بات مصطلح “أوليغارشية بوتين” دارجا في التقارير الإعلامية الغربية وخطب السياسيين، لدرجة أن الرئيس الأميركي جو بايدن تحدث عن ضرورة محاربة هذه “الأوليغارشية” في خطاب الاتحاد أمام الكونغرس الأميركي.
والمقصود بالأوليغارشية -في عرف الإعلام الغربي- رجال الأعمال والسياسيين الأغنياء المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذين لهم استثمارات في الخارج تُقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات.
وعند الحديث عن “أوليغارشية بوتين” تظهر العاصمة البريطانية لندن، بوصفها واحدة من أكبر المراكز المالية التي تستقبل المال الروسي، وحسب كثير من التقارير البريطانية والأممية، فإن لندن تعتبر من أكبر مراكز غسيل الأموال في العالم.
وهذا ما يفسر مسارعة الحكومة البريطانية إلى إصدار عدد من العقوبات ضد رجال أعمال روس في بريطانيا، ووعيدها للأغنياء الروس “أصحاب الأموال القذرة بالمتابعة وعدم منحهم فرصة للاختباء”، حسب ما قالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس.
جنة المليارات المهربة
كشفت دراسة لمؤسسة “ترانسبيرنسي الدولية البريطانية” (Transparency International UK) عن وجود ما يعادل 2 مليار دولار في صورة عقارات موزعة في المملكة المتحدة وأصحابها شخصيات روسية متهمة بجرائم مالية أو لها علاقة بالكرملين.
وحسب المؤسسة نفسها، فإن معظم هذه العقارات في ملكية شركات سرية مؤسسة خارج بريطانيا، مضيفة أن الثروة غير القانونية التي يتم استثمارها في المملكة المتحدة مرتفعة بشكل كبير جدا.
وتشير تقديرات المؤسسة البريطانية إلى وجود شبهات غسيل أموال تحوم حول 90 ألف عقار منتشر في معظم المدن البريطانية، وكلها تابعة لشركات سرية أو غير معروفة الهوية بشكل كامل، مما يجعل من مهمة الحكومة البريطانية لحصر هذه العقارات مهمة صعبة.
وتظهر دراسة للمؤسسة نفسها أن الشركات المسجلة في المملكة المتحدة والجزر التابعة للتاج البريطاني يتم استعمالها من أجل التغطية على تدفق الأموال غير الشرعية لمختلف دول العالم.
وأحصت المؤسسة في دراستها أكثر من 2189 شركة يتم استعمالها في غسل الأموال من بينها 48 شركة روسية مشتبه في أنها مخصصة لغسل الأموال والتورط في قضايا فساد، ويبلغ حجم الأموال التي تتدفق في هذه الشركات 85 مليار دولار.
وتوصل الباحثون الذين أجروا هذه الدراسة إلى وجود 700 شركة مؤسسة في الخارج تمتلك عقارات في المملكة المتحدة، من بينها 35 شركة روسية.
اعتراف رسمي
وفي تقرير -صادر عن وزارتي الداخلية والخزانة البريطانيتين- عن غسيل الأموال وتمويل الإرهاب لسنة 2020، تعترف الحكومة البريطانية بأن ما نسبته 2% إلى 5% من الناتج الداخلي لبريطانيا عبارة عن أموال يتم غسلها، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
ويضيف التقرير الرسمي أن هذا الرقم يبدو واقعيا بالنظر للمكانة التي تحتلها لندن بوصفها أكبر مركز مالي في العالم، بل إن وزارة الداخلية تعترف بأن الأموال المغسولة في البلاد تفوق عشرات المليارات من الدولارات، وهناك تقدير من وكالة مكافحة الجريمة المالية في بريطانيا يتحدث عن 100 مليار دولار يتم غسلها سنويا في البلاد.
وأكد التقرير نفسه أن المملكة المتحدة استقبلت “قدرا كبيرا من التمويل غير المشروع الروسي أو المرتبط بشخصيات روسية”، الذي يتم إنفاقه على العقارات الفاخرة والسيارات الفارهة والرسوم المدرسية أو الانخراط في المدارس الخاصة، والتبرع للمؤسسات الخيرية والثقافية “التي تسمح للأفراد غسل سمعتهم وليس أموالهم فقط”، والتعبير هنا لوزارة الداخلية البريطانية.
أموال لا حصر لها
وفي مقال مطول على صحيفة “غارديان” (the guardian) للكاتب البريطاني أوليفييه بولوه -الذي ألف العديد من الكتب عن الفساد في بريطانيا، وغسيل الأموال في لندن خصوصا- يؤكد أن عملية حصر الأموال الروسية غير المشروعة في البلاد هي عملية معقدة، ولا تقدم دائما الصورة الحقيقية.
ويقول صاحب كتاب “ما حجم الفساد في بريطانيا؟” (How corrupt is Britain) إن دائرة الإحصاء الفدرالية الروسية تقول إن المستثمرين الروسيين يمتلكون أصولا مالية في المملكة المتحدة تبلغ قيمتها 3.5 مليارات دولار، وفي المقابل، يقول مكتب الإحصاء البريطاني إن مجموع الاستثمارات الروسية (سواء المالية أو عبر مشاريع وشركات) تبلغ نحو 30 مليار دولار.
هذه المبالغ تعد “مبالغ بسيطة” من وجهة نظر الكاتب، الذي يقول إن الاستثمارات القادمة من فنلندا تفوقها بنحو 4 مرات، قبل أن يضع يده على مكمن الداء، وهو الأموال الروسية التي تنتقل إلى دول أخرى وخصوصا إلى الجنان الضريبية قبل أن تصل إلى بريطانيا، إذ لا يتم احتساب هذه الأموال على أنها روسية. وبما أن أغلبية الأموال تغادر روسيا عبر الملاذات الضريبية، فإن الأرقام الرسمية لا تقدم الصورة الحقيقية للمال الروسي غير الشرعي الموجود في البلاد.
ويقول الكاتب البريطاني إنه خلال العقد الماضي تدفق ما مجموعه 75 مليار دولار من روسيا إلى الجزر والمناطق التابعة للتاج البريطاني التي يعتبر بعضها من الجنان الضريبية، وهذا المبلغ يفوق بنحو 7 مرات المبلغ الذي وصل مباشرة إلى المملكة المتحدة.
ويؤكد الكاتب أن الجنان الضريبية والنظام المالي البريطاني يسمح لأي مسؤول روسي “لديه ثروة تفوق راتبه بأن يخفي هويته وينفق أمواله في لندن من دون أن يدرك أحد أنه محتال”.
أما الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، وهو مدير الدراسات في “مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية” (EHESS)، فيقول إن إجمالي ثروة الروس التي يتم الاحتفاظ بها في الخارج عن طريق الملاذات الضريبية تقدر بحوالي 800 مليار دولار، ومن قبل عدد قليل من الناس لا يتعدى عددهم المئات، ويؤكد العالم الفرنسي أن هؤلاء يعتبرون لندن من المدن المفضلة لديهم للعيش وإنفاق أموالهم، ويختم بعبارة لها دلالة “لقد أصبحت ما بعد الشيوعية أسوأ حليف للرأسمالية المتوحشة”.
المصادر : مواقع الكترونية عربية – الجزيرة