المسجد الأموي هو الجامع الذي قال فيه الإمام والعلامة السوري محمد أبو الهدى اليعقوبي “جامع ليس في مدائن الإسلام أحسن منه”.
ووصفه الرحالة والشاعر الأندلسي ابن جبير بأنه “أشهر جوامع الإسلام حسنا واتقان بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين”. أما الفقيه والأديب السوري علي الطنطاوي فقال فيه “ذهبت أمية بمالها وسلطانها، ولبث وحده يخلد في الدنيا اسم أمية، فكان أبقى من كل ما نالت أمية من مال ومن سلطان”.
وقال الشيخ والشاعر المصري برهان الدين القيراطي في وصف الجامع الأموي أكبر جوامع دمشق وأكثرها عراقة:
“الجامع الأموي أضحى حسنه.. حسنا عليه في البرية أجمعا
حلوه إذ حلوه فانظر صحنه.. تلقاه أصبح للحلاوة مجمعا”.
في حين قضى الطنطاوي جل سنوات عمره يتتبع أخبار جامع بني أمية الكبير من العلماء والفقهاء، أملا أن يجعل منها مؤلفا كبيرا عن الجامع الأحبّ إلى قلبه، وذلك قبل أن يضطر للهجرة مكرها إلى السعودية بعد انقلاب البعث في سوريا عام 1963، تاركا أوراقه ومسوداته في دمشق، وعن ذلك قال “ضاع الأمل ولم يبق إلا المختصر”. ويقصد بالمختصر مؤلّفه الصغير المعنون “الجامع الأموي.. وصف وتأريخ”.
فما قصة هذا المسجد؟ وما أبرز معالمه المعمارية؟ وما أهم الفعاليات التي يستقبلها في شهر رمضان المبارك؟
الجامع الأموي.. هبة الوليد لأهل دمشق
كان الصرح المعروف اليوم باسم مسجد بني أمية الكبير أو جامع دمشق قائما قبل آلاف السنين معبدا لآلهة الحضارتين الكنعانية والأمورية، حسب الباحث اللبناني فيليب حتي، ثم كان معبدا للإله الآرامي “حدد”، ثم لإله الرومان “جوبيتر”، ليصبح في العهد البيزنطي في القرن السادس من الميلاد كاتدرائية “يوحنا المعمدان”.
وعلى يد الخليفة الوليد بن عبد الملك فاتح مدينة دمشق سنة 13 هجرية تحول هذا الصرح العظيم إلى مسجد، فقد أرسل الوليد لملك الروم يطلب منه صُناعًا في الرخام والأحجار يعملون في بناء مسجده الكبير وتشييده وسقّفه بالفسيفساء المذهبة.
ويقال إن العمال أثناء البناء وجدوا مغارة فيها صندوق فنزل فيها الوليد وفتحه ليجد رأس يحيى بن زكريا عليه السلام، فأمر بإعادته لموضعه وشراء لوحي رخام فستقيين من الإسكندرية كانا على عرش بلقيس لوضعهما أمام المغارة.
ويحكي أبو البقاء البدري في كتابه “نزهة الأنام في محاسن الشام” أن المسجد -وبعد الانتهاء من بنائه- لاقى استحسانا عظيما من أهالي دمشق الذين حمدوا الله وشكروا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك الذي اعتلى منبر الجامع، وقال جملته الشهيرة في ذلك اليوم “يا أهل دمشق، إنكم تفخرون على الناس بأربع: هواؤكم وماؤكم وفاكهتكم وحمامكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي المسجد”.
وشهد المسجد عبر تاريخه أحداثا جساما كالحرائق والزلازل أرّخ لها علي الطنطاوي في مؤلفه، فظل الجامع سليما كما تركه الوليد بن عبد الملك حتى انقسمت الخلافة خلافتين سنة 461 هـ، وقامت المعارك بين العباسيين والفاطميين ووصلت دمشق، وكان أن ترامت الخصوم بالنار فاشتعلت ووصلت المسجد، فلم يبق منه إلا الجدران الأربعة وظل على حاله تلك 14 عاما حتى أعيد تجديد عمارته تحت حكم السلاجقة.
