طوال سنوات كان اليوتيوبر السوري، يوسف قباني، وزميله فايز كنفش، يبثان أبشع أنواع المحتوى التي يمكن تخيلها في مواقع التواصل الاجتماعي، من الخطاب العنصري إلى الصور النمطية وإهانة النساء وغير المسلمين والتحريض على رفع السلاح في أوروبا وتمجيد العنف والتيارات الإسلامية، وغير ذلك.
إلا أن حفيظة المتابعين العرب لم تتحرك إلا عند تصويرهما مقطع فيديو في دمشق، يظهر انتشار الفقر إلى حدود مروعة، ما اعتبره المعلقون “إهانة بحق الشعب السوري”.
وبالطبع فإن الفيديو الذي ظهر فيه قباني، وهو يوزع مبالغ مالية ضئيلة على الفقراء في الشوارع، موهماً إياهم بأنه رجل دين خليجي ثري، مستفز لأسباب سياسية وثقافية أكثر من كونه محتوى تافهاً يستغل أوجاع الناس ويهين كرامة السوريين أو يبث معلومات مضللة عن أقدم عاصمة في التاريخ، مثلما كررت التعليقات التي قال أصحابها في المجمل ما بثته الإعلامية الموالية للنظام، غالية طباع، العام 2020، بأن الفقراء لا يتواجدون في الشوارع بل يخفون أنفسهم في بيوتهم، وأن من “يدعون” الفقر هم مجرد أشخاص يحترفون التسول لا أكثر.
وفي بلد تفيد إحصاءات الأمم المتحدة بأن أكثر من 85% من سكانه يعيش تحت خط الفقر بسبب السياسات الرسمية، فإن الحديث الدائم عن الكرامة وعزة النفس والأنفة واضطرار قبول المساعدة من الآخرين، في كل مناسبة يأتي فيها ذكر الحالة الاقتصادية في البلاد، يقدم لمحة عن عنصرية عميقة ضمن المجتمع السوري لا يتم الحديث عنها كثيراً وتأخذ شكل “نزعة تفوق” تقول أن السوريين “خير أمة أخرجت للناس” من زوايا مختلفة: دينية إسلامية لكون دمشق حضرت في نبوءات دينية عن نهاية العالم ،ومسيحية من ناحية كون البلاد مهداً قديماً للمسيحية حيث ما زالت قرى في القلمون السوري تتحدث السريانية، وسياسية/ثقافية بسبب عقود من الحكم الشمولي الأسدي الذي عمل على تكريس تلك الفكرة بشكل ممنهج. وازداد حضور هذه الفكرة خلال العقد الماضي عبر مطالبات بعدم نقل صورة السوريين وهم في موقف ضعف، على اعتبار أن الفقر كذبة أطلقها المعارضون والدول المتآمرة على “الدولة السورية” بسبب “انتصاراتها على الإرهاب”.
وقباني هو لاجئ سوري في بريطانيا، يتابعه في “يوتيوب” أكثر من 2.4 مليون متابع، ويبث فيديوهات تلعب على فكرة وجود مسلم عربي تقي في أوروبا، لا يقوم فقط بالسخرية من الأوروبيين الكفار عبر خداعهم، بل يلاحق المسلمين هناك أيضاً من أجل إغوائهم لارتكاب “معاصٍ شرعية”، كشرب الكحول وتناول لحم الخنزير مقابل هاتف “أيفون” جديد، فيما يصور نفسه وهو يتوضأ ويصلي إلى جانب التركيز على فكرة “عنصرية الأوروبيين تجاه العرب” وغير ذلك من الأفكار السامة.
أما كنفش فيتابع قناته أكثر من 1.2 مليون شخص، ويبث الفيديوهات نفسها من ألمانيا، ووصل به الأمر إلى نشر مقطع فيديو العام 2020 ظهر فيه مرتدياً زي شيخ عربي وهو يجلد شخصا يرتدي قناعاً على شكل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، دفاعاً عن الإسلام بعد حادثة مقتل الأستاذ الفرنسي سامويل باتي. واتبع ذلك بفيديوهات تحريضية ضد الشرطة الألمانية، حمل فيها أسلحة مزيفة لإظهار تغلب العرب على الشرطة وقتلهم، ما استدعى تحركاً رسمياً ضده.
