في العقد السابع من القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وبينما كان السلاجقة الكبار يطرقون جنوب القوقاز بعد سيطرة مُطلَقة على وسط وغرب آسيا من بلاد ما بين النهرين وتركستان الشرقية حتى سواحل البحر المتوسط في بلاد الشام، كانت الدولة البيزنطية (الرومانية الشرقية)، التي تتربَّص بالإسلام والمسلمين منذ عصر النبوة، قد بدأت تدرك خطورة هؤلاء الأتراك السلاجقة على وجودها في الأناضول وشرق أوروبا، كما أدركت سابقا خطورة الإسلام ودُولِه الآنفة.
وكان الإمبراطور البيزنطي آنذاك رومانوس الرابع قد قرَّر بصرامة شديدة ضرورة خوض المواجهة الفاصلة مع السلاجقة الذين راحوا يسيطرون على جنوب القوقاز وأذربيجان وشرق الأناضول، وفي هذه المنطقة دارت المعركة الشهيرة ملاذكرد عام 463هـ/1071م، التي كان من نتائجها سيطرة السلاجقة المطلقة على كامل الأناضول حتى بحر مرمرة بعد هزيمة ساحقة للبيزنطيين وأسر إمبراطورهم وقتل عشرات الآلاف منهم، ثم إنشاء فرع سلجوقي جديد عُرف أتباعه في تاريخ المنطقة باسم “سلاجقة الروم” أو “سلاجقة الأناضول”، وهم الذين خاضوا صراعا طويلا مع جيرانهم البيزنطيين في أقصى الغرب ثم الصليبيين فالمغول، قبل أن ينخرطوا في صراعات داخلية استغلَّتها الجماعات التركمانية التي استوطنت الأناضول في جميع مناطقه.
تترَّكت الأناضول كما تُفيد المصادر السلجوقية عبر فترة زمنية طويلة امتدت لأكثر من قرنين، غلبت فيها الثقافة الفارسية والعربية في الوثائق الرسمية والمؤلفات قبل أن تعلن الأسرة القرمانية الحاكمة لوسط الأناضول في قونية عن ثورة تركية في الثقافة والفكر والتدوين منذ القرن السابع الهجري، سار على نهجها العثمانيون فيما بعد.
وإذا كان المغول بقيادة جنكيزخان وأبنائه وأحفاده قد خرجوا مهاجمين الدول الإسلامية من وسط آسيا ثم إيران وصولا إلى القوقاز والعراق والأناضول، وكان لهجماتهم البربرية دورها في سحق حضارة العباسيين وسقوط دولتهم، فقد كان هروب الملايين من أمامهم فرصة تاريخية لإحداث أكبر موجة من الهجرات البشرية في تاريخ العصور الوسيطة، ومنها كانت هجرات التركمان من وسط آسيا إلى إيران وأذربيجان والأناضول، ومن هؤلاء ظهرت أسرة “قايي” تلك التي أخرجت أرطغرل غازي وابنه عثمان ودولتهما. فكيف برزت دولة العثمانيين على مسرح التاريخ؟ وكيف صُنع قادتها وسط الصراعات وأسنة الرماح وصليل السيوف؟
من الهجرة إلى الاستقرار
في منتصف القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، كان السلاجقة -بعد قرنين من الاستقرار في الأناضول- قد تعرَّضوا لسلسلة من الحروب الأهلية فاقمها احتلال مغولي قسَّم دولتهم. وعلى مدار عقود، حارب سلاطين سلاجقة الأناضول لنيل استقلالهم، وكان القدر قد ألقى إليهم بأسرة تركمانية جاءت مهاجرة خوفا من بطش المغول إلى الأناضول، تنتمي إلى فرع من عشيرة “قايي” أحد أشهر فروع قبائل “الأوغوز” التركية (التي عرفها العرب بقبائل الغُز)، بزعامة رجل يُدعى أرطغرل غازي.
تختلف الروايات التاريخية حول أرطغرل، فتقول إحداها إن والده هو “سليمان شاه”، بينما تقول روايات أخرى إن والده اسمه “قوندوز آلب”، ويرجِّح بعض المؤرخين العثمانيين المعاصرين أن “قوندوز آلب” هو والد أرطغرل غازي نظرا لاكتشاف مسكوك نقدي كُتب عليه “عثمان بن أرطغرل بن قوندوز آلب”. وعلى كل حال، فقد انحاز الحظّ لأرطغرل غازي حين قام على رأس 400 فارس من فرسان قبيلته بمساعدة السلطان السلجوقي “علاء الدين كيقباد”، الذي حكم الأناضول بين عامَيْ 1220-1237م، في إحدى المعارك التي واجه فيها نفوذ المغول في بلاده، وبفضل هذا الدعم استطاع السلطان السلجوقي الانتصار على القوة المغولية الغازية، فقرَّر على إثر ذلك منح منطقة “سوغوت” في غرب الأناضول وجبل الأرمن في جنوب الأناضول إقطاعا لأرطغرل وجنوده، ومنذ ذلك التاريخ بزغ نفوذ “القايّيين” بزعامة أرطغرل في أقصى غرب الأناضول، في المنطقة القريبة من إسكي شهير (1).