الجامع الأموي تحول في فترة الانتداب الفرنسي إلى ملجأ للمناضلين ومنظمي المظاهرات التي تخرج من حرمه (الجزيرة)
وفي عام 740 هـ، نشب حريق دمشق الكبير؛ فاحترق الجزء الأكبر من جانب الجامع الشرقي، ومئذنته الشرقية بالكامل، أما الحريق الأخير فكان عام 1311هـ، وفيه احترق المسجد بالكامل. ووصف الطنطاوي هذا اليوم قائلا “التهب المسجد كله، فلم يعد أحد يستطيع الاقتراب منه، فوقفوا ينظرون النار التي تأكل مسجدهم وتأكل قلوبهم، وكانت عمد المسجد أكثرها مكسور ومربوطة بأطواق حديد، فتشققت من النار، ثم هوى البناء كله، وزلزلت الأرض، وكانت ساعة من ساعات الهول”.
لكن أهل دمشق سرعان ما بدؤوا ترميم مسجدهم مرة أخرى سنة 1314 هـ. ويحكي الطنطاوي -نقلا عن أستاذه جمال الدين القاسمي- “لم يبق صاحب فن في دمشق إلا وضع فنه في عمارة المسجد”، وأُنجز النصف الشرقي من المسجد خلال سنتين، وأقيم احتفال ضخم حضره والي دمشق والعلماء.
واستكمل أهل دمشق بناء المسجد مرة جديدة بعد 9 سنوات فقط من الحريق، ليبدو بالصورة التي هو عليها اليوم بجلاله وزخرفه وجدرانه وقببه، بعد أن شهد لمئات السنوات على صلوات المسلمين وعقد رايات حروبهم، وتدريس علومهم، وإصدار أعدل أحكامهم.
وفي فترة الانتداب الفرنسي تحول الجامع إلى ملجأ للمناضلين ومنظمي المظاهرات التي كانت تخرج من حرمه، فألقيت فيه الخطب، وأعد فيه للمظاهرات، ولم يجرؤ الفرنسيون على اقتحامه طوال فترة استعمارهم سوريا.
قبة معلقة ومحراب جليل
يقول أبو البقاء البدري واصفاً جامع دمشق “من أي جهة استقبلت البلد، ترى القبة في الهواء كأنها معلقة في الجو، عدد شمسياتها الزجاجية المذهبة 74، فإذا قابلتها الشمس واتصل شعاعها انعكس الشعاع إلى كل لون منها، واتصل ذلك بالجدار القبلي، وتتصل بالأبصار منها أشعة ملونة هائلة لا تبلغ العبارة بعض صورها”.
وتشكل عمارة الجامع الأموي وفنون بنائه اليوم مرجعا أساسيا للفن الإسلامي، مع أن تأثيرات الفن البيزنطي الذي كان ما يزال سائدا في سوريا آنذاك ألهمت صناعه وهو في طور البناء، حيث نال الجامع -الذي يتوسط مدينة دمشق ويمتد على مساحة 15 ألفا و300 متر مربع- قسطا وافرا من المديح والثناء من المتخصصين والزوار.
وللجامع الأموي 6 أبواب: الباب الرئيسي والمعروف باسم “باب جيرون/باب النوفرة”، ويقدر المؤرخون عمره بأكثر من ألف سنة، و”الباب المسدود” الواقع خلف المحراب، والذي كان الخلفاء يدخلون منه قبل أن يتم إلغاؤه، و”الباب القبلي”، و”باب العمارة”، و”باب المحدث”، و”باب البريد”.
وفيه مساجد صغيرة ملحقة به لكلّ مسجد منها إمام: الشافعي فالحنفي فالمالكي فالحنبلي، وله 3 مآذن: “مئذنة العروس” التي تعد اليوم أقدم مئذنة إسلامية، و”مئذنة النبي عيسى”، وسميت بهذا الاسم للاعتقاد السائد بنزول عيسى عليه السلام إليها نهاية الزمان، و”مئذنة قايتباي” التي استمدت تسميتها من السلطان “قايتباي” الذي أمر بإنشائها.