وليس معروفاً إن كان كنفش الذي ينشر فيديوهات من دمشق، منذ الصيف الماضي، قد ترك ألمانيا نهائياً بعدما لاحقته اتهامات بالاحتيال على نظام المساعدات الاجتماعية بسبب إخفاء دخله الآتي من “يوتيوب” عن السلطات، أم أنه موجود في سوريا من دون علم السلطات الألمانية التي تمنع أي اتصال مع البلد الأصلي عن اللاجئين، وكذلك الحال بالنسبة لقباني. لكن المشترك بين الشابين هو نشر علَم النظام السوري والتغني بالعودة إلى الوطن مع أنغام نشيد “موطني” الذي بات رمزاً حكومياً يوازي نشيد “حماة الديار” نفسه.
وتعمل هذه النماذج من الأشخاص، بكل شهرتها وتفاهتها، على نقل صورة مزيفة عن الواقع في سوريا، فترفد خطاب اليمين المتطرف والخطاب المعادي للاجئين السوريين في الدول الأوروبية، بقصص تروج لمقولة أن سوريا باتت بلداً آمناً يمكن العودة إليه، وهو ما بدأ في الدنمارك منذ العام 2020، رغم أن التقرير الرابع والعشرين للجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا، الصادر في أيلول/سبتمبر الماضي، أكد أن البلاد غير صالحة لعودة اللاجئين الآمنة والكريمة.
وعليه، لن تعتقل وزارة الداخلية السورية، كنفش وقباني، مثلما طالَب موالون من بينهم عاملون في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، لأن ما يقدمانه يصب مباشرة في خطاب النظام حول الحياة الآمنة في البلاد وإمكانية عودة اللاجئين وطي ملفاتهم الإنسانية نهائياً وتعميم خطاب الانتصار على الإرهاب. وأكثر من ذلك، فإن التساؤلات التي طرحها مدير إذاعة “شام إف إم” شبه الرسمية، سامر يوسف، حول التصاريح الأمنية اللازمة لتصوير مثل هذه الفيديوهات مقابل منعها عن “الإعلام الوطني”، محقة، رغم كونها آتية من تفكير سلطوي يرفض إعطاء الأفراد الحق في النشاط العام مهما كان نوعه. علماً أن وزارة الإعلام أصدرت بياناً قالت فيه أنها لم تمنح مثل تلك التراخيص.
وبالطبع فإن النظام سمح لكثير من المدونين ونجوم السوشال ميديا العرب والأجانب، بزيارة البلاد، من أجل تصوير “الحياة الطبيعية” فيها خلال السنوات الماضية، ونالوا تصريحات رسمية لذلك من دون أن تثور حفيظة الإعلاميين الموالين الذين كانوا يغطون تلك الزيارات بأنفسهم. المختلف هنا أن الحديث يتعلق بأشخاص سوريين آخرين، إذ تمنع القوانين الصارمة في البلاد التصوير في الشوارع بتهم مثل “وهن نفسية الأمة”، وتنظم جهات مثل نقابة الفنانين ووزارة الإعلام وغيرهما، موضوع الفيديوهات في مواقع التواصل.
لا يشير ذلك بالضرورة إلى أن قباني وكنفش يبثان المحتوى اليوم بالتعاون مع الأجهزة الأمنية مباشرة، لكن التواطؤ واضح، إذ يغض النظام النظر عن تلك الأنشطة الممنوعة على بقية السوريين، من أجل تقديم دعاية غير مباشرة، بينما يعتقد صناع المحتوى المشاهير أنهم أحرار فعلاً في ما يقدمونه. وفيما يمكن طرح الأسئلة نفسها التي يكررها معارضون منذ سنوات، حول تبعية هذه الشخصيات للنظام السوري وتنسيقها مع جهات أمنية حتى عندما كانت في أوروبا، فإن الجواب عن ذلك يبقى غير مؤكد، حتى في وسائل الإعلام الألمانية التي كتبت فقط عن الخلفية الإسلامية والتحريضية لدى كنفش لا أكثر.
