لا يُلدغ من مبيدٍ مرتين.. البعوض “يدرك ويتعلم” من المحاولات الفاشلة للقضاء عليه
كل عام يَلقى حوالي 627 ألف شخص حول العالم حتفهم بسبب لدغات البعوض الحامل لطفيل الملاريا، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2021.
ورغم الجهود المهولة التي تبذلها المجتمعات المختلفة، إلا أن أعداد الوفيات لا تتناقص بشكل كبير، بل تتزايد في بعض الأحيان؛ إذ أصبح البعوض أكثر مقاوَمةً لمبيدات الآفات في السنوات الأخيرة، لأسباب مجهولة، تم الكشف عن أحدها مؤخرًا في دراسة نشرتها دورية “ساينتفك ريبورتس”.
تقول الدراسة إن البعوض “يُدرك ويتعلم”؛ فحين لا تنجح المبيدات في القضاء عليه لأول مرة، يُغير البعوض سلوكه على نحوٍ يجعله لا يتعرض لمبيد الآفات ويتجنَّب الآثار السيئة لعمليات المكافحة التي تستخدمها الإدارات الصحية للسيطرة على العدوى.
ويؤكد “فريدريك تريبت” -أستاذ علم الحشرات بمعهد الصحة الاستوائية السويسري وجامعة “كيلي” الإنجليزية، والمؤلف الرئيسي للدراسة- أن “تجربتين مختلفتين، تم إجراؤهما باستخدام 5 مركبات لمبيدات حشرية شائعة الاستخدام، أظهرتا أن البعوض الذي تعرَّض للآثار السيئة الناتجة عن التعرُّض لمبيد الآفات يغير سلوكه بعد ذلك لتجنُّب التعرُّض اللاحق لتلك الآثار من خلال التعلُّم”.
ففي التجربة الأولى، وجد الباحثون أن البعوض الذي تعرَّض مسبقًا “يتجنب الناموسية المعالَجة بالمبيدات الحشرية التي تفصلها عن وجبة الدم المحتملة”، وبالمقارنة، فإن البعوض “الساذج” الذي لم يتعرض قبل ذلك للمبيدات لمس الناموسية ومات.
وفي التجربة الثانية، تم إعطاء البعوض المكشوف خيارين، الأول أن يظل في حجرة زجاج شبكي كبيرة دون مبيدات، والثاني أن يطير داخل شبكة زجاجية مطابقة تحتوي على الطعام والمبيد، واختار البعوض الذي تعرَّض سابقًا لجرعات غير قاتلة من المبيد أن يظل في الغرفة الخالية من الطعام والمبيد، أما البعوض الذي لم يتعرض –قط- لذلك المبيد فقد اختار دخول الغرفة الزجاجية التي فيها طعامٌ ومبيد.
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة: إنَّ تعلُّم البعوض يمكن أيضًا أن يتعطل بإضافة رائحة جذابة للمبيدات.
فعلى طريقة البشر، تستخدم الحشرات مجموعةً من الحواس مثل البصر والشم والتذوق والسمع للتنقل في بيئتها، وفي ظل الظروف المتغيرة الصعبة، تمكِّن القدرات الحسية والمعرفية الحشرات من تعديل سلوكها لضمان بقائها وتكاثرها.
ويؤدي التعلُّم دورًا رئيسيًّا في السلوك من خلال السماح للمنبهات الحسية بالترابُط مع التجارب الإيجابية أو السلبية، وبالتالي تمكين الاستجابات التكيفية الجديدة، وقد أظهرت دراسات مختلفة أن السمات مثل البحث عن الطعام والتغذية ووضع البيض والتزاوج تنطوي كلها على عملية التعلم.
ويُعد فهم التعلم والذاكرة أمرًا مهمًّا للحشرات التي تنقل الأمراض البشرية؛ لأن سلوكيات كالعثور على المضيف والتغذية على دمائه لها آثارٌ حاسمة على انتقال المرض، وقد أثبتت تدابير مكافحة الحشرات في شكل الناموسيات المعالَجة بمبيدات الحشرات والرش الموضعي للأماكن المغلقة والرش في الهواء الطلق، أنها الأكثر فاعليةً في الحد من انتشار البعوض وانتقال الأمراض.