الجامع الأموي يحتضن عدة أضرحة ومنها ضريحا يحيى عليه السلام وصلاح الدين الأيوبي (الجزيرة)
أما محراب الجامع الأموي فقد قال فيه أبو البقاء عبد الله البدري إنه “من أعجب المحاريب الإسلامية حسنا وغرابة صنعة يتقد ذهبا كله، قد قامت في وسطه محاريب صغار ومتصلة بجدار تحفه أسورة مفتولة كأنها مخروطة، بعضها أحمر كأنها مرجان ولم ير شيء أجمل منها”. والمحراب هو طاقة نصف دائرية أو مجوفة تتموضع في منتصف الجدار المواجه للقبلة لتدل على اتجاهها.
ويحتضن الجامع الأموي اليوم عددا من أضرحة القديسين والسلاطين والقادة كضريح يحيى عليه السلام (يوحنا المعمدان)، وضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية.
واشتهر الجامع في ما مضى بزخارفه الفسيفسائية الموشاة بالذهب، التي لم يتبق منها اليوم إلا النذر اليسير، وقال فيها المؤرخون إنها جمعت كل صور بلاد الدنيا، فلم تترك إقليما أو مكانا أو شجرة مثمرة أو غير مثمرة إلا وصورتها، ويحكى أن هذه النقوش بقيت على حالها حتى عهد الخليفة المأمون ومن ثم تمت إزالتها.
الجدير بالذكر أن المسجد خضع لعمليات ترميم عديدة، كان آخرها في تسعينيات القرن الماضي، إذ أعيد ترميم مئذنتي قايتباي والعروس وقبر السلطان صلاح الدين، وتم دهان المسجد كاملا وتدعيم أسقفه.
الشهر الفضيل في الجامع الأموي
تستعد الأسر السورية كل عام مبكرا لحلول شهر رمضان المبارك الذي ما زال يحتفظ في دمشق بتقاليد وعادات خاصة تميزه عن بقية بلدان العالم الإسلامي، حيث تقام الأنشطة والفعاليات في كافة الجوامع والمراكز الدينية وفي مقدمتها جامع بني أمية الكبير، وخلال فترتي الإفطار والسحور.
تبدأ جوقة المنشدين الخاصة بالجامع الأموي فقرة الإنشاد الديني قبل ساعة أو ساعتين من صلاة الفجر بمشاركة حشد واسع من أهالي مدينة دمشق، وقبل ربع ساعة من أذان الفجر يقام أذان الإمساك، وتتلى آيات القرآن الكريم ثم يرفع المؤذن الأذان.
أما في فترة الإفطار، وقبل موعده بساعة يكلف أحد علماء المدينة بإلقاء خطبة على المصلين المحتشدين في الجامع، تليها أيضا فقرة إنشاد ديني.
وينفرد الجامع الأموي بتقليد “الأذان الجماعي”، وكانت جماعة كاملة من المؤذنين تؤدي الأذان في الماضي ليصل صوته إلى أبعد مسافة ممكنة، وبعد أن وُجدت مكبرات الصوت أصبحت فرق الإنشاد تتولى تأدية الأذان الجماعي في باحة المسجد، بوصف ذلك تقليدا خاصا بالجامع الأموي دون غيره.
وبعد أن يؤدي المصلون صلاة المغرب جماعة يتولى بعض أهالي مدينة دمشق مهمة توزيع ما يعرف باسم “موائد الرحمن” على الفقراء والمحتاجين الذين يتناولون إفطارهم جماعات في باحة الجامع، وأصبح هذا التقليد سائدا في السنوات الأخيرة التي شهدت فيها المدينة أزمات اقتصادية ومعيشية عديدة.
تاريخ الجامع الأموي
بدأ العمل فى عمارة هذا المسجد الخالد عام 705 واستغرقت عملية بنائه وزخرفته عشر سنوات، وذكر ابن كثير أن الوليد قد أنفق على بناء الجامع خراج الشام سنتين، وفى رواية أخرى أن ما أنفق كان أربعمائة صندوق فى كل صندوق أربعة عشر ألف دينار.
بنى المسجد على هندسة قال بعضهم إنها مقتبسة من العمائر السورية القديمة، بينما يرى باحثون وعلماء أنه لا توجد عمائر قديمة تُشبه فى تخطيطها مخطط الجامع، وأن شكل بنائه يخالف تقاليد العمارة السورية القديمة، وهو فى واقع الأمر نموذجٌ معمارى متجانسٌ وزخارفه الإسلامية البديعة تنسجم مع البناء.