ورغم أن شخصين فقط لا يمثلان كل اللاجئين، إلا أن حضور نقاشات دائمة معادية للغرب على أسس من العنصرية القومية والدينية، بين اللاجئين السوريين تحديداً، لا يمكن إنكاره أو تجاهله، بقدر ما يجب نقاشه بعقلانية. خصوصاً أن فكرة “الغزو الإسلامي” لأوروبا باتت رائجة، في موسم الانتخابات الرئاسية الفرنسية مثلاً، بدفع من مرشحين متطرفين مثل إيريك زمور. وهو ما يمكن أن ينعكس سلباً على وجود اللاجئين عموماً في أوروبا، من مستحقي هذا اللجوء ومريديه.
وفيما تقول مجلة “ناشيونال جيوغرافيك” في نقاش سابق لها حول أزمة الهوية والهجرة في أوروبا، أن الأشخاص الأكبر سناً يظهرون ميلاً أكبر للانغلاق والتعلق بالوطن القديم، فإن نجوم “يوتيوب” السوريين يعطون انطباعاً مختلفاً، لأن أولئك الأشخاص صغار في السن أولاً، وجمهورهم من الصغار في السن ثانياً، مع الأخذ في الاعتبار أن السوريين مازالوا حديثي العهد في أوروبا، ولم يشكلوا بعد أجيالاً جديدة يمكن أن يحدث ضمنها تغيير أكبر في وجهات النظر، بعكس مجتمعات لاجئة/مهاجرة أخرى تملك حضوراً أقدم.
والحال أن ما يقدمه كنفش وقباني من محتوى فاقع في سماجته وتفاهته وإسلاميته وتخلفه، هو انعكاس للحياة في دولة ديكتاتورية مثل سوريا الأسد، حيث كان النظام السوري يعمل طوال عقود على جعل السوريين نسخاً عن هذين الشخصين تماماً للقول أن الشعب السوري متخلف وغير واع ويحتاج إلى القيادة الحكيمة من أجل نقله إلى الحداثة والتطور ولحماية المجتمع الدولي من همجيتهه في حال تغيرت الأحوال السياسية في البلاد. وإن كان هذا النموذج يتواجد في كثير من دول المنطقة، إلا أن حضوره في سوريا أقوى، مع سيطرة النظام على كافة مصادر المعلومات والحياة الثقافية وتحالفه الوثيق مع رجال الدين، إضافة إلى تفاقم مستويات الفقر منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ومن المؤسف بالتالي القول أن هذين الشخصين ليسا فريدين من نوعهما، بل هما في الواقع نموذج فقط لعشرات نجوم “يوتيوب” و”تيك توك” من السوريين الذين يكررون الخطاب واللغة والمفردات نفسها، ويحصدون ملايين المشاهدات، ومن بينهم سامر وحود ومحمود بيطار وآخرون، ممن يخاطبون الجمهور المحلي بلغة تماثله تماماً، لا تكشف فقط سطحية وتخلف أصحابها بقدر ما تظهر تلك الصفات أيضاً لدى الجمهور المتابع لها والذي يغدق على نجومه اللايكات والتبرعات والمشاهدات، ضمن حلقة مفرغة من التفاهة التي تعيد إنتاج نفسها بفعل خوارزميات مواقع التواصل التي لا تلاحظ حتى كمية العنصرية والمحتوى المخالف لسياسات المضمون، لأسباب كثيرة من بينها ضعف الرقابة على المحتوى العربي حسبما كشفت الموظفة السابقة في “فايسبوك” فرانسيس هوغان.
المصادر : مواقع الكترونية عربية – المدن