يعتبر المشتري أكبر كواكب المجموعة الشمسية على الإطلاق، فهو كوكب ضخم جدا، ودور حوله 79 قمرا، منها أربعة أقمار كبيرة، ويبلغ قطره 140 ألف كيلومتر، وحجمه 0.001 من حجم الشمس، ويدور حول نفسه بسرعة 40 ألف كيلومتر/ساعة، ويتميز الكوكب بجماله الرائع وألوانه المتعددة، وإن كان يخفي تحت هذا الجمال أحزمة من الإشعاعات القاتلة، والنيران الملتهبة، والحقول المغناطيسية الفتاكة.
ورغم ذلك فقد استمرت محاولات العلماء والباحثين منذ عشرات السنين لاكتشاف أسراره وسبر أغواره، وسوف ترصد هذه الحلقة -التي بثتها قناة الجزيرة الوثائقية- من سلسلة “أسرار المجموعة الشمسية”، جهود العلماء ووكالات الفضاء العالمية، ورحلاتهم المكوكية، للوصول إلى هذا الكوكب ودراسة سطحه وأقماره.
اكتشاف بالصدفة
في 1955 رصد العلماء موجات راديوية قادمة من المشتري، وتبين أنه تحيط به مستويات من الطاقة لا مثيل لها، وله حقل مغناطيسي قوي جدا، فالحقول المغناطيسية ذات أهمية كبيرة حول بعض الكواكب، فهي تحميها من أضرار الرياح الشمسية العاتية.
وفي 1958 أطلق العلماء الأمريكيون مهمة “إكسبلورر-1″، وحملت نظاما لرصد الجزيئات المشحونة في الفضاء بواسطة عدّها بأنبوب “غايغر- مولر” المستخدم لقياس شدة الإشعاع، وقد بدأ الجهاز بعدّ الجزيئات، وعند نقطة معينة اختفت الإشارة، وهبط معدل العدّ إلى الصفر، كان ذلك على ارتفاع 2000 كيلومتر عن سطح الأرض، حيث بلغ العدّاد حدّ الإشباع.
قاد هذا الأمر لاكتشاف مذهل، إذ تحيط بالأرض على ارتفاعات كبيرة حلقات دائرية الشكل مشحونة بإلكترونات وجزيئات، ومنجذبة إلى الأرض بفعل مجالها المغناطيسي، بحيث تحبس الإشعاعات القادمة من الشمس (الرياح الشمسية) في وسطها، وتمنع وصول معظمها إلى الأرض.
بعد هذا الاكتشاف بدأ العلماء بدراسة الأحزمة المشحونة حول المشتري، وتأكد لهم أن هذه الأحزمة على مستويات من الطاقة أعلى بأضعاف كثيرة عن تلك التي حول الأرض.
رحلة لاختراق المجال المغناطيسي للمشتري
في مارس/آذار 1972 أطلقت “بايونير-10″، وكان الهدف المحدد لها اختراق المجال المغناطيسي للمشتري وأخذ قياسات عن مستويات الإشعاع والطاقة هناك، وقد حلقت بايونير-10 فعلا بالقرب من المشتري وأرسلت صورا أولية، وكانت مزودة بعدّاد “غايغر” لحساب كمية الإشعاع، وكانت المفاجأة المتوقعة بقياس مستويات هائلة مقارنة بمثيلاتها على الأرض.
فعند أقرب نقطة وصلت إليها “بايونير” من المشتري تعرضت لألف ضعف من مستويات الإشعاع التي تقتل الإنسان، وكان هذا الإنجاز كافيا لـ”بايونير” بمعداتها الأولية، ومن أجل الوقوف على تفاصيل أكثر، كان ينبغي إطلاق مهمة أكثر تعقيدا وبأنظمة وأجهزة أكثر دقة وشمولا، ومن هنا جاءت الحاجة لإطلاق مهمة “فوياجر”.
