كان الصبية يلعبون ويمرحون غير مبالين بأشعة الشمس الحارقة، غير أن الفتى كان يرقب في لعبه الضوء والظل، وكان دائم التفكر في شروق الشمس وغروبها، إنه أبو الحسن علاء الدين بن علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري، المعروف بابن الشاطر، وهو الفتى الذي أصبح لاحقا “فلكي العرب”.
ويعرض فيلم “ابن الشاطر.. فلكيّ العرب” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “العلماء المسلمون” حياة ابن الشاطر وإنجازاته كواحد من أبرز العلماء المسلمين الذين تركوا بصمة في التاريخ، وأضافوا للبشرية خدمات واختراعات مميزة في مجالات متعددة.
ولد ابن الشاطر في دمشق عام 704 هـ الموافق عام 1304 م، ونشأ يتيما بعد أن تُوفي والده وهو ابن ست سنين، فكفله جده وعلّمه ورعاه. ومنذ أعوامه الأولى كان كتاب الله مُعلّمه الأول، والآخذ بيده نحو قراءة صفحات الكون المبهم.
أراد جده أن يجعله رجلا يعتمد على نفسه، فأسلمه لابن عم أبيه وزوج خالته ليعمل معه في تطعيم العاج، وهي حرفة تحتاج إلى الدقة والمهارة والذوق الرفيع، وكانت تمهيدا وأساسا لاختراعاته فيما بعد. يقول أستاذ فلسفة العلوم بجامعة الإسكندرية ماهر عبد القادر إن هذه المرحلة أهّلته ليُصنّع فيما بعد الآلات التي استخدمها في علم الفلك.
وقد أبت همته العالية ونفسه الطامحة إلا السماء هدفا وغرضا، سواء في أذانه الذي يصعد إليها، وحين يرنو بنظره إلى حيث الأفلاك وأبراجها. وقضى ابن الشاطر معظم حياته في وظيفة التوقيت ورئاسة المؤذنين في المسجد الأموي بدمشق، ونال شهرة عظيمة بين علماء عصره في المشرق والمغرب كعالم فلكي.
ارتبط عمل ابن الشاطر مؤذنا بتفوقه لاحقا في علم الفلك، ويرجع الدكتور ماهر عبد القادر ذلك إلى اهتمام المسلمين الكبير بمواقيت الصلاة وتحديد القبلة، إضافة إلى حركة الفتوح الإسلامية، وهي أمور تتماس مع عمل المؤذن
ولمّا شبّ ابن الشاطر على الطوق بدأ يخالط العلماء في حلقاتهم العلمية داخل المسجد الأموي وفي ندواتهم المنزلية، فساقه طبعه وميله الفطري نحو العلم إلى دراسة الهيئة والحساب والهندسة، وزار بلدانا كثيرة متتبعا آثار العلم والعلماء، ومقتفيا أماكن المراصد، فاتجه إلى القاهرة والإسكندرية ليعثر فيهما على مبتغاه ويتزود من تلك العلوم ويتبحّر فيها، فألمّ ابن الشاطر بأطراف تلك العلوم نظرية وتطبيقا، وكانت الدقة من أهم ما يُميّز شخصيته، فضلا عن قدرته الفائقة على الابتكار والإبداع.
طلب الخليفة العثماني مراد الأول -الذي حكم الشام ما بين عامي 761 و791هـ- من ابن الشاطر أن يُصنّف له زيجا (وهي كلمة من أصل فارسي تعني الجداول السلطانية، وكانت توضع في محطة مراقبة النجوم)، فألّف له زيجا جديدا ضمّنه نظرياته الفلكية.
ويشرح أستاذ تاريخ الرياضيات بجامعة حلب سامي شلهوب؛ الزيج بأنه يعني انسجام خطوط الطول مع العرض كنسيج، وهو أمر يفيد في معرفة أماكن وجود الكواكب في السماء والأبعاد بينها، حيث تُسجّل نتائج الأرصاد في الزيج.
وهنا يشير أستاذ تاريخ العلوم الأساسية بجامعة حلب فؤاد عليوة إلى أن ابن الشاطر بنى الزيج الجديد على قواعد رياضية ومنهجية علمية صحيحة، فقد وضع جداول تحتوي على حسابات عددية استنتجها من قوانين رياضية اعتمد فيها على خبرته في علوم الحساب والهندسة.
ويلفت عليوة إلى أن ابن الشاطر انتقد في الزيج الجديد الذي أنشأه ابن الهيثم ونصير الدين الطوسي، لأنهما لم يضعا نظريات بديلة عن نظريات بطليموس في كتابه “المجسطي” التي انتقداها، وهو الأمر الذي تفاداه ابن الشاطر عندما وضع في الزيج الجديد نظريات مبنيّة على منهجية علمية صحيحة.
في أشهر كتبه “نهاية السول في تصحيح الأصول”، انتقد ابن الشاطر النظام الفلكي البطلمي، ورفض أفكار بطليموس وغيره من علماء الإغريق حول الشمس والقمر والنجوم والكواكب، واقترح بدلا من ذلك نموذجا فلكيا جديدا.