يخبرنا المؤرخ التركي “يلماز أوزتونا” في كتابه “تاريخ العثمانيين المختصر” أن دولة سلاجقة الروم دأبت في إستراتيجية ثابتة لها على منح إقطاعات على الحدود الغربية المماسّة للدولة البيزنطية إلى بعض الأُسَر التركمانية التي كانت تابعة لها، ومثَّلت خط الدفاع الأمامي عن السلاجقة والوجود التركي في الأناضول، وقد اشتهر من بين هؤلاء أسرة “جوبان أوغولاري” (Çoban oğulları)، على الحدود الشمالية الغربية وعاصمتهم قسطموني، بينما تمركزت أسرة “غرميان أوغولاري” (Germiyan oğulları) في الجنوب الغربي وعاصمتهم كوتاهية، وكلاهما لعب دورا محوريا في الدفاع عن سلاجقة الأناضول ضد البيزنطيين. وحين نزل أرطغرل وعشيرته إلى سوغوت أصبح تابعا من الناحية السياسية لجوبان أوغولاري في قسطموني، وكذا أصبح ولده عثمان غازي من بعده قبل أن يستقل بإمارته على إثر الانتصارات القوية التي حقَّقها على البيزنطيين فيما بعد (2).
يرى العديد من المؤرخين العثمانيين أن الافتقار إلى المصادر المعاصرة للسنوات الأولى لتاريخ العثمانيين يُعَدُّ السبب الرئيسي في الغموض الواقع حول حقبة أرطغرل وحتى ابنه عثمان، فالمعلومات حول التاريخ العثماني في أعوامه الأولى في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي أغلبها مرتبط بالروايات الشعبية التي دُوِّنت في القرن الخامس عشر، لكن ما نعلمه يقينا هو أن المنطقة التي استوطنها أرطغرل وجماعته كانت على تماس مباشر مع البيزنطيين الذين عادوا إلى غرب الأناضول واحتلوها من جديد بعد الحملات الصليبية على الأناضول وبلاد الشام.
غير أن في الفترة ما بين عامَيْ 1260-1320م، تمكَّن زعماء الأوغوز من التركمان المقاتلين من تأسيس إمارات مستقلة في غرب الأناضول في الأراضي التي اقتطعوها من بيزنطة، وقد سجَّل المؤرخ البيزنطي المعاصر آنذاك “باخيميرس” أن الأسرة البيزنطية الحاكمة حينها، وهي “سلاسة باليولوغ” التي استردت القسطنطينية عام 1261م، انشغلت بالأحداث في البلقان إلى درجة أنها أهملت حدودها الآسيوية، وقد استغل أمراء التركمان ذلك وأسَّسوا مناطق نفوذ خاصة على أطراف دولة البيزنطيين (3).
“الأخية” كلمة السر
مهَّدت الظروف لبزوغ نجم التركمان عسكريا إذن، لكن براعتهم لم تقف عند هذا الحد، فقد كان لثقافة التصوف، التي ترسَّخت في الأناضول منذ عصر السلاجقة، دورها وتأثيرها الكبير في النشاط السياسي والعسكري، حيث ارتبطت بها المناطق كافة، واعتنقتها كل الأُسَر التركمانية التي ورثت الدولة السلجوقية في الأناضول عقب انهيارها في مفتتح القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي. حرصت هذه الأُسَر على رعاية التصوف، وباركت إنشاء زوايا وأربطة “الأخيّة”، وهي حركة صوفية كبيرة ارتبطت بها الطبقات الوسطى من الحرفيين، كما رعتها الطبقات العليا في بقاع الأناضول كافة، حتى إن ابن بطوطة، الرحّالة الشهير، حين وصل إلى المنطقة في بدايات العقد الرابع من القرن الثامن الهجري كان نزوله في كل مدينة عند هذه الأخويات والأربطة الصوفية.
وقد وصفها ابن بطوطة قائلا: “واحدُ الأخيّةِ أخيّ، على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلّم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التّركمانيّة الروميّة، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم في احتفائهم بالغرباء من الناس وإسراعهم إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج، والأخذ على أيدي الظّلمة، وقتل الشّرط ومَن لحق بهم من أهل الشرّ. ويسمّون بالفتيان، ويُسمّى واحدهم كما ذكرنا الأخي، ولم أرَ في الدنيا أجمل أفعالا منهم”. (4)
لهذا السبب ارتبط أرطغرل على الأرجح بالأخية، وخصَّها بتقدير واحترام مبالغ فيه، ويبدو أن ولده عثمان ارتبط منذ نعومة أظفاره بأخيّة منطقته التي كان شيخها رجلا يجمع بين اللسان العربي والتركي والفارسي، وهو الشيخ “إده بالي” الذي وُلد في منطقة كرمان جنوب قونية وتلقى علومه في بلاد الشام في النصف الأول من القرن السابع الهجري، ثم جاء واستقر في منطقة “بيله جيك” في غرب الأناضول، وقد تبع الطريقة الوفائية التي أسَّسها الشيخ “أبو الوفاء البغدادي”، وكان في الوقت عينه يترأس منظمة الأخية أو الأخوية في تلك المنطقة، بل إن عثمان ارتبط بعلاقة نسب بهذا الشيخ حين تزوج ابنته، وكان ملهمه الروحي وأستاذه الأخلاقي وموجِّهه السياسي أيضا (5).