سجلت “فوياجر-1″ و”فوياجر-2” اللتان أطلقتا أواخر 1977 صورا مدهشة وبالغة الدقة للمشتري وأحزمته ومناطقه الداكنة، بما فيها البقعة الحمراء العملاقة، وهي إعصار هائل يعادل 1.3 من حجم الأرض. وقد أمكن رصد طبقات هائلة من السحب تدور حول الكوكب باتجاهات متعاكسة، وبعضها يدور بسرعات تختلف عن سرعة دوران الكوكب نفسه.
دراسة أقمار المشتري الساطعة الغريبة
استهدفت رحلة “فوياجر” دراسة أقمار المشتري كذلك، وأشهرها الأقمار الأربعة الكبرى: آيو ويوروبا وغانيميد وكاليستو، وتحديدا قمر آيو الغامض، فأثناء الاقتراب من هذا القمر استطاع العلماء رصد سحابة كثيفة من الأشعة فوق البنفسجية، وكذلك أمكن تصوير عدد كبير من البراكين على سطحه، تندفع منها الغازات مئات الكيلومترات.
إذا تخيلنا أن ما يصل إلى سطح الأرض من الإشعاعات يعادل ثُلث “راد”، وهي وِحدة لقياس الإشعاع، فإن كمية الإشعاعات على سطح المشتري تعادل 20 مليون “راد”.
أما قمر يوروبا فكان ساطعا وعليه علامات غريبة، وسطحه زاخر بالصدوع التي عليها خطوط من الجليد، ولكنه قليل الفوهات التي تنتج عادة من ارتطام النيازك بها، مما جعل العلماء يرون أن سطحه قد تشكّل حديثا. وقد قدمت “فوياجر” مقاطع وصورا فريدة في غاية الوضوح والحيوية.
خطة الدوران والهبوط على سطح المشتري
بعد رحلة “فوياجر” جاءت مهمة “غاليليو”، وكان الهدف منها أن تدور المركبة في مدار حول المشتري، وقد واجهت مشاكل عدة، وتأخر إطلاقها عدة مرات، ثم أطلقت في 1986 على متن المكوك “تشالنجر”، ولكن الأوساط العلمية والتقنية فجعت بمأساة مروعة لدى انفجار المكوك، وأدى ذلك إلى خسائر في الأرواح وتحطم منصة الإطلاق وتأخر البرنامج بأكمله.
وفي 1989 أطلقت المهمة “غاليليو” على متن المكوك “أتلانتس”، واتخذت مدارا حول الأرض في البداية، ولكن الفريق الأرضي واجه مشكلة في فتح اللاقط عالي الحساسية الذي يشبه مظلة كبيرة، مما اضطر الفريق لتشغيل اللاقط الأقل حساسية الذي يرسل صورا بمعدلات أقل.
وقد حملت “غاليليو” -التي وصلت إلى المشتري في يوليو/تموز 1995- مسبارا بدرع حرارية للحماية بلغت سرعة هبوطه 240 ألف كم/ساعة، وذلك بفعل جاذبية الكوكب الكبيرة، فارتفعت حرارة الدرع إلى ثلاثة أضعاف حرارة الشمس، ولم يكن بالإمكان التحكم في حركته لعدم احتوائه على محركات، ولم يكن يحمل كاميرات، بل مجسات ومستشعرات فقط.
وعندما دخل المسبار الغلاف الجوي للمشتري كان العلماء يتوقعون ثلاث طبقات؛ هي الأمونيا ثم سُحبٌ من الأمونيا والكبريت ثم بخار الماء، ولكن الواقع أن الجو كان جافا وحارا في مكان سقوط المسبار، وهذا يعني أن ما كانوا يرونه من الأرض كان في مكان مغاير.
