونظمه
وُلِد بمعرة النعمان ونُسِب إليها، وهي إحدى القرى ببلاد الشام، وكان ميلاده سنة 973م، وكان أبو العلاء غزير الفضل، شائع الذكر، وافر العلم، غايةً في الفهم
كان أيضاَ عالمـًا باللغة، حاذقًا بالنحو، جيِّد الشعر، وشهرته تُغني عن وصفه.
حياته
نشأ أبو العلاء المعري في بيت علم وقضاء ورياسة وثراء، حيث تولَّى جماعةٌ من أهله القضاء في الشام، ونبغ منهم قبله وبعده كثيرون وصلوا للرياسة ونبغوا في السياسة، وكان فيهم العالم والكاتب والشاعر
أُصيب أبو العلاء المعري بالعمى في بداية حياته حيث ذهب بصره في الرابعة من عمره، وعلى الرغم من هذا تعلَّم النحو واللغة العربية على يد والده وبعض علماء اللغة من أهل بلده، فأصبح ضليعًا في فنون الأدب حتى إنَّه قال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة
وقد رحل إلى طرابلس الشام وأخذ ما أخذ منها من العلم، ثم رحل إلى بغداد وأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى بلده ولزم منزله، وأخذ في التصنيف فكان يُملي تصانيفه على الطلبة.
رهين المحبسين
سمَّى أبو العلاء المعري نفسه رهين المحبسين للزوم منزله وذهاب بصره، وكان مقتنعًا بالقليل غير راغبٍ في الدنيا، فأَكْلُه العدس وحلاوته التين، ولباسه القطن وفراشه لباد، ومكث بضعًا وأربعين سنة لا يأكل اللحم
وكانت له نفسٌ قويَّةٌ لا تحمل منَّة أحد، ولو أنَّه تكسَّب بالشعر والمديح لكان ينال بذلك دنيا ورياسة، وهذا ما جعل الناس مختلفون فيه على مذهبين؛ فمنهم من يقول إنَّه كان زنديقًا ملحدًا، ومنهم من يقول إنَّه كان على غايةٍ من الدين والزهد
وقد صنَّف المعري نفسه كتاب (زجر النابح) لردِّ التهم التي أُلصقت به، وقد شارك في تبرئة المعري من تهمة الزندقة الكثيرين وأشهرهم في عصرنا: المحدِّث أحمد شاكر، والميمني، ومحمد الجندي، وعائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ، وغيرهم الكثير
وقد فنَّد تلك المزاعم والتهم بشكل علمي مفصل وبراهين جلية شيخُ العربية الأستاذ محمود شاكر أبو فهر رحمه الله، وذلك في كتابه الماتع النافع أباطيل وأسمار وقد لقبه فيه بشيخ المعرة ردًّا على تسمية ناقديه
ذكاء المعري
كان أبو العلاء المعري وافر البضاعة من العلم، غزير المادَّة في الأدب وإمامًا فيه حاذقًا بالنحو والصرف، وكان له حدَّةٌ في الذكاء والفهم وقوَّة الحافظة
وأمَّا اللغة وحِفْظ شواهدها فكان فيها أعجوبةٌ من العجائب؛ حتى قيل، إنَّه كان بالمشرق لغويٌّ وبالمغرب لغويٌّ في عصرٍ واحد لم يكن لهما ثالث وهما ضريران المشرقي وأبو العلاء المعري، والمغربي، ابن سيده الأندلسي
قال ما سمعتُ شيئًا إلَّا حفظته، وما حفظت شيئًا فنسيته ويُحكى أنَّه دخل مجلسًا فخطا الناس في المجلس، فقال له بعضهم ولم يعرفه: إلى أين يا كلب؟ فردَّ عليه أبو العلاء قائلًا، الكلب من لم يعرف للكلب كذا وكذا اسمًا
كان أبو العلاء المعرِّي يحفظ كلَّ ما يمرُّ بسمعه بطريقةٍ عجيبةٍ وغريبة، فقال تلميذه أبو زكريا التبريزي، كنت قاعدًا في المسجد أقرأ على أبي العلاء المعري شيئًا من تصانيفه
وكنت قد أتممت سنتين ولم أرَ أحدًا من بلدي، فدخل المسجد رجلٌ من بلدي للصلاة فرأيته وعرفته، فقال لي أبو العلاء: قم وكلِّمه، فقمت وكلَّمته بالأذربيجانيَّة شيئًا كثيرًا، فلمَّا عدتُ قال لي أبو العلاء، أيُّ لسانٍ هذا، قلت، هذا لسان أهل أذربيجان، فقال، ما عرفت اللسان ولا فهمته غير أنِّي حفظت ما قلتماه وأعاد لي ما قلناه لفظًا بلفظ
وممَّا قيل عن ذكاء أبو العلاء المعري، إنَّه كان له جارًا سمَّانًا، وكان لهذا الجار معاملةٌ مع رجلٍ من أهل البلدة، فجاءه ذلك الرجل وحاسبه برقاعٍ كان يستدعي فيها ما يأخذ منه
وكان أبو العلاء يسمع محاسبتهما وهو في غرفته، وبعد مدَّةٍ سمع أبو العلاء المعري السمَّان يتأوَّه ويتململ، فسأله عن حاله، فقال، كنت حاسبت فلانًا برقاعٍ كانت له عندي، وقد ضُّيِّعتْ ولا يحضرني حسابه
فقال له أبو العلاء، ما عليك من بأس، تعالَ إليَّ فأنا أُملي عليك حسابه، وجعل يُملي معاملته رقعةً رقعة، والسَّمَّان يكتبها الى أن فرغ وقام، وبعد أيَّامٍ يسيرةٍ وجد السَّمَّان الرقاع، فقابل بها ما أملاه عليه أبو العلاء، فلم تخرم حرفًا واحدًا
أعماله ومؤلفاته
إنَّ عبقريَّة أبو العلاء المعري تكمن في فلسفته؛ فهو فيلسوف عصره وشاعر زمانه، له كثيرٌ من التصانيف المشهورة والرسائل المأثورة في ضروبٍ مختلفة، فمنها، كتاب لزوم ما لا يلزم أو اللزوميَّات، ورسالة الغفران وهي أشهر مؤلفاته
وله كتاب فقرات وفترات أو فصول وغايات، والأيك والغصون في الأدب، ورسالة الملائكة وأدب العصفورين، واستغفر واستغفري وتاج الحرة في عظات النساء، وتعليق الجليس، وغير ذلك من المؤلَّفات والتصانيف التي زادت على خمسة وخمسين مصنَّفًا كما ذكر
وفاته
مرض أبو العلاء المعري، وبعد ثلاثة أيامٍ من مرضه تُوفِّي، وكانت وفاته في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة (449هـ= 1057م)، وكان عند وفاته له من العمر ستة وثمانين سنة، وقيل إنه عند موته وقف على قبره سبعون شاعرًا أنشد كلٌّ منهم قصيدةً يرثيه بها
مواقع الكترونية – قصة الاس..لام