يبلغ طول الجامع 157 مترًا وعرضه 97 مترًا وتقدر مساحته بـ15. 229 مترًا مربعاً، يحتل صحن الجامع مساحة 6000 متر مربع من جهة شمال الحرم.
بقى هذا الجامع على مرّ العصور التى تعاقبت على دمشق الأثر الخالد، الذى يتعرض للمآسى والنكبات ثم يعود ليقف شامخًا من جديد، حتى أصبح وكأنه متحف دمشقى تخبئ جدرانه كل تاريخ أقدم مدينة مأهولة فى العالم، دمشق الفيحاء، فجدران الجامع الخارجية ما زالت تحتفظ ببقايا زخارف وكتابات رومانية ومن تحت أحجارها ظهرت آثار آرامية ويوجد بقايا بيزنطية
من خلال تيجان الأعمدة المستخدمة، وبعض الأعمدة المنتشرة أمام أبواب الجامع، أما البصمة الأموية فهى الأوضح والأبقى من خلال مخطط الجامع وبقاياه الأصلية كالفسيفساء والزخارف والنوافذ، وهناك بقايا سلجوقية وأيوبية ومملوكية كالأبواب والشريط الكتابى المؤطر للأروقة وبعد الكتابات على الأعمدة والسواكف ومئذنة قايتباى، وبقايا عثمانية أتت إثر الزلزال المدمر عام 1759 والحريق الكبير عام 1893.
للجامع الأموى أربعة أبواب، ثلاثة أبواب تنفتح على صحن الجامع وهى الشرقى، والغربى، والشمالى، أما الباب الرابع وهو الباب القبلى فينفتح على حرم الجامع.
تؤكد المصادر التاريخية والأثرية أن صحن الجامع فى عهد الوليد كان خاليًا من القباب وقد شيدت هذه القباب الثلاث القائمة حاليًا فى عهود لاحقة، يتموضع فى صحن الجامع ثلاث قباب متوزعة، الأولى غربية تعرف بقبة الخزنة وفى وسط الصحن تتموضع القبة الثانية وتضم بركة ماء فوقها أقواس وعلى جانبيها عمودان، والثالثة وهى القبة الشرقية المسماة بقبة الساعات.
وتشرف على صحن الجامع ثلاث مآذن هى مئذنة قايتباى ومئذنة عيسى ومئذنة العروس.
يحيط بصحن الجامع الرواق الغربى وهو يبدأ بـباب بريد وعلى جدار هذا الرواق توجد أطول وأقدم قطعة فسيفسائية أموية أصيلة فى العالم، والرواق الشمالى والذى يتوسطه باب العمارة، والرواق الشرقى والذى ينتهى بـباب جيرون.
فى جانبى الصحن من جهة الشرق والغرب أربع قاعات مستطيلة الشكل وقد سميت هذه القاعات بمشاهد للخلفاء الراشدين رضى الله عنهم. ففى الجهة الغربية يتوضع على يسار الباب الغربى مشهد عثمان بن عفان رضى الله عنه، وقد تحول هذا المشهد إلى قاعة الاستقبال الرسمية للجامع.
وعلى يمين الباب الغربى من جهة صحن الجامع يوجد مشهد أبوبكر الصديق رضى الله عنه. وفى الجهة الشرقية من صحن الجامع يوجد على يمين باب جيرون مشهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه والذى يضم متحف الجامع. وعلى يسار باب جيرون يوجد مشهد على بن أبى طالب رضى الله عنه والمشهد عبارة عن قاعة كبيرة، بحجم بقية القاعات إلا أنها تنفتح على قاعة أصغر منها تتضمن مقامًا لرأس سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم، ويُعتقد أن هذه الإضافة قد تمت فى العهد الفاطمى.
لقد تغيرت أسماء هذه المشاهد خلال العهود التاريخية، وقد استخدمت فى أغراض شتى، كقاعات للحكم، وقاعات للتدريس والصلاة والإجتماعات وخزائن للكتب والمستودعات.
ويتوضع حرم الجامع فى النصف الجنوبى من الجامع وفيه ضريح النبى يحيى، وبئر بجانبه عمودان رائعان، ويطل الحرم بواجهته الجميلة على صحن الجامع. تعلو الحرم قبة النسر بعظمتها لتزيد البناء فخامة وعظمة.
المصادر: الجزيرة – مواقع إلكترونية