غانيميد
على ارتفاع 260 كم من السطح كان الضغط الجوي يعادل 23 ضعفا لضغط الغلاف الجوي الأرضي، حيث تعطلت مستشعرات المسبار عن إرسال أي إشارة إلى الأرض، وبفعل الحرارة الشديدة تبخرت أجزاؤه، ولك أن تتخيل أنه عندما يبلغ الارتفاع 10% من نصف القطر يصبح الضغط مليون ضعف لضغط الغلاف الجوي، وفي مركز المشتري تبلغ الحرارة أربعة أضعاف حرارة سطح الشمس، والضغط خمسين مليون ضعف لضغط الغلاف الجوي.
وبعد أن أكمل المسبار مهمته، وتبخر في غلاف المشتري، تعيَّن على المركبة الأم أن تتخذ لنفسها مدارا خارج الغلاف، حتى لا تواجه المصير نفسه.
وقد كان لتعطل اللاقط الرئيسي كبير الأثر في تضييق حجم مهمة “غاليليو”، ولكن الشيء الذي لفت الأنظار هو أنه أمكن قياس مجال مغناطيسي شديد حول القمر “غانيميد” الذي هو سابع الأقمار بُعدا عن المشتري.
ويعتبر غانيميد أكبر أقمار المجموعة الشمسية على الإطلاق، فهو أكبر حجما من كوكب عطارد، وامتلاكه لحقل مغناطيسي يؤهله لحماية نفسه من إشعاعات المشتري، وربما يكون صالحا للحياة.
أقمار السطوح الجليدية والمحيطات المغمورة
جمعت “غاليليو” قياسات مدهشة عن القمر يوروبا، حيث تتدفق تيارات كهربائية إلى داخل القمر، فتسبب اضطرابا في الحقل المغناطيسي، وقد وجد العلماء أن يوروبا لديه محيطا من مواد سائلة تحت طبقة الجليد.
أما السبب في قلة الفوهات على قمر يوروبا فهو محيطها الذي كان يملؤها مع مرور الزمن (عوامل الحت والتعرية)، وعلى غرار القمر آيو يتخذ يوروبا مدارا إهليليجيا يتقلص ويتمدد كل يومين تقريبا أثناء دورانه، وهو يتخلص من الحرارة بتذويب غطائه الجليدي. ويفترض العلماء أن عمق المحيط فيه يصل إلى 160 كم، وقاعه الصخري أسفل المحيط يشبه القمر آيو.
تسمى البراكين المنصهرة على سطح آيو وتحت محيط يوروبا بـ”الفوهات المائية الحرارية”، ويوجد كثير منها على الأرض، ويعتقد أنها مصدر الحياة على كوكبنا
أما التجاعيد والصدوع بُنّية اللون على سطح يوروبا، فيبدو أنها تخرج من باطن القمر، وقد تكون تشكلت بفعل البراكين على سطح آيو المجاور، وهي تغذي المحيطات في الأسفل بالكبريت والأوكسجين، وربما تغذي الحياة التي قد تكون موجودة في أعماق المحيط هناك.
بحث عن الماء في قطب المشتري
بعد الاكتشاف المذهل في يوروبا، رصدت “غاليليو” وجود محيط هائل في أعماق القمر غانيميد، وهناك شكوك أن القمر كاليستو يحتوي على محيط هو الآخر، أي أن هناك احتمالية لوجود الحياة في أماكن أخرى من مجموعتنا الشمسية، ما دامت المكونات الحيوية والطاقة اللازمة متوفرة.
وبعد تمديد المهمة ثلاث مرات، وفي 2003 تقرر التخلص من غاليليو، تلك المركبة الهرِمة التي أنهكها الإشعاع، وذلك بجعلها تخترق غلاف المشتري.
في يوليو/تموز 2016 اقتربت المركبة “جونو” من المشتري، وتقرر أن تدور حول قطبيه، إذ لم يكن العلماء على دراية كاملة بما يحدث هناك. كانت مركبة مصفحة، ولكن هذا لن يفلح مع الأجواء الملتهبة هناك، فتقرر المرور بسرعة والهرب ثانية، وقد بلغت سرعتها 240 ألف كم/ساعة، أي أنها تستطيع الدوران حول الأرض خمس مرات في ساعتين، ذلك لأن جاذبية المشتري الكبيرة كانت تسحبنا إليه.