كان تصوف الأخية بمنزلة الإلهام الروحي والاجتماعي والأخلاقي والديني للطبقات الاجتماعية كافة في الأناضول، وكان رجالاته الكبار على تماس مع الحركة الروحية والثقافية في بلاد الشام ومصر والعراق، وكانت روح المواجهة ضد البيزنطيين، لا سيما على مناطق التماس معهم، هي السائدة، ولهذا السبب كان الهدف الأساسي للإمارة العثمانية الناشئة هو اتباع سياسة الفتوحات التي ارتكزت على مفاهيم الغزو والجهاد، وهو ما انسجم مع الطبيعة الاجتماعية والأنثروبولوجية للأتراك المحبين للقتال والحرب والانتقال والترحال مذ كانوا في آسيا الوسطى.
عثمان يؤسس دولته
بدأت كلمة “عثمانلي”، كما يخبرنا المؤرخون الأتراك، تكسب مغزاها رويدا رويدا، حتى اتسع هذا المغزى ليكون علما ليس على سكان منطقة التخوم فحسب، بل وعلى الأهالي المحليين أيضا في أراضي الفتوح (6). ويكشف لنا نسبة الدولة الناشئة إلى عثمان وليس إلى أبيه الغازي الشهير أرطغرل عن المكانة الكبيرة التي حقَّقها عثمان بين الأتراك، والسمعة التي حازها وسط الأعداء البيزنطيين. فقد أبلغتنا المصادر التاريخية البيزنطية عن هجماته التي لم تتوقف بين “إسكي شهير” شمالا وصولا إلى “بورصة” و”إزنيق” غربا وجنوبا، وحسب كتابات المؤرخ البيزنطي “باخيميرس”، بدأ الغازي عثمان بن أرطغرل فتوحاته نحو سنة 1301م/701هـ بحصار إزنيق (نيقية) العاصمة القديمة لبيزنطة، فأرسل الإمبراطور لمواجهته جيشا من المرتزقة يتألف من ألفَيْ جندي، بيد أن عثمان أوقعه في كمين وهزمه في صيف ذلك العام، وقد جعل هذا الانتصار من عثمان شخصية مشهورة، حتى إن المصادر العثمانية والبيزنطية المعاصرة تذكر أن الغزاة تجمعوا من كل مناطق الأناضول تحت لوائه (7).
منحت الفتوحات والغنائم عثمان غازي أفضلية قيادية على جميع أمراء التركمان في الإمارات البعيدة عن خطوط المواجهة ضد البيزنطيين. لفترة طويلة، اتبع هؤلاء الأمراء سياسة غير رشيدة ضد رعاياهم، وضيَّقوا عليهم في الضرائب وغيرها، بخلاف العثمانيين الذين بنوا سمعتهم عبر السخاء المالي الذي وفَّرته لهم غنائم الجهاد، فضلا عن حرصهم على نشر العدالة، واحترامهم للعلماء والمتصوفة، وكلها أمور مهَّدت الطريق إلى انضمام المئات من المحاربين القادمين من المناطق المجاورة إلى صفوف عثمان غازي أو عثمان بك، وهكذا قوي نفوذه وشوكته في مواجهة البيزنطيين من جهة، وفي مواجهة الإمارات التركمانية المجاورة التي سيطر عليها أبناء وأحفاد عثمان مع مرور الزمن من جهة أخرى (8).
ولئن استطاع أرطغرل غازي أن يترك لابنه إمارة وليدة مساحتها 4800 كم، فقد استطاع عثمان بعد أربعة عقود من المواجهة والحرب على ساحات إزنيق وبورصة و”بيله جيك” وغيرها في غرب الأناضول أن يترك لابنه أورخان غازي إمارة تبلغ مساحتها 16000 كم، أي أربعة أمثال ما تركه والده؛ إذ ضمَّت أشهر وأقدم وأكبر مدن غرب الأناضول مثل بيله جيك وإسكي شهير وسقاريا وكوتاهيا ومساحات مهمة من بورصة (9).
واصل أورخان غازي وأبناؤه وأحفاده من بعده السير على الدرب ذاته الذي وضعه المؤسِّسان أرطغرل وعثمان، حيث ترقَّت دويلتهم من طور الإمارة إلى الدولة إلى السلطنة إلى الخلافة، في قصة امتدت أحداثها على مدار ستة قرون تالية، قصة خرجت فصولها الأولى، للمفارقة، من رحم الهجرة والخوف من سيوف المغول، قبل أن تُسطِّر مجدها في ساحات المعارك وتحت أسنة الرماح.