سعى ابن الشاطر لإنتاج نموذج أكثر توافقا مع الملاحظات التجريبية وعمليات الرصد الفلكي، ويمكن أن نقول إن أعماله تمثل نقطة تحول في علم الفلك، إذ تُعد ثورة علمية قبل عصر النهضة.
ومن أهم إنجازات ابن الشاطر تصحيح نظرية بطليموس التي كانت ترى خطأ أن الأرض هي مركز الكون، وأن الأجرام السماوية تدور حولها، ولكن ابن الشاطر أثبت أن الأرض والكواكب المتُحيّرة هي التي تدور حول الشمس بانتظام، وأن القمر يدور حول الأرض، وعلّل ذلك بقوله: إذا كانت الأجرام السماوية تسير من الشرق إلى الغرب، وإذا كانت الشمس أحد هذه الكواكب، فلماذا يتغير شروقها وغروبها؟ لذا فإن الأرض والكواكب المتُحيّرة تدور حول الشمس بانتظام، والقمر يدور حول الأرض.
ويكتب ابن الشاطر عن أهدافه قائلا: غرضنا أن نورد في هذه المقالة هيئة أفلاك الكواكب على الوجه الذي ابتكرناه، وهو السالم من الشكوك، الموافق للأرصاد الصحيحة.
وضع ابن الشاطر أسطرلابا في منزله، وكان بمقدار نصف أو ثلث ذراع تقريبا، يدور بغير رحى ولا ماء، وهو يستخدم في قياس أوضاع الأجرام السماوية، وقد أثنى عليه ابن يونس الصفدي، وهو من كبار علماء الفلك في عصره.
ويقول أستاذ تاريخ الرياضيات بجامعة حلب سامي شلهوب إن الأسطرلاب آلة فلكية مهمة طوّرها العرب، وهي تماثل السماء، وتضم أهم النجوم اللامعة التي يمكن للمرء أن يراها بالعين المجردة، في ما بين 18-22 نتوء، وعلى صفيحة الأسطرلاب الأساسية توجد خطوط تماثل خطوط الطول والعرض حاليا.
ولا شك أن ابن الشاطر قد استفاد ممن سبقه وتأثر بهم، كما أثّر فيمن بعده، وقد ظلت كتبه ومقالاته مرجعا لعلماء الفلك فترة طويلة. يقول الدكتور سامي شلهوب إن المزولة والأسطرلاب والساعة الشمسية كانت تستخدم لمعرفة المواقيت، وقد عمل ابن الشاطر على اختراع آلة تجمع ما تقوم به هذه الآلات، وسماها “الآلة الجامعة”
يقول “ابن الشاطر”: سألت الله العظيم أن يلهمني ابتكار أصول تفي بالمقصود، فوفقني الله تعالى لوضع جامعة الحركات الطولية والعرضية، وقد أوردتها في كتابي “تعليق الأرصاد”، ولخصتها في كتابي المسمى “نهاية السول في تصحيح الأصول”.
ابتكر ابن الشاطر كثيرا من الآلات امتازت بسهولة التصميم وتلافي التعقيدات التي وُجدت في الآلات السابقة، وتسببت في بعض الأخطاء، فقام بصناعة آلة تسمى مُوقّت الصلاة، وتُعرف أيضا باسم البسيط أو المزولة الشمسية، يُقاس بها الوقت خلال ساعات النهار مبنيا على ظل الشمس، ولم تكن تضبط الوقت إلا عند السادسة مساء والسادسة صباحا فقط، فهي تعتمد على الشمس وزاوية انحرافها عن الأفق، أي أن مبدأها يعتمد على الزوايا عوضا عن الساعة والدقائق والثواني.
قام ابن الشاطر بوضع الآلة على منارة العروس في باحة المسجد الأموي الشمالي، ونقش عليها دوائر البروج الاثنتي عشرة، ويتوسط اللوح مؤشر نحاسي لمعرفة مواقيت الصلاة في الفصول الأربعة، وقد ثبّت مؤشر بشكل عمودي على اللوحة.
يرى الدكتور فؤاد عليوة أن ابن الشاطر لعب دورا كبيرا في تطوير علم الفلك، ووضع الأسس الرئيسية في هذا العلم، وخاصة مركزية الشمس في النظام الشمسي، ومع ذلك فإنه لم يعط حقه حتى الآن. ويؤكد الدكتور ماهر عبد القادر أن العالم البولندي الشهير “نيكولاس كوبرنيكوس” لم يذكر أنه استفاد من ابن الشاطر، لكن الدراسات التالية أثبتت أنه استفاد من نظرياته، مشيرا إلى أن القرن الثامن الهجري يُعرف بقرن ابن الشاطر.
وفي عام 1393 هـ عُثر على مخطوطات عربية في بولندا -مسقط رأس “كوبرنيكوس”- اتضح منها أنه كان ينقل تلك المخطوطات العربية وينسبها إلى نفسه.
تُوفي أبو الحسن علاء الدين بن علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري المعروف بابن الشاطر عن عمر يناهز 71 عاما، قضى منها 51 عاما في دراسة متأنية، وكتابة ما توصّل إليه من نتائج واختراعات كانت هي الأساس في النهضة العلمية لعلوم الفلك في أوروبا.
المصادر : مواقع الكترونية عربية – الجزيرة