كان الهدف الرئيس لإطلاق “جونو” هو التحقق من مقدار الأوكسجين والماء على المشتري، وقد صممت “جونو” بحيث يمكنها فحص مناطق مختلفة من سطح الكوكب عن بُعْد، وفي أوقات متباينة، ويمكنها القيام بوظيفة مئات المسابير في آن واحد. وذلك بإرسال موجات ميكروية، ومعلومٌ أن الماء يمتص هذه الموجات، وبهذا يمكن رسم خارطةٍ تبين أماكن وجود الماء على السطح.
ألوان المشتري
لطالما تساءل العلماء عن أصل ألوان المشتري، وللتحقق ذلك كان لا بد من اتخاذ مدار قطبي والاقتراب من الكوكب ما أمكن، مع أخذنا في الاعتبار وجود الأحزمة الإشعاعية حول الكوكب، وهي ضارة بالأجهزة الإلكترونية. في يوليو/تموز 2016 دخلت “جونو” في المدار، وأخذت في إرسال الصور للجمهور بواسطة كاميرا مثبتة على المركبة تدعى “جونوكام”، وقد أرسلت صورا مذهلة لمنطقة القطبين، وأظهرت أعاصير قطبية هائلة لم يتصور أحد وجودها
يرى العلماء أن المشتري يتكون من لبّ معدني صخري محاط بطبقة من الهيدروجين ثم طبقة من الغاز، ويمتد اللب لنحو 40% من نصف قطر الكوكب، وممتزج بالهيدروجين المعدني، ومن المرجح أن الحقل المغناطيسي هو المسؤول عن الحمل الحراري وجميع الحركات بما فيها تلك الدوامات الهائلة على سطح المشتري.
لا أحد يعلم على وجه التأكيد مصدر الألوان على سطح المشتري، لكن التغيرات الإشعاعية في الكبريت تكسبه لونا محمرّا، كما أن البراكين على سطح آيو تؤثر في الألوان على سطح المشتري.
تواصل “جونو” رحلة الغوص تحت أحزمة الإشعاع القاتلة في غلاف المشتري، وتتحفنا في كل مرة بمعلومات مهمة عن أكبر كوكب في مجموعتنا الشمسية، لكن العمل لم ينته بعد مع بعض أقماره.
خطط المستقبل
أما المشروع المقبل فستطلقه وكالة الفضاء الأوروبية، ويدعى “جوس”، وهو مستكشف الأقمار الجليدية للمشتري، وهدفه الوحيد التعرف على ما يوجد أسفل السطح ومقدار سمك طبقة الجليد وعمق المحيط الذي تحت السطح. ومن المرجح أن يطلق “جوس” في 2022، وسيصل إلى المشتري في 2030.
بينما تعمل ناسا على إطلاق مهمة جديدة تدعى “يوروبا-كليبر” (Europa Clipper)، وتتضمن التحليق قرب القمر يوروبا وإجراء دراسة معمقة لما يجري على سطحه والتفاعلات الكيميائية التي تحدث فيه، تمهيدا لاكتشاف المحيطات لاحقا.
وفي مرحلة متأخرة، سوف تستخدم الحفارات لاختراق الحاجز الجليدي ومحاولة الوصول إلى المحيط تحته، حيث يتطلع العلماء إلى الحصول على عينات من الماء هناك، والعودة بها إلى الأرض وفحص ما إذا كانت تحتوي على ميكروبات أو كائنات دقيقة، وذلك في إطار محاولاتهم الرامية للبحث عن أوجهٍ للحياة في مناطق أخرى من مجموعتنا الشمسية.
المصادر : مواقع الكترونية عربية – الجزيرة