لكن لسوء الحظ، أدت عقود من الاعتماد على عدد محدود من فئات مبيدات الآفات ذات السُّمِّيَّة المنخفضة للثدييات والبشر إلى مقاومة البعوض، مما يترك خيارات أقل للمكافحة الفعالة، وبالتالي فإن فهم العوامل التي تؤثر على مقاومة الحشرات للمبيدات الحشرية أمرٌ سيُسهم في عمليات المكافحة المختلفة، وهذا ما فعلته تلك الدراسة.
درس الباحثون نوعين من البعوض شائعَين في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية حول العالم، وهما “الزاعجة المصرية” المسؤولة عن انتشار حمى الضنك والحمى الصفراء، و”البعوضة خماسية الخطوط” المسؤولة عن نشر الملاريا وفيروس زيكا وفيروس غرب النيل.
وقال الباحثون إن كلا النوعين من البعوض تعلَّم ربط رائحة المبيدات بالآثار السلبية للتلامس مع مبيدات الآفات، وكان على استعداد للتخلي عن مص دماء الضحايا لتجنُّب الهبوط في منطقة تفوح منها رائحة المبيدات، وأن بعوض الزاعجة المصرية الذي تم تكييفه لتجنُّب المبيدات الحشرية كان أكثر احتماليةً بثلاث مرات من البعوض خماسي الخطوط للبقاء على قيد الحياة في تجربة عرضت فيها فرصة الطيران عبر الناموسيات المعالجة بالمبيدات للتغذي على الدم.
لكن هل لدى البعوض جهازٌ عصبي يتعلم من خلاله؟ يقول “تريبت” في تصريحات لـ”للعلم”: من المعروف أن التعلُّم يحدث في معظم أدمغة معظم الحيوانات، وهو أمرٌ مهمٌّ بشكل خاص في الحيوانات الصغيرة التي تكتشف أفضل طريقة للتنقل في بيئتها، وعلى الرغم من أننا لسنا متخصصين في أبحاث الدماغ، إلا أننا نتوقع أن تحدث هذه العمليات في أدمغة البعوض أيضًا، التي تتكون من سلسلة من العُقد موزعة على طول الجسم.
يضيف “تريبت”: نعتقد أنه من خلال فهم أفضل للاستجابات السلوكية لمكافحة ناقلات المواد الكيميائية يمكننا تحسين التدخلات الحالية وربما أمكننا تصميم تدخلات جديدة، ويجب أن يدرك القائمون على جهود المكافحة أن البعوض يغير سلوكياته مثل التوقيت الذي يلدغ فيه وما إذا كان يعض داخل المنزل أو في الهواء الطلق استجابةً لتدابير مكافحة ناقلات الأمراض الداخلية، وإذا كانت النية هي تقليل أعدادها فيجب علينا على الأرجح أيضًا تصميم طرق لمكافحة النواقل تكون فعالةً ضد تجمُّعات البعوض في الهواء الطلق.
ولكن نظرًا لوجود التعلم فقد تكون هناك أيضًا فرص لإبطاء التعلم من خلال الجمع بين رائحة المبيدات الحشرية والرائحة الأخرى، “على سبيل المثال إذا اختلطت رائحة المبيد مع جاذب البعوض المعروف، فسيؤدي ذلك إلى تضارُب معرفي من شأنه إبطاء التعلُّم، ربما يكون البعوض بعد ذلك مُعرضًا للتعرُّض الإضافي لمبيدات الآفات”.
ويركز المختبر الذي يعمل فيه “تريبت” على دراسة بيئة البعوض ومكافحته، “لدينا مجموعة واسعة من المشاريع والاهتمامات؛ ففي عام 2012، نشر الباحثون أول ورقة بحثية توضح أن البعوض كان قادرًا على تعلُّم ربط التجارب الإيجابية والسلبية بمجموعة متنوعة من الإشارات البصرية والشمية، ثم جاءت تلك الدراسة القائمة على تجربتين منفصلتين لتأكيد تلك النتائج بصورة تجريبية.
يقول “تريبت”: أعتقد أن غالبية الناس على هذا الكوكب يتعرضون للدغات البعوض في بعض الأحيان وربما يُصابون بأمراض خطيرة، لذلك يجب أن يشعر الجمهور بالراحة في رؤية أن هناك مجتمعًا نشطًا للغاية أو باحثين يحاولون باستمرار تحسين فهمنا لسلوك البعوض من أجل إيجاد إستراتيجيات جديدة للسيطرة على المرض.
المصدر: scientificamerican